أ. د. طارق أحمد المنصوب - جامعة إب -
في عالم السياسة وخاصة في إطار العلاقات الدولية، كما يشاع لا يوجد صديق أو عدو دائم، وإنما توجد مصالح دائمة متغيرة ومتبدلة. حتى إن كثيراً من الدول اتخذت من مبدأ «المصلحة» - في بعدها المادي والاقتصادي تحديداً - أساساً للعمل الدبلوماسي إقليمياً ودولياً، وهذا حقها المشروع إن مورس دون الإخلال أو الانتقاص من حقوق ومصالح الآخرين في إطار صراع المصالح المتنافرة التي تعد سبباً من أسباب كثيرة لإثارة النزاعات بين الدول.
وتطبيقاً لهذا المبدأ «أي مبدأ المصلحة»، ظهرت تطبيقات عديدة له مثل: تقديم المساعدات والمنح والهبات الاقتصادية أو القروض دعماً للتنمية في الدول التي تربطها علاقات جيدة مع الدول التي تمتلك الموارد المالية والاقتصادية، وهي السياسات التي تستخدمها تلك الدول من أجل الحصول على موقف سياسي ما من الدول المدعومة برفض التصويت على قرار في إطار تنظيم دولي أو إقليمي أو التأييد لسياسات الدول الداعمة إزاء قضية معينة، وقد ظهرت مصطلحات عديدة ارتبطت بتلك السياسات، أشهرها مصطلح «دبلوماسية دفتر الشيكات»، أو ممارسة الضغوط الاقتصادية، وفرض سياسات الحصار والمقاطعة الاقتصادية وإغراق الأسواق بالبضائع المهربة، وافتعال الأزمات التموينية والغذائية والطاقية، وسحب الاستثمارات من الدول الرافضة أو المعادية وغير الصديقة.
وجرياً وراء تحقيق تلك المصالح سعت الدبلوماسية الدولية دوماً من أجل ربط العلاقات مع الدول الأخرى وعقد الاتفاقيات الدولية والإقليمية التي تضمن جني المكاسب المتبادلة الآنية والمستقبلية بين الدول المتعاقدة، والمتمثلة في الهبات والمنح والمساعدات والقروض تنموية التي تحصل عليها الدول الأقل نمواً، ومن أجل ضمان التزود بالطاقة النفطية والحصول على المواد الأولية وتجنب الأزمات التي تشهدها أسواق الطاقة العالمية للدول المتقدمة. وكثيراً ما يحتار المرء منا وهو يلحظ تغير مواقف كثير من السياسيين، وتبدل كثير من المواقف الدبلوماسية الدولية إزاء قضايا معينة، أو تغيير التحالفات جرياً وراء تحقيق تلك المصالح وتعظيم المكاسب الاقتصادية وغيرها.
واليوم صارت واحدة من أهم وأشهر قواعد التحليل السياسي التي تلقن للمبتدئين، هي القاعدة التي تقوم على البحث عن صاحب المصلحة الذي قد يقف وراء حدث سياسي ما بوصفه الجهة المستفيدة التي كانت وراء حدوث ذلك الحدث أو على الأقل ساهمت في حدوثه، حتى إن كانت لا تربطه علاقة بذلك الحدث. أو الحديث عن مصلحة ما ثاوية وراء كل موقف دبلوماسي لدولة معينة، حتى إن لم تكن المصلحة هي المحرك الفعلي وراء كثير من المواقف الدبلوماسية لتلك الدولة.
وبسبب هذا اختلطت الأمور وصار التمييز بين المواقف عصياً في كثير من الحالات، وهو ما يدفع المحلل السياسي إلى تحري الدقة ودارسة كل موقف على حدة لتمييز الدوافع الحقيقية التي حدت بذلك الطرف أو بتلك الدولة إلى اتخاذ ذلك الموقف، والامتناع عن اتخاذ مواقف أخرى في مناسبات أخرى، وهي المسألة التي أعتقد أنها ليست بالمهمة السهلة، في بيئة دولية تتسم بالديناميكية والتحول السريع وتبدل المواقف، وتغير السياسات، وتلاشي التحالفات وتغير أطرافها على نحو سريع للغاية، مما يصعب متابعته ودراسته دراسة متأنية.
في هذا الإطار، فإن الحرب العدوانية الأخيرة التي شنها الكيان المحتل ضد قطاع غزة ساهمت - إلى حد كبير وهذا أحد نتائجها الآنية - في وضع حدود واضحة بين الصديق والعدو، وميزت صاحب المبادئ عن الخبيث المتجرد منها، وأعادت رسم حدود المصالح وحددت معالم خارطة التحالفات الإستراتيجية في منطقتنا العربية ومحيطنا الإقليمي، وأظهرت حقيقة التحالفات الهشة التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الماضية، وهي التحالفات التي فرضت نفسها على بعض الأنظمة السياسية في المنطقة تنفيذاً لضغوط مورست عليها من هذا الطرف أو ذاك، ترافقت مع رغبة هذه الأطراف المشروع في تحقيق مصالح ومكاسب سياسية واقتصادية في الآجال الطويلة.
