موقع المؤتمر نت



موقع مايو نيوز



موقع معهد الميثاق


ارتفاع عدد الشهداء في غزة إلى 35456 - النواب يستمع لمذكرة بخصوص قانون شركة التعدين - مجلس النواب: قمة البحرين "مسرحية هزلية" - صنعاء.. توجيه رئاسي عاجل للحكومة - رئيس المؤتمر يعزي بوفاة الشيخ رشاد أبو أصبع - الثروة السمكية تحذر من مخالفة قرار "حظر الجمبري" - صنعاء.. حشد جماهيري كبير مع غزة ولا خطوط حمراء - إسقاط طائرة أمريكية في أجواء مأرب - بيان هـام صادر عن وزارة الإتصالات - أبو عبيدة: مستعدون لمعركة استنزاف طويلة -
مقالات
الجمعة, 04-مايو-2007
الميثاق نت - يظل الصراع مع الاتحاد السوفييتى والشيوعية عموما، خلال فترة الحرب الباردة، هو الخرافة الأولى المؤسسة للدولة الأمريكية الحديثة – وهى الدولة التى تختلف تماما وفى كثير من الوجوه، عن تلك التى كانت قائمة قبل الأربعينات من القرن الماضي. وقد انتهت الحرب الباردة بما وصف عموما فى الولايات المتحدة بمثابة الانتصار الحاسم، ليس  محمد البصيرى العكرمي* -
يظل الصراع مع الاتحاد السوفييتى والشيوعية عموما، خلال فترة الحرب الباردة، هو الخرافة الأولى المؤسسة للدولة الأمريكية الحديثة – وهى الدولة التى تختلف تماما وفى كثير من الوجوه، عن تلك التى كانت قائمة قبل الأربعينات من القرن الماضي. وقد انتهت الحرب الباردة بما وصف عموما فى الولايات المتحدة بمثابة الانتصار الحاسم، ليس فيما يتصل بسحق وهزيمة العدو واضمحلال إيديولوجيته فحسب، وإنما بتفكيك الاتحاد السوفييتى وزواله كدولة.. وما انفك أثر هذا الانتصار البين يتجلى فى كثير من أعراض السلوك المرضى لمؤسسة السياسة الأمريكية، بدءا بالانزلاق الأعمى فى دروب مذهبية لـ"رأسمالية الأتقياء" – أخلاقيا واقتصاديا على حد سواء - كخيار أقره "وفاق واشنطن" فى تسعينات القرن الماضي، إلى الاعتقاد شبه السائد كونيا، فى "عالم أحادى القطب" تهيمن عليه الولايات المتحدة بمفردها، ودون منازع. وقد عزز الانتصار فى الحرب الباردة فى أذهان معظم الأمريكيين، أوهاما أعمق تسبح فى لج من المشاعر القومية، وتجنح إلى الظن بحتمية الغلبة للقوة الأمريكية وأهدافها "الخيّرة"، وما كان لذلك من آثار انعكست فى مكابرتهم - رغم الإحساس بالخيبة إزاء الإخفاقات الواضحة – فى مغامرتى أفغانستان والعراق. وجون لويس غاديس هو نتاج حقيقى لهذه الإيديولوجيا القومية وللمؤسسة الإمبريالية التى تدعمها. ودعنا ننظر فى هذا القول من خلال تأريخه الموجز للحرب الباردة، إذ كتب قائلا "إن الأمريكيين ينفد صبرهم إزاء كل ما هو تراتبي، ويرتاحون للأشياء المرنة؛ وهم يرتابون بشدة فى الفكرة القائلة إن النظرية يجب أن تحدّد الممارسة الفعلية وليس العكس". وفى رأيه، فإن هذه الصفات هى التى جلبت النصر فى الحرب الباردة، وأدت إلى ولوج حقبة تاريخية لم يسبق لها مثيل، أخذت فيها الديمقراطية وعيشة الرغد والرفاه، تنتشران فى سائر أصقاع المعمورة. وكتاب غاديس يكتسب أهمية، ليس لأنه يسهم فى إثراء تفكيرنا بشأن الحرب الباردة، وإنما لأنه يقدم صورة عن الكيفية التى تنظر بها غالبية مكوّنات المؤسسة الأمريكية والفئات المتعلّمة فى البلاد، إلى ذلك الصراع؛ وفكرة زعامة أمريكا وانتصارها فيه