|
|
|
أحمد الحبيشي -
تصاعدت حدة اعمال العنف و الجرائم الإرهابية التي شهدتها البلاد منذ بضعة أعوام ،ووصلت ذروتها باعلان توحيد جناحي تنظيم ( القاعدة ) الارهابي في اليمن والسعودية ضمن إطار موحد تحت مسمى تنظيم ( القاعدة ) في شبه جزيرة العرب ، الذي أعلن مسؤوليته عن جرائم ارهابية وقعت في البلدين الشقيقين خلال الشهور الأخيرة ، وصولاً الى نجاحه في استغلال الظروف الخطيرة التي تمر بها البلاد جراء الازمة السياسية الراهنة حيث تمكن هذا التنظيم من احتلال مدينتي زنجبار في محافظة ابين ، ماأدى الى وضع قضية محاصرة ثقافة العنف والتعصب في صدارة الهموم الوطنية ، لجهة رصد وتحليل الدوافع السياسية والعقائدية التي شكلت مرجعية فكرية للمتطرفين الذين إرتكبوا تلك الجرائم ، وسعوا لتبرير مشروعيتها إنطلاقاً من مفاهيم ذات لبوس ديني !
وبالنظر الى الأضرار السياسية والإقتصادية والأمنية والبيئية التي ألحقها الإرهاب ببلادنا ، وما زالت تداعياتها وآثارها تفرض ظلالا ً ثقيلة على حاضر النظام السياسي الديمقراطي والإقتصاد الوطني والسلام الإجتماعي ، وعلى علاقات اليمن بمحيطه الإقليمي والعالمي ، أصبحت مواجهة هذا الخطر مهمة وطنية تستلزم مواجهة ً شاملة ً من قبل الدولة والمجتمع ، بعيداً عن المكايدات السياسية والحسابات الضيقة .
صحيح ان ثمة تجاذبات حزبية وسياسية أحاطت بطرق تناول خطر ثقافة العنف على وعي وسلوك كل من يتأثر بهذه الثقافة التي تجسدت في أشكال مختلفة من التعبئة الخاطئة لضحاياها . بيد ان هذه الثقافة المشوهة لاتنحصر فقط في الخطاب السياسي الذي تورِّط فيه بعض رجال الدين والدعاة المشتغلين في الحقل السياسي . إذ ْ ان هؤلاء يمارسون نشاطا ً سياسيا ً وحزبياً بإمتياز، رغم محاولة التماهي مع مشروعية دينية لا تحظى بإجماع كافة قوى المجتمع المدني ، خصوصاً وإن الضالعين في توظيف الدين لأغراض سياسية بحتة ، يمارسونه من خلال أطر حزبية في ظل نظام ديمقراطي تعددي ، يتيح لكافة قوى المجتمع السياسية وفاعلياته الفكرية والثقافية فرص التمتع بكافة الحقوق الإنسانية والسياسية والمدنية التي يكفلها الدستور للمواطنين ، وفي مقدمتها حرية الصحافة والحق في تشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وإستخدام الآليات الديمقراطية للتعبير عن الأفكار والبرامج السياسية ، وتداول السلطة او المشاركة فيها سلميا ً من خلال الإنتخابات المباشرة والحرة التي تشارك فيها الأحزاب والتنظيمات السياسية والمنظمات غير الحكومية والمواطنون والمواطنات عموما ً .
ولمّا كان قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية يمنع قيام أي حزب او تنظيم سياسي على أساس الإدعاء بإحتكار تمثيل الدين أو الأمة أو الوطن ، إنطلاقا ًمن حرص المُشرَّع على سلامة الممارسة الديمقراطية ، ومراكمة المزيد من التقاليد والخبرات التي تصون مرجعية الأمة كمصدر للسلطة ، فإن أي إدعاء بإحتكار تمثيل الدين أو إستخدامه لممارسة وصاية غير مشروعة على الدولة والمجتمع ، يعد تجاوزا ً خطيراً للدستور الذي ينظم قواعد الممارسة السياسية ، وإنتهاكا ً خطيرا ًلمبادئ الديمقراطية وقيمها ، الأمر الذي يلحق ضررا ً بالأسس الدستورية للنظام السياسي القائم في البلاد ، ويفسح الطريق لزعزعة الوحدة الوطنية والسلام الإجتماعي والأمن والإستقرار .
