نجيب غلاب -
الأجدر بالمشترك في ظل الإشكاليات الراهنة التي يعاني منها الواقع ان يتعامل بعقلية متزنة متوافقة مع أهداف المشروع الوطني وقيم العيش المشترك، التي يشكل الدستور الإطار الأعلى الجامع لها، ويمثل الالتزام بالقوانين والنظم والمطالبة بتفعيلها أول الحاجات الضرورية الخادمة لقضايا الواقع. مشكلة المشترك أنه يمارس السياسية بطريقة غريبة فهو يرفع الشعارات الوطنية في صراعه السياسي، ولكنه عندما يتعامل مع قضايا الواقع فأنه ينتج سلوك يتناقض مع قيم ومبادئ وأهداف المشروع الوطني، ويمثل خطابه المأزوم القائم على التخوين والاتهام والنفي، وتحميل الحاكم أخطاء الواقع دون تقديم قراءة موضوعية للمشاكل، المقدمة التي تقوم عليها الأزمات الراهنة والتي بدأت تؤسس لمشاريع تخريبية تهدد الجميع وربما تقود الوطن نحو الخسران المبين. على أحزاب المعارضة أن تناضل على أرضية واضحة وان يكون اختلافها مع الحاكم على السياسات القادرة على تحقيق الغايات المتفق عليها، ومحاولة نقل الاختلاف إلى خانة الغايات من قبل البعض يعني فشل المعارضة، ومن الطبيعي أن يسبب الصراع من أجل الغايات قلق للحاكم إلا أن الخاسر في نهاية الأمر لن يكون إلا من يهدد منجزات الشعب العظيمة. نعم قد يدفع الشعب تضحيات لكنها تصبح هينة أمام غاياته. المسألة الثانية على المعارضة بكافة أحزابها ان تدرك ان هناك أهداف وغايات عظيمة لا يمكن تحقيقها دون تضحيات، قد يخسر فيها أفراد أو أحزاب أو جماعات، والتضحية مطلوبة من اغلب أعضاء المجتمع، لتحمل أعباء تحقيق الغايات، وعلى الأطراف كلها حاكم ومعارضة ان تعمل بطريقة تخدم الغاية، وان يعملوا جاهدين لوضع سياسات ناجعة وقادرة على الحد من المخاطر والتضحيات التي تصيب البعض. والعمل السياسي المناضل في إطار الاختلاف على السياسات من اجل تحقيق الغايات لابد ان يقوم على المحاجة العقلية والمعلومة الواضحة والأدلة والبراهين العقلية، أما النضال السياسي بعاطفة ثورية والمطالبة بتغييرات خيالية لا تحتملها ظروفنا، فان ذلك لا يؤسس للاختلاف على السياسات وإنما يؤسس لصراع على الغايات، والأخطر من ذلك ان تكون العاطفة الثورية المستخدمة في النضال السياسي هدفها توريط الآخر في أزمات بهدف تحقيق الغلبة والقهر وفرض الهيمنة والسيطرة على السلطة بآليات تتجاوز الدستور وتهدد السلم الاجتماعي. فالأحزاب عندما تسعى باتجاهات تركز على تعبئة الجمهور بخطاب عاطفي متحيز مبرئ للذات ومتحدي نابذ للآخر ورافض لشرعية وجوده، وفي ظل خطاب مأزوم فان الطرق السلمية تصبح مقدمات لنشر الفوضى فالعنف اللفظي والتلاعب بالقراءات المقدمة للواقع عندما تسيطر على المجال السياسي، فأن هذا يؤسس لاحقا للعنف، نتيجته تدمر الغايات والأهداف، وفي الأزمات غالبا ما يسيطر على الحراك السياسي أصحاب المشاريع الضيقة ومن يتعبدون في محراب المصالح الأنانية، والمشكلة العويصة ان يصبح الشرفاء واجهة لتحقيق غاياتهم. العمل السياسي للمعارضة حتى يكون فاعل وقوي عليه ان يحاصر العاطفة ويكبتها، ويطلق للعقل العنان، ولا عيب في التعامل مع الجماهير وفق تكتيكات تحريضية لتأييد السياسات التي تناضل من اجلها المعارضة، وتستخدم الكلمة المنطقية والمتحدية والغاضبة بحكمة ضد سياسات المنافس، على ان تظل قوة التحكم بالذات من الاندفاع والتهور أثناء الدفاع والتفنيد قادرة على ضبط إيقاع العمل السياسي من الاتجاه نحو تعبئة متحدية تعمل ضد الغايات المتفق عليها. ولعل الأزمة التي تعيشها اليمن خير دليل على ما أشرنا إليه آنفا، وفي تصوري أن الحوار هو الأكثر جدوى في مثل هذه الحالات، إلا أن بعض الأطراف في المعارضة تحاول تصوير هذه الحوارات أنها غير مجدية ونتائجها تقديم