ما انفكت تفعل فعلها فى تشكيل الطريقة التى يدرك بها الأمريكيون دور بلادهم فى هذا العالم، وما كان له حتى الآن من وقع هام فى الحرب على الإرهاب؛ ولعل كلا من إدارة بوش والغالبية فى زعامة الحزب الديمقراطي، قد استخلصتا بكثير من الدقة - الدروس الخاطئة من تجربة أمريكا أثناء الحرب الباردة. وينبغى لمؤرخى الأحداث شبه الرسمين ومن هم على شاكلتهم من مزخرفيها، أن ينالوا ولو قدرا من التأنيب. قصة الحرب الباردة غاديس يروى لنا عن دراية لا غبار عليها، قصة الحرب الباردة فى أوروبا وما اعتاد الألمان على تسميته "الجو الكبير" بين واشنطن وموسكو. فما يتحدث به عن الجانب السوفييتى يبدو صحيحا بما فيه الكفاية وبقدر ما يتعلق الأمر بسير الأحداث والوقائع. وعلى سبيل المثال، فإنه على غرار آخرين – يصحح الخرافة "المروّجة عمدا" عن كون غزو أفغانستان كان جزءا من استراتيجية عدوانية. ويبين أنه خلافا لذلك، كان لا يزيد على رد فعل دفاعى يرمى إلى حماية نظام موال مهدّد بالسقوط. ولكن وصف غاديس للسيرورة التى تحولت بها الولايات المتحدة نتيجة للحرب الباردة - وكيف أصبحت الآثار المشؤومة لذلك التحول، تنتاب وتقض مضاجع العالم باستمرار – هو وصف ينطوى على عيوب ونقائص فاحشة. فلو لم تؤبّد الحرب الباردة آثار الحرب العالمية الثانية، فإنه كان سيتعذر على الولايات المتحدة إنتاج نموذج على شاكلة ديك تشيني، لأن جملة المؤسسات الأمنية والسياسية وذات الصلة بأنشطة "البزنس" التى يمثلها، ما كانت لتوجد أصلا. "ومنذ خمسة عشر عاما - يقول أناتول ليفن الناقد الروسي، فى قراءة له لكتاب جون ل.غاديس – وكنت لا أزال صبيا يافعا وساذجا، ذهب بى الظن إلى أن نهاية الحرب الباردة سوف تسمح لنا، إن لم يكن بالخلاص من مؤسساتنا لفترة تلك الحرب، فعلى الأقل، التقليص من تأثيرها وآثارها، وأن من ذلك مثلا، أن تساعد تلك النهاية فى تغيير المواقف والأوضاع التى تمخضت عنها. ومما شجعنى على هذا التفكير – خلافا لتوقعات الجميع – هو انهيار الشيوعية فى نسختها السوفييتية، وما أعقبه من تفكك سلمى ومذهل للاتحاد السوفييتى نفسه. وقد راودنى الأمل أيضا فى أن تبادر المجتمعات الغربية إلى مراجعة سجلّ ماضيها، وتعترف بالجرائم الكثيرة والشنيعة، بل وغير الضرورية التى ارتكبتها بلدان الغرب، وتوظيف الخطاب المألوف فى مكافحة الشيوعية لتبرير ممارسة الاضطهاد. وتمنيت فوق هذا كله، ألا نرى تلك الجرائم تتكرر فى المستقبل. فكم كنت غبيا وأحمقا..!". إن غاديس نفسه هو نتاج خالص لمؤسسة الحرب الباردة التى غشيت فيها الخطوط الفاصلة بين الأكاديميين والبيروقراط وأوساط الإشهار والدعاية. وهو – أى غاديس – فى الوقت ذاته، قد تشكل فى خضم تلك الحرب، وأصبح هو نفسه فاعلا فى سيرورة التشكيل هذه لا محالة؛ وكتابه سوف يكون بمثابة الدليل الذى يسترشد به جيل كامل من الطلاب الأمريكيين الذين لا بد أن يستنسخوا بأمانة، ما ورد فيه من مسلّمات مريحة، ويغفلوا ما أغفله من حقائق أخرى ثابتة، لعله ما كان ينبغى تناسيها وتجاهلها. المذنب غاديس هذا مذنب فى ثلاث مسائل أهملها، ليس أى منها من الأمور العرضية أو العابرة الهينة، وجميعها ترتبط برغبة شعورية أو لا شعورية فى تبرئة ساحته من