عبدالرحمن بجاش - ما أن انتشر الخبر بأنهم سيجرفون كل تلك المباني، حتى تهيَّأ الجميع امتثالاً لما تريده الدولة، فقد تربَّوا على طاعتها ولو على حساب مصلحتهم..
لقد تَقرَّر تحويل تلك المساحة أيام الرئيس علي عبد الله صالح إلى ميدان فسيح معالمه العرضي وجامع ومقبرة الشهداء ومدرسة المدفعية، على أن تُجرَف عمارة العاقل والمحضار، ليبقى باب اليمن أو ما كان يُسمى باب عدن، ومن ثَم سيُعاد السور الذي جُرِف ذات نهار أيام السلال وشكَّل عالَماً امتد من محطة العولقي حتى عمارة الرويشان وتحتها آخر دكان (( مستودع الأمل لبيع قطع غيار السيارات لسليمان شرف والحاج نعمان محمد غالب)) رحمهما الله..
ثمة سلسلة مطاعم للفول، تحديداً لعبدالملك خويلد، علي سيف قائد، محمد بن محمد قائد، الدب، وهناك استحوذ الدب على الإشارة الكاملة للمكان..
والدب كان يومها شاباً أسمر ممتلئ القامة بشميزه وفوطته، قوي البنية، والمشدة إن اضطر يوماً إلى نزعها عن رأسه بقيت الكوفية..
يا دب نص فول، يا دب واحد فاصوليا بالزيت.. ورغم أن الجميع ينزّل الطلبات إلا أن اسم الدب طغى على الجميع وصار يؤشر إلى فول باب اليمن ليلاً بفول الدب !!!
كانت صنعاء القديمة تحج شابة كل ليلة إلى دولة الدب، ودولته بمطاعمها الأربعة أو الخمسة يبدأ دوامها مغرب كل ليلة حتى يُشرق الفجر والصبح معاً على أصوات المسافرين على باصات الشركة اليمنية للنقل البرى وإلى كل الاتجاهات..
كان أصحاب الفول منكسرين بذكرياتهم وعلاقتهم بالناس قد قرروا أن يرحلوا، يتسلمون التعويض ويبحثون عن منافذ أخرى للرزق فهم لا يكلون ولا يتعبون، بل إن الدب قرر أن يستبق الأمر، وحتى لا يكون شاقاً عليه أن يترك دامعاً دولته أن يُغادر مبكراً، فقد غادر إلى قريته حاملاً أجمل الذكريات لليالٍ عرف فيها صنعاء التي كان يحلو ليلها، فترى أيضاً الخارجين من سينما بلقيس يتجه معظمهم إلى باب اليمن، وكذا من السينما الأهلية يتذوقون فول الدب وزيته ويذهبون..
لليل صنعاء جماله الأخَّاذ يوم أنْ كانت اللحظة آمنة.. وهنا أتذكر أنني إلى الآن لم أقرأ تحقيقاً أعجبني لصحفي يمني حتى لبجاش، سوى تحقيقٍ لحمود منصر ((صنعاء بعد منتصف الليل)) في صحيفة الوحدة، زار خلاله حتى مجانين تلك الفترة إلى لم يَخْلُ جنانهم من مغزى ما تداوله الناس.. صورة أخرى لجمال ليل عبدالمغني عندما كانت الرياح تأتي محمَّلة من الشرق ببعض الجراد فترى عشاق الليل يلاحقونها على أضواء الأعمدة على جانبي الشارع..
تراجعت الدولة عن توسيع الميدان، وأعاد الجميع ملابسهم إلى المساحات الخلفية للمطاعم، إلا الدب فقد عاد إلى قريته منكسراً حنقاً على علاقته بالناس فقط، وعلى رزق سينقطع وحتى اليوم..
وعاد الآخرون أخيراً تحت وطأة العمر إلى قريتهم حيث هم من قرية واحدة ((النباهنه كدرة قدس))..
لم يعد لباب اليمن طعم، ولا لليالي الفول وصباحاته إنْ كان موجوداً ذوق، وحتى صنعاء القديمة لم تعد تخرج في لياليها، بل تتدثر ببطانيتها منذ أن حل الغروب مبكراً..
أجمل ما في الامر أن الدب حَسَبها فوجد أن زمنه حان وقت مغادرته، وأن زمناً آخر تتشكل معالمه في الأفق، فغادر بروح رياضية لأن والده وكبار القرية كانوا يرددون أمامه ((ما حدش ياخذ زمنه وزمن غيره))..
لدولة الدب شمُّها وطعمها حتى اللحظة.. وللدب حضوره في الأذهان إلى يوم يبعثون..
لله الامر من قبل ومن بعد.
*من قديمه الجديد
|