د. طارق المنصوب -
الفساد كلمة شاع استخدامها في أوساط العامة والخاصة من أبناء مجتمعنا اليمني، وتناقلتها وسائل الإعلام دون تمحيص وتحديد حتى اختلط الحابل بالنابل، مما استعصى معه وضع حد فاصل بين ما يعد فساداً وما لا ليس كذلك، وهو يحتاج إلى كثير بيان وتفصيل.
فالفساد مفهوم يحيط بكل تفاصيل حياتنا اليومية الخاصة منها والعامة. ومنبع الخلط يأتي من كون هذا المفهوم متعدد الدلالات مترابط المظاهر والأبعاد؛ فهناك فساد أخلاقي، وفساد ثقافي، وسياسي، واقتصادي، وإداري، وهناك فساد فردي، وفساد جماعي، وغيره مما لا يتسع له هذا الحيز، ولذا سنقصر الحديث عن أحد مظاهر الفساد؛ أي الفساد الإداري الذي يرتبط بعلاقة وطيدة مع باقي المظاهر بوصفه سبباً رئيساً لها أو نتيجة مباشرة ناجمة عنها.
حيث يعرف «صموئيل هنتنجتون» صاحب نظرية صدام الحضارات المعروفة، الفساد الإداري بأنه: كل «سلوك منحرف للموظفين الحكوميين عن القواعد المقبولة لخدمة أهداف خاصة». ويذهب هنتنجتون إلى أن الفساد موجود في كافة المجتمعات، وهذا أمر تؤكده التقارير السنوية لمنظمة الشفافية الدولية، لكنه أكثر انتشاراً في بعض المجتمعات لتوافر بعض العوامل المساعدة على انتشاره، وبسبب غياب تنفيذ العقوبات الرادعة ضد ممارسيه ممن يثبت تورطهم في ارتكاب تلك الجريمة أو السلوك المنحرف. كما يشير هنتنجتون إلى أن الفساد أكثر انتشاراً في بعض مراحل تطور المجتمع مقارنة بالمراحل الأخرى، أي أنه يتزايد كلما اتجهت الدولة صوب الإصلاح والتحديث السياسي.
بداية نشير إلى أن هنتنجتون يفترض ومعه كثير من الباحثين أن الفساد يعني الانحراف عن قواعد السلوك البشري القويم في أي مجتمع وضمن أية ثقافة، والقواعد التي قصدها في تعريفه السابق قد تتمثل في قواعد الأخلاق التي تحددها المجتمعات لنفسها في فترة من الفترات، كما أنها قد تعني كافة الأعراف والممارسات والقواعد القانونية المنظمة لممارسة تلك الوظيفة بما فيها «قانون الوظيفة العامة» التي تمنح الموظف العام حقوقاً وتحدد له في المقابل التزامات وواجبات، كما نذهب إلى القول بأن القواعد المقبولة في مجتمعنا اليمني يدخل فيها - إلى جانب تلك القواعد السابقة - كل القواعد والالتزامات التي حددتها الشريعة الإسلامية، وكل القيم والأعراف التي رسخها مجتمعنا اليمني خلال المراحل المتتالية من تاريخه العريق؛ إذ لا يمكن في مجتمعنا اليمني عزل الممارسات المختلفة عن المحدد الأساسي أي الدين الإسلامي وقيمه وأوامره ونواهيه، وربما أن الخطأ الأكبر الذي يقع فيه بعض المحللين لواقع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في مجتمعنا هو تناسي الدور الذي يمكن للدين أن يلعبه على الدوام في تحديد تلك العلاقات، ونقصد الأصول والقواعد المرعية والخاصة بالمعاملات التي تحتاج منا اليوم إلى إعادة إحياء وليس إلى تناسيها والتغافل عنها.
ويشير أحد الباحثين، إلى أن للفساد كمصطلح معان عديدة، وهذا - برأيه - سبب اللبس الذي يحدث عند كثيرين، فهو يعني «سوء استخدام المنصب العام لغايات شخصية»، وتتضمن قائمة الفساد عنده العديد من المظاهر، منها: أخذ الرشوة، والابتزاز، واستغلال النفوذ والمحسوبية، والاحتيال، والاختلاس، واستغلال " مال التعجيل " وهو المال الذي يدفع للموظف الحكومي لتعجيل النظر في أمرٍ خاص يقع ضمن نطاق اختصاصهم لقضاء أمر معين. وهو يتفق مع هنتنجتون حول وجود «النية السيئة» لاستغلال المنصب العام أو الحكومي لأغراض بعيدة عن الغاية الحقيقية من وجود الموظف في ذاك المنصب، وأنه لولا هذه النية والاستغلال الخاطئ للوظيفة العامة لما كان للفساد وجود.
ومع أننا نتفق مع تلك الآراء وخاصة حول وجود النية السيئة والخبيثة لاستغلال النفوذ أو المنصب لأغراض شخصية، ومع أننا نعتقد أيضاً أن الموظف الحكومي أو المشتغل في الوظيفة العامة قد ينحو هذا المنحى طمعاً في تحقيق مكسبٍ شخصي أو إثراء سريع، إلا أننا نؤكد أن الفساد قد لا ينبع في جميع الأحوال من تلك الرغبة وإنما قد يندفع الموظف الحكومي إلى القيام بذلك السلوك الشائن بتأثير أطراف أخرى قد تكون من أفراد الأسرة والمقربين أو من المتعاملين معه من الخواص، كما أن الفساد قد لا يرتبط باختلاس المال العام أو السرقة بقدر ما يرتبط ببعض السلوكيات الشائنة المنافية للقواعد والسلوكيات والأعراف الإدارية المتبعة خدمة لأغراض شخصية أو أسرية، الأمر الذي يعني أن الفساد قد تكون عوامله المحركة خارج إطار العمل وتنتمي لمجالات خارجة عنه، ويعني أن الفساد وإن اختلفت آلياته أو تغطى بأغطية جديدة يبقى في الأخير فساداً، ويؤكد ما ذهبنا إليه في عنوان هذه التناولة من أن الفساد فيه .. وفيه.
- جامعة إب