مبارك حزام العسالي - لطالما امتلك الشعب اليمني رؤية وحدوية فريدة، تجسَّدت عبر تاريخه الطويل كبوصلة نحو مستقبل أفضل؛ هذه الرؤية لم تكن وليدة لحظة، بل تكرَّرت في محطات مفصلية من تاريخ اليمن الحديث، حاملةً آمالًا أوسع نحو بناء دولة حديثة وموحَّدة تقوم على أسس وطنية جامعة..
لقد راودت هذه الفكرة قادة وطنيين سعوا لتحويلها إلى واقع ملموس، وكادت أن تتجسد كبرنامج عمل وحدوي شامل؛ كما استلهمها قادة آخرون، رأوا فيها النواة الصلبة ليمن قوي ومزدهر، وباركها آخرون إيماناً بضرورة إطار جامع للعمل الوطني، ليشاء القدر أن تتحقق بعض جوانبها في عهد رئيس لاحق؛ بل إن قادة بارزين في أحد الأحزاب السياسية المؤثرة أشادوا علناً بفكر وطني جامع، معتبرين إياه أساساً لوحدة اليمنيين بتنوُّعهم..
لقد شاركت مختلف الأطياف السياسية والمجتمعية من الشمال والجنوب، بتوجهات فكرية متنوعة ومناطق جغرافية ومذاهب روحية متعددة، بشكل واسع في صياغة هذه الرؤية الوطنية الجامعة، التي كانت تهدف إلى إرساء دعائم مشترَكة لبناء الدولة..
عندما تَـبَـنَّى تحالف سياسي معارض خطاباً لإحداث تغيير في عام 2006م، كان بإمكانه تبنّي رؤية وطنية جامعة تحدد أهدافاً مشترَكة للمستقبل، بدلاً من تبنّي خطاب ربما قاد إلى تقويض الاستقرار والخروج عن الأسس الوطنية التي ارتضاها الجميع..
اليوم، وبعد مرور أعوام طويلة شهدت تحوُّلات وتحدّيات جسيمة، فاقمت الأوضاع بشكل كبير خاصةً في أعقاب أحداث 2011م وما تلاها من صراعات وتدخُّلات خارجية، والتي أثرت سلباً على النسيج الاجتماعي والوطني؛ فإن الأمل يحدونا أن يعترف الجميع بالمسئولية تجاه الشعب اليمني عن هذا الواقع المرير..
إن الاعتذار الصادق والعلني، خاصةً من الأطراف التي تحملت مسئولية قيادية في المراحل المختلفة، يمثّل خطوة ضرورية نحو تجاوز الماضي؛ وبعد هذا الاعتراف، يمكننا البدء بجدية في صياغة رؤية وطنية جديدة وشاملة، تستند إلى الواقع وتراعي الإمكانيات، مع تحقيق توازن بين الطموحات والقدرات، والاستفادة من التجارب التاريخية نحو بناء مستقبل أفضل لليمنيين..
إن الحاجة إلى مشروع وطني جامع اليوم تبدو أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، في ظل التمزق العميق الذي يهدد البلاد، ويجب أن يكون هذا المشروع نابعاً من إرادة شعبية خالصة، يعبّر عن تطلُّعات كل فئات المجتمع وأطيافه السياسية والاجتماعية، وينبغي أن يرتكز على قِيَم العدالة والمساواة والمواطَنة المتساوية، وأن يضمن الحقوق والحريات للجميع دون تمييز؛ كما يجب أن يضع أسساً واضحة لبناء دولة القانون والمؤسسات، قادرة على تحقيق التنمية المستديمة والرخاء لجميع أبنائها..
إن استلهام التجارب الإيجابية والتعلُّم من الأخطاء يمثل سبيلاً ضرورياً لتحقيق هذا الأمل؛ ومن هذا المنطلَق، يجب على النخب السياسية والاجتماعية أن تتحمل مسئوليتها التاريخية في هذه اللحظة، وأن تتجاوز الخلافات من أجل مصلحة الوطن..
إن بناء مشروع وطني جامع ليس مجرد خيار، بل ضرورة حتمية لإنقاذ اليمن وبناء مستقبل مشرق للأجيال القادمة..
فلنتحد جميعاً بصدق وإخلاص نحو تحقيق هذا الهدف النبيل، ولنجعل من هذا المشروع نقطة انطلاق حقيقية نحو يمن موحد ومستقر ومزدهر، يتجاوز جراح الماضي وينطلق نحو غد أفضل بمشاركة فاعلة من شبابه ومجتمعه..
إن إرادة الشعب اليمني قادرة على تحقيق المستحيل إذا ما توفَّرت القيادة الحكيمة والإرادة الصادقة والاعتراف بالأخطاء..
وختاماً، أجدّد التأكيد بأن الحل الحقيقي والنهائي في اليمن لن يتحقق إلا من خلال مشروع وطني جامع وشامل، يحتضن كافة أبناء اليمن بتنوُّع توجهاتهم السياسية والفكرية والمذهبية والمناطقية، مشروع يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ويؤسّس لدولة يمنية حديثة قوامها العدل والمساواة والتعددية والشراكة الحقيقية، مستلهماً من إرثنا المشترَك ومتجاوزاً أخطاء الماضي، ليضيئ لنا طريق الخلاص نحو يمن آمنٍ ومزدهر؛ وإدراك هذه الحقيقة، بأن المشروع الوطني الجامع هو الأساس المتين لأي دور إقليمي فعال ومستديم لليمن، يجب أن يكون حاضراً في أذهان الجميع..
فهل من صحوة ضمير حقيقية وإدراك عميق للمسئولية التاريخية؟..
وهل من إرادة صلبة لتحقيق هذا الأمل الذي طال انتظاره ودفع الشعب اليمني ثمناً باهظاً لتأخره؟..
نرجو ذلك، وننتظر أن يتحقق في القريب العاجل.
|