د.عبدالرحمن الشامي -
سيبقى الوطن بخير، ونحن فيه كذلك، طالما بقي فيه الخيرون من أبنائه، يعملون لما فيه خيره، ويدرؤون عنه الشرور، ولن تخفق رايته يوماً، أو يخفت صوته، وفيه أسود في الجبال، يفدونه بالأنفس والأرواح، وعيون ساهرة على أمنه واستقراره في المنافذ البرية والبحرية، يضعون مصلحة هذا الوطن وأهله فوق كل ما عداها من المصالح الأخرى الضيقة،
رغم ضيق الحال، وقلة الحيلة، فالضمير الوطني الحي، واستشعار جسامة المسؤولية وأمانتها، تكسب أصحابها مناعة ضد كل المغريات، وتمنحهم قوة في مواجهة سائر التحديات.
مزيج من المشاعر المتضاربة المختلط بعضها في بعض تنتاب المرء، وهو يقرأ الخبر الوارد في إحدى الرسائل القصيرة، ولولا أنه آت من جهة رسمية لتسللت إلى النفس حالة من الشك، فالبضاعة مدمرة، ووسيلة تهريبها مبتكرة، وتنطوي على جرأة كبيرة في اقتراف الشر، وعدم التورع عن تدمير الآخرين، غير أن أعين رجال أمن مطار صنعاء كانت يقظة، نافذة إلى ما وراء أغلفة سخانات المياه التي احتوت على عدد يقرب من المليون حبة مخدرة، جلبها مدمر –وليس مستثمر- عربي معه، لإدخالها إلى البلاد، لأغراض تجارية تدميرية، فلنا أن نتخيل عدد الأفراد الذي كان من الممكن أن يقعوا ضحية لتعاطي هذه الحبوب المدمرة، لولا يقظة عيون هؤلاء الرجال، وضمائرهم الحية، واستشعارهم المسؤولية الوطنية، ليلقوا القبض على هذا المجرم، ويحولوا من دون دخول بضاعته الشريرة إلى البلاد..تضاف هذه الواقعة في سجل الشرف الوطني، وتضم إلى تلك التي قرأنا عنها الأسبوع الماضي، والمتمثلة في ضبط عدد من أفراد شرطة النجدة بصنعاء، لعصابة متخصصة بتهريب الآثار، ومعهم 16 قطعة أثرية ثمينة، مقاومين الإغراءات المادية التي عرضت عليهم، نظير تغاضيهم عن إتمام العملية، وغضهم الطرف عن مرورها، وتلك مسألة لم تكن لتكلفهم الكثير، في حين أنها ستكسبهم المال الوفير، غير أن ذممهم لم تكن للبيع، وضمائرهم لا تقبل المساومة عليها، وتراث وطنهم أغلى من كل الثروات، ولأجل هذا فهؤلاء وأمثالهم يستحقون منا كل التحية، وهي زاد المقل، فليتقبلوها منا، ونقول لهم شكراً لكم فقد أثبتم أن في هذا الوطن، أناساً رغم بساطتهم، وتواضع أحوالهم المعيشية، لكنهم يملكون نفوساً كبيرة، تستعصي على الوقوع في بؤر الفساد، وضمائر حية تمتنع عن الورود موارد الحرام.
قد لا تكون هاتان الواقعتان هما الوحيدتان من هذا النوع من الأعمال الوطنية الجليلة، وهناك غيرها الجديرة بضمها إلى لوحة الشرف الوطنية، ولكن لم يصل إلينا خبرها، أما المؤكد، والذي لا مجال فيه للشك، فهو امتلاء هذا الوطن بعدد من الشرفاء، المنتشرين في كل مواطن الواجب المدني والعسكري، يعملون في صمت من أجل مصلحة هذا البلد، ويحترقون لخير أبنائه ليل نهار، هذا هو الشيء الذي لا يجوز إنكاره، بمنطق الدين، وبحكم الأوطان التي تعلو أحكامها على كل الأحكام، وبتأييد وقائع التاريخ وحكاياته عبر الزمان، وفي كل مكان، ف«الخير في وفيَّ أمتي إلى يوم الدين»، هذا ما قاله نبي هذه الأمة ووعد به، وقوله حق، ووعده نافذ، لأنه «لا ينطق عن الهوى». ومن ثم فإن التهوين من أعمال الآخرين جحود، والتشكيك في ذممهم بهتان، وفي هاتين الواقعتين أبلغ الأدلة على ما نقوله، ونجزم به، ومنهما نستمد شيئاً من المقاومة لأصوات التشكيك والجحود الصارخة فينا ليل نهار، ممن لا يرون في هذا البلد، غير البقع الظلامية، ولا يعترفون له بمعروف، أو يشهدون له بإنجاز.