وما من شك في ان مستقبل الديمقراطية الناشئة في اليمن يتوقف على مدى النجاح في إنضاج المزيد من شروط تطورها اللاحق ، عبر مراكمة خبرات وتقاليد تؤسس لثقافة سياسية ديمقراطية ، وتمحو من ذاكرة المجتمع رواسب الثقافة الشمولية الموروثة عن عهود الإستبداد والتسلط ، بما تنطوي عليه من نزعات إستبدادية تقوم على الإقصاء والإلغاء والتكفير والتخوين والزعم بإحتكار الحقيقة ، وعدم قبول الآخر ورفض التعايش معه ، الأمر الذي يفضي في نهاية المطاف الى تسويق مشروع إستبدادي غير قابل للتحقيق بالوسائل الديمقراطية ، ويبرر بالتالي العدوان عليها من خلال إستخدام العنف بوصفه الوسيلة الناجعة للإقصاء والإنفراد .
لا ريب في أن أطرافا ً سياسية بعينها تتحمل مسؤولية مباشرة عن الخطاب التكفيري التحريضي الذي أدّى الى إنتشار التطرف لدى بعض المنفعلين بهذا الخطاب ، وأنتج من بين صفوفهم بعض القتلة والمجرمين والانتحاريين القساة ، ممن تورطوا في إرتكاب جرائم إرهابية . بيد أن الأمانة التاريخية توجب الإشارة الى أن رواسب ثقافة العنف والتطرف ، وبقايا نزعات الإستبداد والإقصاء والإلغاء والإنفراد والأحادية ، ليست حكرا ً على طرف سياسي دون آخر ، وإن كان ثمة من لم يساعد نفسه بشكل خاص والمجتمع بشكل عام على التخلص من تلك الرواسب .
بوسعنا القول أن ثقافة الإستبداد في مجتمعنا اليمني والمجتمعات العربية إمتلكت أجهزتها المفاهيمية من خلال طبعات مختلفة للإيديولوجيا الشمولية التي إشتغل مثقفوها على أدوات وأطر تتسم بالإفراط في تبسيط الظواهر والوقائع والإشكاليات والتناقضات القائمة في بيئة الواقع ، والسعي الى إخضاعها للأطر الفكرية والأهداف السياسية للإيديولوجيات المتصارعة، بما هي منظومة جاهزة ونهائية من الأفكار والأهداف والرؤى والتصورات والآليات والتهويمات التي تسعى الى السيطرة على وعي وسلوك الناس ، وصياغة طريقة تفكيرهم وتشكيل مواقفهم وإستعداداتهم ونمط حياتهم على أساسها .
ولمّا كانت الآيديولوجيا سواء كانت ذات لبوس ديني أو قومي أو إشتراكي تنزع دائماً الى ممارسة الوصاية على الحقيقة والمعرفة ، إذ ْ تزعم بإحتكار الحقيقة وتسعى الى أدلجة المعرفة ، فإنها تُعطَّل في نهاية المطاف دور العقل كأداة للتفكير والتحليل،حين ترى العلة في الواقع لافي الأفكار والتهويمات التي تؤثرعلى طريقة فهم الواقع والتفاعل معه .. بمعنى فرض سلطة الصنم الإيديولوجي بصرف النظر عن لبوسه ، وما يترتب على ذلك من إفتقاد الموضوعية والعجز عن معرفة الواقع وإكتشاف الحقيقة !!
من نافل القول ان جميع القوى السياسية والتيارات الفكرية وبدون إستثناء توّرطت بأشكال ومستويات مختلفة في إنتاج ثقافة العنف والتعصب عبر تسويق مشاريع سياسية شمولية ذات نزعة إستبدادية وإلغائية أضاعت فرصا ً تاريخية لتطور المجتمع ، وأهدرت طاقات وإمكانات هائلة ، وخلقت جراحاً غائرة وطوابير من ضحايا الصراعات السياسية وأعمال العنف والحروب الأهلية والإغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية التي كان يتم تبريرها سياسيا ً وايديولوجيا ً سواء بذريعة الدفاع عن الوطن والثورة ، أو بذريعة مناهضة القوى الرجعية ، أو بذريعة حراسة الدين ومحاربة الكفر، بما في ذلك فكرة (( التترس )) الدخيلة على الإسلام ، والتي تجيز قتل المدنيين من الشيوخ والنساء والأطفال والشباب الذين يعيشون أو يتواجدون في محيط الطائفة المتتنعة ، ويوفرون لهذه الطائفة (( المرتدة )) فرصة التترس .. والمثير للدهشة ان الذين روجوا لهذه الفكرة الفاشية زعموا بأن ((العلماء أجمعوا على قتل هؤلاء المسلمين من أجل دحر الكفر عن دار الإسلام )) بدعوى أنهم سوف يبعثون يوم القيامة على نياتهم !!