تنازلات للحاكم، وفقدان المعارضة لمكاسبها على مستوى الشارع، وهذا الطرح يحمل في مضمونه نزوع استبدادي ورغبة في استمرار التوتر وتفجير الحياة السياسية. أن اللقاءات الودية والشخصية بين الحاكم والمعارضة ضرورية وملحة حتى في الحالات التي يبلغ فيه صراع أعلى درجاته فهذه اللقاءات كفيلة بكبح جماح التطرف والتعصب لدى الطرفين. فالعمل السياسي الديمقراطي والمعقلن العاقل كما يشير دارسي الديمقراطي يقوم على النقاش والحوار وتصادم الآراء والمنافسة المحكومة بضوابط النظام والقانون والسلوك الحضاري الراقي، فاللقاءات الودية في المقيل أو في حفلات الغداء تقيمها المعارضة أو الحزب الحاكم تساعد على تفكيك المشاحنات والتعصب والغضب الذي قد يملئ النفس ضد الآخر أثناء الصراع السياسي السلمي. ويمثل الرئيس صالح حالة فريدة في مجاملة منافسيه ومنتقديه وعادة ما يلتقي أشخاص في المعارضة دعوات للغداء أو المقيل وغيرها من الدعوات التي تأخذ الطابع الشخصي وفي بعض الأحيان تأخذ طابع سياسي وفي هذه اللقاءات يتم التواصل بروح أخوية وعادة ما يكون اللقاءات ذات طابع ودي يتم تبادل حوارات عادية وبسيطة، وقد تأخذ طابع النقاشات والمحاورة السياسية في القضايا التي تهم الطرفين وهي في الغالب لا تهدف إلى زعزعة المواقف ولكن تبادل لوجهات نظر. هذه اللقاءات تعمل على محاصرة القوى المتطرفة وتخلق علاقات قادرة على إذابة الحواجز والوصول إلى تسويات تخدم العملية السياسية ومصالح الناس، والاتهامات المبتذلة الموجهة من القوى المتطرفة للقيادات الفكرية والثقافية والسياسية في المعارضة التي تتواصل مع الرئيس واتهامها بالتنازل عن رؤيتها وإنها أصبحت في الجيب تدل على الغباء السياسي وتعمل على تدمير شخصيات قوية وناضجة وداعمة لقوة المعارضة، هذه القيادات الوطنية في المعارضة أكثر إدراكا للواقع ومصالح البلاد والعباد من المتطرف الذي يسعي لتخريب الحوارات بتصريحات غبية لا قيمة لها، وهذه التصريحات النارية لا تدعم موقف المعارضة ولا تخيف الحاكم، ولكنها تسهم في إشعال النيران، وتشبع رغبة المتطرف في تصوير نفسه أنه أكثر وطنية ونقاءً وطهراً، وتساعده في تدعيم قوته السياسية لدى القوى الغاضبة والمتطرفة في المعارضة. لنفرض جدلا أن هذه اللقاءات غير مجدية من ناحية خدمة السياسات التي تدافع عنها المعارضة فأهميتها تكون في إزالة التوتر وتهدئة الأعصاب المشدودة، كما أنها تنعش روح التسامح وقبول الآخر وحق الاختلاف وتساعد على تفهم وجهات النظر، والحوار في نهاية الأمر لا يهدف إلى زعزعة الطرف الآخر عن مواقفه، ولكنه يهدف إلى البحث عن القيم المشتركة وتنميتها والتأسيس لفكرة قبول الآخر كقيمة أولية لا يمكن لحوار أن يقوم بدونها. أن الاعتقاد بان الآخر خاطئ وانه يمثل الشر، يجعل الاختلاف صارما ويقود إلى الصراع بوجهه القبيح، فالتعامل مع السياسة بعقلية الحبة أو الديك، يجعل من سلوك المعارضة خارج نطاق السياسة العقلانية القائمة على الحوار والنقاش والوصول إلى تسويات، والتسوية هي نتاج السياسة العقلية التي تعمل في ظلال غايات متفق عليها من قبل الجميع، وهي الداعمة للسلم الاجتماعي والمرسخة للثقافة الديمقراطية. أما من لديه مشاريع أخرى تتناقض مع غايات المشروع الوطني فانه لا يبحث عن تسويات ولكنه يسعى بكل طاقته لتحقيق مشروعه وفي هذه الحالة فانه يرفض الحوار ويعمل على إفشال الحوار أما من خلال تحريض الجماهير أو من خلال الدفاع عن قضايا متناقضة مع الغايات الوطنية أو من خلال اللجوء إلى قوى خارجية، أو من خلال خلق الأزمات، وهذا السلوك نتائجه تفجير قنابل العنف في كل اتجاه، أن تجاربنا السابقة وتجارب الشعوب الأخرى خير واعظ لمن أراد أن يُلقي السمع وهو شهيد.