الذنب. فهو يتجاوز عن الزلات والآثام، ولا يبالى - على نحو مدهش – بمعاناة العالم الثالث خلال فترة الحرب الباردة؛ وهو لا يتمعن فى النتائج المستمرة بالنسبة للعالم وبالنسبة لسلوك الولايات المتحدة. فحسبه أنّ الحرب الباردة قد انتهت نهاية سعيدة؛ وأن العالم تقبّل الرأسمالية، و"التشهير بالأنظمة الديكتاتورية" و"عولمة الديمقراطية" بعناية ورعاية القيادة الخيرة ذات البر والإحسان التى هى القيادة الأمريكية. ولا تمثل طبيعة جل هذه الديمقراطيات الجديدة، والتجارب الحقيقية للشعوب التى تعيش فى ظلها، أية أهمية تذكر بالنسبة لغاديس، إلا بمقدار ما كانت تمثله الاشتراكية الإفريقية لدى المنظرين السوفييت زمن الشيوعية. وبالنتيجة، فإن غاديس لا يتطرق إلى أمريكا اللاتينية إلا لماما، ولا يتناول أفعال الولايات المتحدة هناك إلا كرد فعل "مشروع" على التوسع السوفييتي. وهو لا يشير إلى السلفادور من قريب أو بعيد. أما انقلاب جواتيمالا عام 1954، فيوصف بأنه مجرد هفوة، ولكنه لا يناقش الويلات الرهيبة التى أصابت سكان البلاد الأصليين وأجّجت الحروب الأهلية التى أعقبت ذلك الانقلاب المشؤوم. وإفريقيا أيضا لا تظهر إلا نادرا.. وينصب الانتقاد مرة أخرى على نزعة المغامرة لدى السوفييت "وعن صواب"، ولكن لا شيء يذكر عن مساندة ودعم الولايات المتحدة للأنظمة البغيضة والكارثية على شاكلة نظام موبوتو فى الزايير "سابقا". وغاديس يقر أو يسلم بأن الولايات المتحدة وجدت نفسها مرغمة على اتباع بعض الأساليب الكريهة، ولكن هذا يعامل كسقوط اضطرارى - بعيدا عن حالة البراءة النبيلة - كما لو أن التدخل فى أمريكا اللاتينية لا سوابق له فى تاريخ الولايات المتحدة. وغاديس الذى هو مستشار غير رسمى للرئيس جورج و. بوش، يرفض صراحة الخوض فى جذور الحرب الباردة من المعضلات المعاصرة - حتى عندما تتكشف واضحة جلية - دون غشاوة. ويجرى انتقاد الانقلاب الذى أطاح فى 1953 بحكومة محمد مصدق القومى العلماني، ولكن لا نقاش للنتائج الوخيمة التى أعقبت ذلك. ولعل ما هو أشد إيلاما من أى شيء آخر، إنما يتمثل فى تصور غاديس أن جمهوره الأمريكى من الصعب عليه تماما أن يتعرف حتى على آراء المعلقين والنقاد الأمريكيين البارزين – وربما يكون محقا فى ذلك. وهكذا – فهو يثنى على جورج كينان كمفكر ومهندس "لإستراتيجية الاحتواء" – ولكن فيما عدا إشارة عابرة إلى تحذير كينان من تنامى ظاهرة العمليات المتسترة، فإن غاديس يحجم عن ذكر خيبة أمله العميقة فى عسكرة تلك الإستراتيجية، وتنامى الهستيريا المناوئة للشيوعية فى الولايات المتحدة. وفوق ذلك كله، الصبغة "المسيحانية" - الخلاصية - للنزعة القومية الأمريكية. ويستظهر غاديس بحقيقة أنه فى حالة أسلوب أيزنهاور المعتد بنفسه، فإنه كان مفكرا استراتيجيا بعيد النظر أكثر مما أتيح له تحقيقه فى الواقع بصورة عامة؛ ولكنه - أى غاديس - لا يقول شيئا عن انشغال آيزنهاور بتدهور النظام الأمريكى الذى حدث بسبب وبفعل الحرب الباردة، ولا يورد أشهر عبارة تفوّه بها. وإنه لا يقل أهمية - بفضل غاديس وأمثاله – أن عددا كبيرا من الطلاب الأمريكيين عند سؤالهم عمن كان أول من حذر من "مركب الصناعة العسكرية"، يجيبون بالقول "ألم يكن هو