لم يعد الإعلان عن قبول الديمقراطية كافيا لدمج أي طرف سياسي في العملية الديمقراطية ، ما لم يتم التخلص من الجمود العقائدي والتعصب للماضي القريب او البعيد ، والتوقف عن الهروب من الإعتراف بالأخطاء ومراجعة التجارب والأفكار والمواقف تبعا ً للمتغيرات التي تحدث في العالم الواقعي، وتستوجب بالضرورة تجديد طرائق التفكير والعمل ، والبحث عن أجوبة جديدة على الأسئلة التي تطرحها متغيرات الحياة ، وإبداع أفكار جديدة وتصورات وحلول مبتكرة للقضايا والإشكاليات التي تفرضها علينا تحولات العصر والحضارة ولا يمكن معالجتها بوسائل وأفكار قديمة وماضوية .
ولعل أهم ما تميز به الرئيس علي عبدالله صالح هو إدراكه منذ وقت مبكر خطورة الإنغلاق والتعصب والأحادية والجمود العقائدي والإقامة الدائمة خارج العصر .. وقد تجسدت في سلوكه السياسي ميولٌ واضحة للتسامح مع خصومه ومعارضيه ، والإنفتاح عليهم الأمر الذي إنعكس على تراكم وتطور خبرته القيادية الطليعية بفضل قدرته على المبادرة في مراجعة الصيغ المعيقة للتقدم ، وعدم التعاطي مع قوالب التفكير والعمل الجاهزة ، وقدرته على إجتراح المبادرات الجسورة ألأمر الذي شكل مساهمة فاعلة في تأسيس ثقافة سياسية جديدة تتجاوز ثقافة التعصب والإنغلاق والأحادية .
على هذا الطريق داب الأخ الرئيس في مناسبات عديدة على دعوة كافة القوى السياسية الى مراجعة أفكارها ومواقفها ، والمبادرة في تجديد مشاريعها والتخلص من رواسب الثقافة السياسية القديمة ، كما دعا في وقت مبكر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الى بناء إصطفاف وطني لمكافحة الإرهاب والتطرف .
وما من شك في أن تأكيد الرئيس على ضرورة نبذ ثقافة العنف والتعصب وإدانة التعبئة الخاطئة التي أفرزت جرائم ارهابية بذريعة حراسة الدين ومحاربة المرتدين ومحاربة الكفر وحماية الفضيلة ، كان من أبرز أسباب دعوته الى إقامة إصطفاف وطني لمكافحة الإرهاب والتطرف وحماية الوطن والمجتمع من مخاطرهما المدمرة .
يقينا ً أن ثقافة العنف والتعصب لا تنحصر في طرف سياسي بعينه أو طبعة محددة من طبعات الآيديولوجيا الشمولية التي عرفها المجال السياسي لمجتمعنا اليمني، بل تتجاوز ذلك بالنظر الى مفاعيلها المتنوعة في البيئة الفكرية والثقافية والتعليمية والإجتماعية التي تعاني من تشوهات لا تُحصى، بما في ذلك السيولة التي تتجسد في إنتشار وإستخدام السلاح تحت ذريعة المحافظة على العادات والتقاليد وحماية الخصوصية !! واللافت للنظر أنّ كثيرا من المؤيدين لتكتيك ( اللجوء إلى الشارع ) حرصوا على تجاهل التداعيات الخطيرة التي نجمت عن هذا التكتيك، وما ترتب عليه من مخاطر لا تهدد فقط السلم الأهلي والوحدة الوطنية، بل أنّها تمتد لتفتح الأبواب واسعة لدخول تيارات مختلفة من الداخل والخارج، وإحياء مشاريع ميتة دفنتها الحركة الوطنية اليمنية بنضالها وتضحياتها، وبالذات نضال وتضحيات أبناء الجنوب اليمني الذين تصدوا لمشروع ( الجنوب العربي ) عندما حاول الاستعمار البريطاني تمريره بهدف تطويق شعارات الاستقلال والوحدة اليمنية التي رفعتها الأحزاب والقوى السياسية الوطنية والنقابات العمالية ومنظمات الطلاب والشباب والنساء في منتصف الخمسينات، على إثر ظهور الطبقة العاملة اليمنية كقوة سياسية منظمة في نقابات، وانخراطها في العمل الوطني التحرري، حيث كان الهدف من هذا المشروع يتمحور حول سلب وطمس الهوية اليمنية للجنوب المحتل وتلفيق هوية بديلة ومزيفة بدلاً عنها.
