د/عبدالرحمن أحمد فرحان - في الجزء الأول من هذه القراءة التحليلية لعملية التغيير التي قادها وباقتدار الزعيم علي عبدالله صالح خلال العام 2011م ومطلع العام الماضي 2012م انتهينا إلى أنه من المفارقات أن الرئيس علي عبدالله صالح وصل لسدة الحكم في العام 1978م من أجل إطفاء نيران الحرب المستعرة وحقن دماء اليمنيين كان وقتاً عصيباً وكان فيه كرسي الرئاسة معروضاً وفر منه الجميع خوفاً على حياتهم.. وحمل الزعيم كفنه وتقدم مفتدى بروحه اليمن.. وبعد أن أعاد الامن والاستقرار وحقق المنجزات الوطنية الكبيرة وأبرزها إعادة تحقيق الوحدة والنهضة التنموية والحرية والديمقراطية.. وبعد أزمة 2011 نجد الزعيم تخلى عن السلطة طواعية مطلع العام 2012م حفاظاً على اليمن وحقناً لدماء أبناءه وفي وقت عصيب أيضاً، وقد خاطب الرئيس السابق أبناءه الشباب منذ بداية الأزمة بأن اليمن غير تونس ومصر وليبيا وسوريا ، فسَخِر منه من سَخِر واعتبروا ذلك أضغاث أحلام ومحاولة للتنصل من مصير قادة الأنظمة الحاكمة في تلك الدول، ووافقه على هذا الطرح من وافق ، ثم دعاهم لتشكيل حزب أو أحزاب جديدة ليسلم السلطة لمن ولدوا وترعرعوا وكبروا ونمو في عهده ولم يعرفوا أو يشهدوا لوطنهم رئيساً غيره ، لكن كل ذلك لم يكن مجدياً ولا مؤثراً فيهم .
فلما وجد أن الأحزاب التي تحمل تجاهه عداءً شخصياً والتفت على طموحات الشباب وآمالهم وتطلعاتهم بغدٍ أفضل وقفزت على ظهورهم واستلبت إرادتهم وكممت أفواههم وقطعت ألسنتهم وصادرت حرياتهم ، وصارت تدير ساحات اعتصامهم وتحتكر المنصات التي وُجدت للتعبير عن الرأي على من تشاء وتحجبها عمن تشاء ، لذا استلهم الرئيس / علي عبدالله صالح رغبة الشباب في التغيير فعمل على تحقيق مطالبهم بطريقة مخططة وممنهجة وديمقراطية ومن خلال دعوته لإجراء انتخابات رئاسية وانتخاب رئيس جديد للبلاد بتوافق وطني بين الأحزاب وكل أطياف المجتمع اليمني ، وهو ما عرضه وأعلن عنه في البدايات الأولى للأزمة ، فلم تجد دعوته استجابة أو آذاناً صاغية، فلجأ لعرض دعوته على الاشقاء والاصدقاء وصدق نواياه فكانت المبادرة الخليجية التي تم رفضها قبل وأثناء وبعد التوقيع عليها من أحزاب المشترك ، واتخذوا ممن تبقى من الشباب في ساحات الاعتصام حُجَة وعصا غليظة للتهديد والابتزاز كلما سارت الأمور على غير ما يرغبون.
وعقب التوقيع على المبادرة الخليجية وآليتها في المملكة العربية السعودية برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وعودة كل الأطراف السياسية الموقعة عليها إلى أرض الوطن تم تكليف الأستاذ/محمد سالم باسندوة بتشكيل حكومة الوفاق الوطني ، وخلال الأيام التالية للتكليف تم تقسيم الحقائب الوزارية إلى قائمتين (أ) و (ب) لتختار أحزاب اللقاء المشترك إحدى القائمتين ثم تقوم باختيار وتسمية المرشحين لشغل تلك الحقائب . ووقع اختيار أحزاب المشترك التي تتضمن حقائب الإعلام والمالية والتربية والتعليم والداخلية والكهرباء والمياه وغيرها، وعقب صدور القرار الرئاسي - الذي أصدره نائب رئيس الجمهورية - بتشكيل حكومة الوفاق الوطني وأداءها لليمين الدستورية أمام نائب الرئيس بدأت الحكومة بمباشرة مهامها وقدمت برنامجها لمجلس النواب ونالت بموجبه ثقة المجلس ، ومن اللافت أن أحزاب اللقاء المشترك اعترفت أخيراً بمشروعية مجلس النواب بعد أن ظلت لفترة من الزمن تطعن في مشروعيته ودستورية وجوده .