أحد الشيوعيين؟". ويعود ذلك فى جانب ما، إلى امتناع مؤرخين من نوع غاديس، عن البحث بصفة جادة ومتعمقة فى التاريخ الأحدث عهدا لأمريكا، فى حين أن وطنهم يواجه مخاطر تكرار أخطائه السابقة وارتكاب جرائم أخرى بطرق وأساليب جديدة وأشد خطورة، وأوخم عواقب. كتاب آخر.. ورأى آخر... وفى كتاب آخر عن الحرب الباردة، من تأليف أود آرن ويستاد صدر فى بداية 2006، أى فى نفس الوقت الذى نشر فيه جون لويس غاديس كتابه الذى عرضنا له آنفا – فإن الدراسة التى يقدّمها ويستاد عن الصراع بين فرقاء الحرب الباردة وتأثيراته على العالم الثالث، ربما تعتبر أقل اجتذابا للقراء، ولكنها على النقيض من كتاب غاديس، فإن عمل ويستاد يجمع بين التحليل العميق والمتطور والرؤية النافذة فى أغوار دوافع وسلوك الفاعلين غير الغربيين من وجهة نظر تاريخية أصيلة ومتبصرة، ومن موقف متعاطف مع الضحايا فى شتى الجوانب. ولا شك فى أن نجاح ويستاد فى الغوص إلى أعماق الأرشيف السوفييتي، يعنى أن كتابه يسلط أضواء أقوى من أى تأليف آخر صدر بالانجليزية عن تفكير ودوافع القيادة السوفييتية ومستشاريها عندما يتعلق الأمر بالعالم الثالث. وفضلا عن ذلك كله، فإن ويستاد يسوق التشابه بين مقاربتى الأمريكيين والسوفييت فيما يتّصل بالعالم الثالث. فسياساتهم الاقتصادية والاجتماعية ربما كانت متباينة للغاية، ولكن الجانبين تقاسما اعتقادا يذهب إلى نماذج كونية للتقدم. وكان كلاهما مسكونا بهاجس التكنولوجيا، وبالحلول "العلمية" للمشاكل الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية والثقافية. وكما يوضح ويستاد، فإن الزعامة السوفييتية بقيادة بريجنيف توخت استراتيجيات متحفظة ودفاعية ضد الولايات المتحدة فى أوروبا، ولكنها بقيت ملتزمة بمساعدة الثورات الاشتراكية فى البلدان الأخرى، ليس كمسألة تتعلق بسياسة مناهضة أمريكا، وإنما انطلاقا من قناعات إيديولوجية. وحماستهم العقائدية كانت تعنى أن البلدين غالبا ما أخفقا فى القيام ببحوث جادة ومتعمّقة فى طبيعة المجتمعات التى كان كل منهما يسعى إلى تغييرها والهيمنة عليها. ومثلما لاحظ المعلق السوفييتى ديمترى فولسكى فى 1988، فإنه "قد حدث أكثر من مرة أن دولة إفريقية أو آسيوية ما، تبين أنها تختلف تماما عما كانت تصوره لنا وسائل إعلامنا الصحفية". وهذا درس مفاده أن الولايات المتحدة أيضا قد تلقت الدروس مرارا وتكرارا، ولكنها عجزت عن استيعابها وتمثلها. تفسيرات عنصرية فى كتاب ويستاد ميزة هامة، وهى الربط المتشابك الذى يقيمه بين مشاريع التحديث الأمريكية والسوفييتية، وبين العنصرية. ففى حين أكد النظامان على حقهما فى إملاء القيم والحلول على الشعوب التى يخيم عليها ظلام الجهل والتخلف فى العالم الثالث، فإن الاثنين زعما أيضا أن تلك الشعوب كانت قادرة على اعتناق تلك القيم، وبسرعة؛ ومن ثم، الانضمام إما إلى "المجموعة الاشتراكية" أو إلى "العالم الحر". غير أنه بسبب الأسلوب التبشيرى الكلاسيكي، فإن الجانبين اعتبرا حقائقهما من قبيل الأمور البديهية والمسلمات، وبرامجهما ذات نفع، وإحسانهما لا تشوبه شائبة؛ ولم يكن لديهما تفسير عقلانى يقدّمانه عندما تخفق مشاريعهما ويدير زبائنهما لهما ظهورهم. وفى هذه الحالات