أما في ما يتعلق بشحنة السم وصاحبها، فيستغرب المرء، لأن تصبح اليمن واحدة من الدول المستهدفة لهذا النوع من الاتجار، وأن يصبح أبناؤها وبناتها هدفاً لهذه السموم المدمرة، التي ما وصلت بلداً، إلا ودمرت عدداً ممن هم في ريعان الشباب، ومقتبل العمر، فنحن في اليمن مبتلون بتعاطي القات، رغم علمنا جميعاً مؤيدين ومعارضين بأضراره العديدة على الأرض والزرع والمياه والصحة والأسرة والمال والإنسان وغيرهم، ولكننا نعترف بضعفنا أمامه، ومن ثم فنحن نغض الطرف عنه راضين عن ذلك، أو مرغمين عليه، ومن ثم فيكفينا الذي فينا، ونحن راضون بأخف الأضرار وأقلها، وليس هذا من باب المقارنة غير الواردة هنا..شيء آخر، تلفت هذه الواقعة أنظارنا إليه، وهو ما يتعلق بالاستثمار الذي تسعى بلادنا إلى الحصول عليه، كما تسعى إلى ذلك كل بلاد الدنيا الغنية منها والفقيرة على حد سواء، صحيح بأن هذه الشخصية تسيء إلى الإخوة الوافدين إلى بلادنا، لغرض العمل أو الاستثمار، أو غير ذلك من أنشطة الحياة المعيشية والاقتصادية، ولكن الإشكالية تبقى قائمة، وهي أن الاستثمارات التي يدعو إليها اليمن، ويفتح لها أبوابه، ويمنحها عددا من التسهيلات، هي تلك التي تفد إلى البلاد، لتشيد المصانع والعمران، وتؤسس المشاريع الكبيرة والصغيرة، التي تفتح فرص العمل لعدد من أبناء هذا الوطن، وليس إلى تجار «الشنطة»، أو أصحاب صفقات «السخانات» على غرار هذا المجرم، ولا إلى أولئك الذين كل استثمارهم يتمثل في تأجير «محل» كبير، أو «دكان» صغير، يديره وافدون، ويعمل فيه غيره اليمنيين، ممن لا نعرف إن كانوا دخلوا البلاد بطرق شرعية أم لا؟ وكل الاستثمار يتمثل في توزيع بضاعة من مستورد يمني، ومن ثم فأين الاستثمار هنا؟ تنبيه نتوجه به إلى وزارة الصناعة والتجارة، لتفعيل الضوابط الاستثمارية، وإلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، لتفعيل تراخيص العمل، ووضع الضوابط اللازمة لها، ففرص أعمالنا محدودة، ولا تتحمل أن يتنافس فيها أصحاب البلاد مع غيرهم من الوافدين، إلا وفق ضوابط صارمة، تعطي الأولوية لليد العاملة اليمنية، ليس هذا تعصباً، ولا نظرة عنصرية ضد أحد، ولكن هذا هو الحاصل في كل البلدان، حداً يصل إلى غير السماح لغير أهل البلاد بالعمل في غير المهن النوعية، بدءاً من درجة مستشار فأعلى.وفي الأخير، تبقى اليمن مصونة بعناية الله، ومحروسة بعيون أبنائها المخلصين، وناهضة بجهود سواعد العاملين في السراء والضراء.. لهؤلاء نرفع التحية، ولهم نعترف بالفضل، وبالعرفان ندين.