وتمت الدعوة للتهيئة لإجراء الانتخابات الرئاسية المبكرة في الـ21 من فبراير 2012م بمرشح توافقي واحد وفق نصوص المبادرة الخليجية هو عبدربه منصور هادي نائب رئيس الجمهورية حينذاك، هذا فيما حصل علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية حينها وأركان نظامه ممن عملوا معه طوال فترة حكمه لليمن على الحصانة ضد الملاحقة القانونية والقضائية وفقاً لقانون الحصانة الذي صادق عليه مجلس النواب بالإجماع وبحضور كامل لأعضاء المجلس من كل الكتل البرلمانية في مجلس النواب، وهنا تستوقفنا مفارقة أخرى حيث أن أحزاب اللقاء المشترك في الوقت الذي اعترفت فيه بمشروعية مجلس النواب حينما تم منح الثقة لحكومة الوفاق الوطني التي تشارك فيه بنسبة 50% ، فإنها ومن زاوية أخرى مازالت حتى اللحظة تمول وتحرك المسيرات بواسطة أياديها الخفية من خلف الستار والمطالبة بإسقاط الحصانة فقط عن رئيس الجمهورية السابق ، في حين أن قانون الحصانة يعتبر مدخلاً مهماً لمصالحة وطنية شاملة على امتداد التراب اليمني لأنه شمل منح الحصانة لكافة المنتمين للأحزاب الموجودة على الساحة والتي كانت بشكل أو بآخر جزءاً لا يتجزأ من النظام وشاركته في الحكم طوال الـ33 عاماً وبصورة يدركها الداخل والخارج .. وبالتالي فإنها شريكة في كل المثالب والعثرات والاختلالات والتهم التي تحاول تلك الأحزاب إلصاقها بالنظام وكأنها منها براء وهي إن صحت وثبتت شريك أصيل فيها.
وعقب منح مجلس النواب الثقة لحكومة الوفاق الوطني ، وموافقته على قانون الحصانة ، ظلت أنظار اليمنيين وقلوبهم وعقولهم وأفئدتهم مصوبة نحو نشاط اللجنة العليا للانتخابات يحدوهم الأمل في نجاح أعمالها والوصول بالبلاد الى يوم 21 فبراير 2012م ، تتقاذفهم التوجسات والهواجس بأن ذلك اليوم لن يأتي وأن أطرافاً سياسية لن تسمح بحلول ذلك اليوم وستعمل على افتعال المشاكل والأزمات للحيلولة دون وصول اليمن لذلك الاستحقاق الانتخابي الديمقراطي ، ومنعاً لكل بواعث القلق وعدم الطمأنينة في أوساط المواطنين التواقين للخروج من عنق الزجاجة وطي ملف الأزمة التي كادت أن تعصف بالبلاد والعباد والتهمت الأخضر واليابس وأنهكت الاقتصاد بشكل غير مسبوق في التاريخ اليمني الحديث، حينها فَضَّل الرئيس / علي عبدالله صالح الابتعاد عن ذلك المشهد، فغادر أرض الوطن في رحلة علاجية الى الولايات المتحدة الأمريكية ليفوت الفرصة على الرافضين للتسوية وعدم اعطائهم أية حجج أو ذرائع قد يستخدمونها لإفشال العملية الانتخابية، ومن جديد وللإنصاف لابد من التذكير إلى حقيقة بالغة الأهمية تتمثل في أنه لولا الخطابان اللذان تم بثهما عبر وسائل الإعلام الرسمية وتوجه من خلالهما الزعيم علي عبدالله صالح لأبناء الشعب اليمني كافة من مقر إقامته بالولايات المتحدة الأمريكية في الأسبوع الذي سبق التاريخ المحدد رسمياً لإجراء الانتخابات الرئاسية.. داعياً وحاثاً كل من له حق التصويت الانتخابي للمشاركة الإيجابية الفاعلة في إنجاح هذا العرس الديموقراطي ومنح أصواتهم للأخ عبدربه منصور هادي .. لما تدافع المواطنون من كل حدب وصوب للإدلاء بأصواتهم كون ولي الأمر قد دعا لذلك وحث عليه ، وكأني بهم يلبون آخر أمنية للرئيس/علي عبدالله صالح قبل أن يغادر سدة الحكم .