غالبا ما كان هناك انتقال سريع ومذهل باتجاه التفسيرات العنصرية. والآن، فإن المحافظين الجدد فى أمريكا يتداولون مناوبة بين الجدل القائل إن كل المجتمعات العربية تستطيع إنجاز تقدم سريع باتجاه الديمقراطية "وأن كل من ينكر هذا هو عنصري". وأن "العرب لا يفهمون إلا لغة القوة". وكما يبين ويستاد، فإن الاتحاد السوفييتى فى الخمسينات من القرن الماضي، كان سخيا للغاية فى المعونة التى ظل يمنحها للصين الشيوعية، ولا سيما منذ بداية تعافى الاتحاد السوفييتى من الآثار المدمرة للحرب العالمية الثانية. وعندما رفضت القيادة الصينية زعامة موسكو فى القضايا الدولية والوطنية، فإن القيادة السوفييتية لم تعثر على تفسير أفضل من الزعم بأن الصينيين كانوا يفتقرون إلى التفكير العقلانى الرصين، وأنهم غادرون "وشرقيون يملأ نفوسهم الحقد". وعلى نحو مشابه وفى التسعينات من القرن الماضي، فان المروّجين للثورة الرأسمالية الليبرالية الأمريكية فى روسيا، شهروا بكل من حسبوه شوفينيا "أى قوميا متعصبا"، قد يشير إلى التاريخ والثقافة بما يتعذر معه نجاح تلك الثورة على الأقل فى المدى القصير وحتى فى المدى المتوسط. واليوم، فإن الكثيرين من هؤلاء المروّجين السابقين يصفون الروس بعبارات أقرب ما تكون إلى العنصرية، وعلى أنهم أناس خانعون بطبعهم وإمبرياليون. ثم إن ويستاد يسد الفجوات التى فى كتاب غاديس. ففى حين يرى هذا الأخير سقوط الشيوعية بشكل مبالغ فيه – بمفردات الأدوار الشخصية للرئيس الأسبق رونالد ريغن ورئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر، وبانتصار الديمقراطية والرأسمالية الأمريكية، فإن ويستاد يشير إلى أنه على مدى عقد من الزمن قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، فإن قرار الشيوعيين الصينيين بالتخلى عن الاقتصاد الاشتراكى والانتقال إلى شكل من الرأسمالية هو الذى ظل يدفع بعض النخب الشيوعية الأخرى إلى السير فى هذا النهج. وغاديس لا يستطيع لفت الأنظار إلى هذا، لأنه لو فعل ذلك فسوف يكون بمثابة الاعتراف بثلاث حقائق مزعجة: إن شكل الرأسمالية التى تبنتها الصين مختلف جدا عن تلك التى فى الولايات المتحدة؛ وحتى الآن فإن الصين رفضت ولا تزال، الديمقراطية الأمريكية، وتمكنت بنجاح من الجمع بين الرأسمالية ونظام سياسى قومى استبدادي؛ والصين أيضا لم تصبح تابعا مستسلما يدور فى الفلك الأمريكي، وهو ما لا يزال ينظر إليه فى واشنطن وفى أوساط كثيرة، على أنه المسار "الطبيعى أو المألوف للدول الرأسمالية". ويبين ويستاد أن قرار غورباتشيف فى أواسط الثمانينات من القرن الماضي، بإعادة صياغة وتقليص الدور السوفييتى فى العالم الثالث بصورة جذرية، إنما كان نتيجة ليس فقط للوهن والضعف، وإنما جاء ذلك القرار بعدما أدركت القيادة السوفييتية مدى الوهن الذى أصاب الاتحاد، وبعد إقرارهم بهذه الحقيقة؛ ولكنهم ظلوا رغم ذلك واثقين بقدرتهم على منافسة الولايات المتحدة فى عدد لا بأس به من المجالات الحيوية البارزة. ثم إن النقد الموجّه لقرار غورباتشيف المذكور، كان يتعلق بخيبة الأمل الكبرى فى سجل الثورات المدعومة من السوفييت فى العالم الثالث. تعابير قداسية على مدى سنوات عديدة، دأب المحلّلون