وبالقدر ذاته لم ينكر هؤلاء مخاطر انفتاح تكتيك اللجوء إلى الشارع على كل الاحتمالات والكوارث التي تهدد بتمزيق وحدة الوطن وتماسك نسيجه الاجتماعي، وبضمنها مشروع (الجنوب العربي).. ومشروع (حضرموت التاريخية )، التي حرص الاستعمار على أن يحتفظ لها بكيان مستقل عن اتحاد الجنوبي العربي. لكن ذلك لا ينفي حقيقة ان بعض المؤيدين لتكتيك اللجوء الى الشارع يضطرون احيانا الى تناول هذه المخاطر بحياء شديد وبهروب إلى الخلف - وليس إلى الأمام وذلك من خلال التحذير مما يسمونه ((الانهيار وتسليم مستقبل اليمن للمجهول )) في إشارة تبريرية لتفاعل بعض اللاعبين السياسيين في حركة الشارع من المحسوبين على القوى الوطنية مع الخطاب المشبوه والشعارات الانفصالية التي تتحدث عن (الجنوب العربي) و(جنوبنا العربي) و( حضرموت التاريخية قبل الوحدة والشرعية) عبر بعض المسيرات والمقالات والمداخلات في بعض وسائل الإعلام المحلية والعربية على طريق التعاطي مع ما تسمى بالقضية الجنوبية التي كانت قبل قيام الثورة اليمنية 26 سبتمبر 14 اكتوبر ) عنواناً لثقافة سياسية استعمارية سلاطينية رجعية استهدفت طرح قضية الجنوب المحتل والتعامل معها من منظور جيوسياسي انعزالي يخرج مصير الجنوب اليمني وأهله من هويتهم الوطنية اليمنية، ويبعدهم عن مصيرهم المستند إلى حقائق التاريخ والجغرافيا ووحدة الأرض والإنسان والمصير.
ولما كانت الوحدة التي تحققت في الثاني والعشرين من مايو 1990م قد اقترنت بالديمقراطية كشرطٍ لحمايتها وترسيخها وتعميق مضمونها الوطني، فمن الطبيعي أن تتعرض الوحدة للخطر عند الخروج عن مبادئ وقواعد الممارسة الديمقراطية وعدم الاعتراف بنتائجها والسعي للانقلاب عليها عبر التهديد باللجوء إلى الشارع على نحو ما أعلنته أحزاب “اللقاء المشترك” فور إعلان فشلها في الانتخابات الرئاسية والمحلية لعام 2006م، وما فعلته بعد أقل من مرور عام على تلك الانتخابات من خلال تحريض الشارع ضد نتائج تلك الانتخابات التي شهد العالم بشفافيتها وتعدديتها وأبدى إعجابه بالروح التنافسية غير المسبوقة التي تميزت بها .
لا يختلف اثنان في أنّ فتنة 1994م والحرب التي رافقتها، ألحقت أضراراً بالحياة السياسية والوحدة الوطنية. لكن ذلك لا ينفي حقيقة أنْ المؤتمر الشعبي العام بقيادة الرئيس علي عبدالله صالح أدرك ضرورة إزالة آثار تلك الحرب وإغلاق ملفاتها بواسطة العديد من القرارات والإجراءات والمبادرات والتوجهات التي استهدفت إزالة معظم الآثار الناجمة عن تلك الحرب ومعالجة ما تبقى منها.
تأسيسا ً على ما تقدم يمكن القول بأن إجماع القوى السياسية على إدانة العنف والإرهاب والتطرف يجب أن يتحول من طور الخطاب السياسي والاعلامي الى مجال السياسات العملية، وبما من شأنه افساح الطريق لبناء إصطفاف وطني ضد هذا الخطر الماحق ، وصياغة إستراتيجية وطنية شاملة لتجفبف منابعه،وصولا ًالى بلورة مشروع وطني شامل لتحديث الدولة والمجتمع في مختلف ميادين السياسة والإقتصاد والثقافة والعلوم والإدارة والتعليم والإعلام على طريق الخروج من فجوة التخلف والإنقطاع عن إبداع الحضارة التي تهدد حاضرنا ومستقبلنا بأوخم العواقب . |
|
|
|
|
|
|
|
|
تعليق |
إرسل الخبر |
إطبع الخبر |
معجب بهذا الخبر |
انشر في فيسبوك |
انشر في تويتر |
|
|
|
|