ولابد من الوقوف على الجدل الفكري الذي صاحب انتظار اليمانيون لهذا الاستحقاق الديموقراطي ، فقد حاولت عناصر أحزاب اللقاء المشترك التشكيك في جدوى وأهمية العملية الانتخابية برُمتها طالما أن المرشح واحد ، وعلت بعض الأصوات والهمهمات التي تطالب بتوفير الأموال المنفقة لهذا الغرض ، متباكين على فداحة ما آل إليه الوضع الاقتصادي في اليمن وأن مشاريع التنمية أولى بتوجيه تلك الأموال صوبها ، وعلت بعض المطالبات الممجوجة والخبيثة بانتخاب الرئيس الجديد لليمن عبر مجلسي النواب والشورى في جلسة مشتركة لهما ، أو من خلال اتفاق كافة الأطراف السياسية باعتبارهم وفق تأصيل ديني مدروس هم أهل الحل والعقد ويمكن الاكتفاء باتفاقهم وتوافقهم على اختيار ذلك المرشح التوافقي لرئاسة الجمهورية المنصوص عليه صراحةً في المبادرة الخليجية وآليتها المُزمنة ، وكل تلك الأطروحات الخبيثة والتي رددها البعض ببراءة أو بدون لم تكن سوى محاولة فاشلة لسلب الرئيس الجديد مشروعيته الشعبية الكاسحة المستمدة من كل أبناء اليمن على امتداد التراب الوطني من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب ومن أقصى الشرق الى أقصى الغرب ، ولو كُتب لتلك الدعوات النجاح لا قدر الله لكان رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي مستمداً شرعيته من عدد محدود جداً من المواطنين يمتلكون حق نزعها منه وبكل بساطة في أي لحظة يرون فيها أنه لم يعد يخدم مصالحهم الخاصة.
< أشرقت شمس يوم الثلاثاء 21 فبراير 2012م لتعلن للعالم أن في هذه البقعة الطاهرة من الكون بدأ اليمانيون يرسمون بأناملهم حدثاً فريداً في المحيط العربي يشكل وبجدارة براءة اختراع لا يضاهيها في العالمين براءة اختراع أخرى ، وكأنني بالرئيس/علي عبدالله صالح هو وبدون أدنى شك راعي ذلك العرس البهيج يطل بوجهه على كل مركز انتخابي مبتسماً جذِلاً وهو يرى اليمانيين قد احتشدوا فرادى وجماعات صوب كل مركز انتخابي لمنح أصواتهم لخياره الأول والأخير الذي أوجده هو في الساحة اليمنية فقبله لم يكن له وجود في قاموس اليمانيين في العصر الحديث على الأقل ، وهو (التداول السلمي للسلطة) ، وتسليم السلطة لأيدي أمينة آمنة وبطريقة ديمقراطية عبر الصندوق، كما أراد وخطط ورتب ونادى ، لقد كان ذلك اليوم العظيم ترجمةً عملية وتجسيداً فعلياً لفكر هذا القائد الإنسان .
وما أن غربت شمس ذلك اليوم حتى حبس اليمانيون أنفاسهم مجدداً مترقبين لنتائج مشاركتهم الفاعلة في ذلك العُرس العظيم . وكانت النتائج على قدر تلك الآمال المعقودة والطموحات المبتغاة وبشهادة دولية من المراقبين المحليين والإقليميين والدوليين الذين واكبوا ذلك العُرس لحظة بلحظة في ذلك اليوم الفريد .
وكان اليمانيون على موعد جديد مع عُرس جديد لكنه عُرس هو الآخر بمذاق خاص ونكهة مختلفة غير معهودة لديهم وفي وجدانهم من قبل ، عُرس اختلطت فيه الابتسامات بالدموع والحُزن بالسعادة ، وذلك في احتفال تسليم الرئيس السابق الرئاسة للرئيس المنتخب الجديد ومغادرته لدار الرئاسة متوجهاً صوب منزله ليعيش فيه ما شاء له الله من حياة - أطال الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية - . هذه اللوحة الأكثر من مبدعة وجميلة مازال بعض مرضى النفوس والمأزومين والمشوهين والمعتلِّين المخبولين عاجزين عن رؤيتها وتلمس مواضع الإبداع والجمال فيها ، فلأول مرة في التاريخ القديم والحديث وعلى امتداد الوطن العربي الكبير من المحيط الى الخليج يعود قائد عربي مسلم إلى منزله سليماً معافى محتفظاً بكامل التكريم والاحترام والتقدير من كل مواطنيه بعد أن قام بتسليم الرئاسة طواعية وبأسلوب حضاري غاية في الرقي للرئيس المنتخب الذي يليه . إذ تعودنا في الوطن العربي الكبير وعلى مر التاريخ بأن لا يصل الحاكم الجديد لسُدة الحكم إلا والحاكم السابق موسداً في قبره إما لوفاته الطبيعية أو غير الطبيعية باغتياله وتصفيته جسدياً عن طريق خصومه ومعارضيه.
أكاديمي بجامعة صنعاء
|