والصحفيون السوفييت على التنبيه إلى الهوة بين الخطاب السوفييتى وبين الواقع البائس للأنظمة "الاشتراكية" و"المحبة للسلام" فى أديس أبابا ولواندا وغيرهما، وسوء استخدامها للمعونة السوفييتية. واليوم، فإن هوة أخرى صارخة تفصل بين خطاب الولايات المتحدة وبين واقع "الأنظمة الديمقراطية" فى بغداد، وفى كابول وغيرهما. وفى 1987، كتب العالم السوفييتى المرموق رشيق أفاكوف "لقد أصبح عمليا من قبيل الشعائر والطقوس، استبدال مثل هذه التعابير القداسية بما يشبه تعابير "إنهم واجهوا صعوبات"، أو أن "عليهم التغلب على مقاومة رد الفعل الداخلى ونتائج الاستعمار"، وهكذا دواليك، من أجل التحليل الحقيقى للأزمات وللظواهر السلبية الأخرى الحاصلة فى البلدان ذات التوجه الاشتراكي". واليوم أيضا، فإن أنظمة الحكم الشغوفة والمولعة "بالحرية الأمريكية"، يقال عنها إنها تواجه "تحديات على طريق الديمقراطية"، وعليها "أن تتغلب على مقاومة الإرهابيين وأعداء الحرية الآخرين". وعلاوة على ذلك، وكما يشير ويستاد – ففى حين أثبتت الرأسمالية عموما أنها نموذج اقتصادى أرقى من الشيوعية، فإن الصياغات المتشددة "لوفاق واشنطن" الذى بشرت به الولايات المتحدة بل وفرضته فى لحظة انتصارها، قد أثبتت عجزها وحتى كارثيتها بالنسبة لمعظم بلدان العالم الثالث – بما فيها روسيا نفسها خلال السنوات التى أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي. وقد أقرّ غورباتشاف بحقائق الوهن السوفييتى وبإخفاق الدولة فى نشر نموذجها. وفى 1988، اقترح على ريغن أن يوقع الاتحاد السوفيتى مع الولايات المتحدة على تعهد مشترك، بعدم التدخّل فى شؤون البلدان الأخرى، وبعدم اللجوء إلى القوة لتسوية النزاعات، ولكن ريغن رفض ذلك. وكما يلاحظ ويستاد، فإن غوربتشيف فشل فى أن يرى أنه "لا يوجد رئيس أمريكى بوسعه التوقيع على اتفاق كهذا دون إعادة تقييم جوهرى لكامل مقاربة بلاده إزاء العالم الثالث، وأنه خلافا لشخصه – لا ريغن ولا بوش الأب، كانت لديه النية فى إجراء تغيير أساسى وعميق فى مقاربتهما". والآن وبعد ثمانية عشرة عاما، فإن أمريكا ربما أخذت تسير على خطى السوفييت لجهة افتقارها إلى القدرة على فرض إرادتها ونموذجها على القسم الأكبر من العالم. والولايات المتحدة هى الآن وبوضوح، أضحت أضعف من أن تحافظ على دورها فى الهيمنة العالمية، التى كانت لها. والنخب الأمريكية لم تعد تقبل دفع الضرائب بما غدا يؤثر سلبا فى الأساس الضريبى المالى للإمبراطورية؛ والاستقرار السياسى الداخلى والدعم الوطنى للمشروع الهيمني، إنما يستندان حتى الآن إلى طفرة استهلاكية تدفع الصين ثمنها؛ أما الدول الخاضعة للتبعية الأمريكية فهى تتهاوى؛ والقوات البرية الأمريكية باتت أضعف من أن تسيطر على جماعات من السكان الثائرين والمتمردين فى تلك الدول؛ وزيادة قدرة قواتها من خلال التجنيد العام، سوف تؤدى إلى انتفاضة داخلية ضد التكاليف الباهظة لمشروع الإمبراطورية، بل إن ذلك سيؤدى حتما إلى نهاية قريبة للإمبراطورية ذاتها. * كاتب ومترجم.. عن "العرب اونلاين"
أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
معجب بهذا الخبر
انشر في فيسبوك
انشر في تويتر
المزيد من "مقالات"

عناوين أخرى

الافتتاحية
ذكرى الصمود التاسعة..و صوابية مواقف المؤتمر
فريق ركن دكتور/ قاسم لبوزة- نائب رئيس المؤتمر الشعبي العام

حوارات
جريمة الرئاسة
مقالات
الوحدة لا تتحمل أوزار الموحّدين
أحمد الزبيري

فلسطين ستكون حُرَّة
يحيى الماوري

عالم يقاتل مقاومة..!!!
د. عبد الوهاب الروحاني

الحياة مِرآة كبيرة لأفعالنا
عبد السلام الدباء

شِلّني يادِرَيْوَلْ تِجَمّل !!
عبدالرحمن بجاش

حَبّيت الحديدة وأشتي أعيش فيها
منى صفوان

الوحدة اليمنية: تحديات وآفاق في ذكرى مرور 34 عاماً
عبدالله صالح الحاج

الأفعال والمواقف السياسية حول أحداث غزة
إبراهيم ناصر الجرفي

الجامعات الامريكية !!
د. طه حسين الروحاني

عن (المركزية الأوروبية).. الإنسان (السوبرمان) !!
محمد علي اللوزي

التعليم.. لا إفادة ولا إجادة !!
د. يحيى الخزان

جميع حقوق النشر محفوظة 2006-2024 لـ(الميثاق نت)