الموقف التركي من الحرب العدوانية التي شنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة، والتنديد والرفض الصريح لذلك السلوك العدواني، الذي عبرت عنه الدبلوماسية التركية بعيداً عن الكياسة الدبلوماسية والأساليب الإنشائية الفضفاضة التي منعت كثير من أنظمتنا العربية من التعبير بكيفية مماثلة ومباشرة عن مواقفها الرافضة لتلك الحرب. ثم انسحاب رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي من المؤتمر الاقتصادي المنعقد في «دافوس» بسويسرا، بعد نقاش عقيم مع رئيس الكيان الصهيوني «شيمون بيريز» حول الوضع في غزة بعد أن منع من الكلام تعقيباً على مداخلة الأخير. هذه التصرفات والسلوكيات التركية أثارت أسئلة عديدة في أوساط المراقبين والمحللين الذين وجدوا صعوبة في تفسير ما حدث بعيداً عن حسابات المصالح الضيقة والمكاسب الآنية لهذا الطرف أو ذاك.
فهل يرجع الأمر إلى مصلحة ما أو حنين قديم ورغبة تركية في العودة للعب دور ما في العالم العربي والإسلامي والمنطقة برمتها، كما يريد بعض الإعلام الغربي والعربي أن يوهمنا في كل مرة يرتفع فيها صوت في المنطقة رافضاً سياسات الدولة الصهيونية؟ إذا كان الأمر كذلك، فإننا لن نستطيع أن نفهم الموقف الفنزويلي، بعيداً عن حسابات المصالح والعداء لكل ما هو أمريكي، وإن كان هذا لا يغير من حقيقة أن ذلك الموقف بدا أكثر تفاعلاً مع مشاعرنا القومية، وأكثر تعاطفاً واستجابة لتلك المشاعر من كثير من أنظمتنا العربية التي رفضت حتى مجرد التفكير في قضية المقاطعة الدبلوماسية للكيان الصهيوني أو غلق سفاراته في عواصم تلك الدول، أو التهديد بذلك استجابة لنداءات الشارع العربي صاحب المصلحة الحقيقية في قطع تلك العلاقات. كما أننا لن نستطيع أن نفهم موقف دولة بوليفيا التي قامت هي الأخرى بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع دولة الكيان الصهيوني، وإبلاغ السفير الإسرائيلي غير المقيم بضرورة مغادرة الدولة فوراً؟ مع أنها لا تربطها بعالمنا العربي والإسلامي إلا علاقات أقل ما توصف به أنها عادية، إن لم نقل هامشية. كما أننا لن نستطيع أن نفهم كثيراً من مواقف الدعم والتأييد التي عبرت عنها شعوب العالم شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً تعاطفاً مع ضحايا العدوان البربري الذي شنته قوات الجيش الإسرائيلي على شعبنا العربي في غزة الصمود.
وإذا لم تكن المصلحة، فهل هي الرغبة في الانتقام لحالة الإبطاء والرفض التي جوبهت بها طلبات تركيا المتكررة من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟ أو هل يعود الأمر إلى طبيعة تكوين أردوغان وشخصيته المتأثرة بالقيم الإسلامية التي يتشبع بها؟ أم أنها الرغبة في الثأر لموقف التجاهل والمعاملة السيئة التي قوبل بها رئيس الوزراء التركي بمنعه عن الكلام، وهل للأمر علاقة بحدة الطباع التي جعلته يخرج عن طوره، ورغبته في فرض احترام كرامة بلده كما ورد في تصريحه لوسائل الإعلام؛ حيث قال: « .. لا يسعني الحفاظ على هدوئي أمام مسائل من هذا النوع، طباعي تمنعني من ذلك، من واجبي أن أفرض احترام كرامة بلدي». مؤكد أن موقف أردوغان أياً كانت العوامل التي تحكمت في اتخاذه لذلك الموقف، وهل كانت المصلحة، أو الثأر الشخصي ... أو خلافه ستبقى مواقف تاريخية لن تنساها ذاكرة الأجيال القادمة. ومن أجل تلك المواقف تستحق الدولة التركية اليوم أن تحتل موقعها الطبيعي بين دول العالم الإسلامي، وأن تكون وسيطاً بين الفرقاء الفلسطينيين من أجل لم الشمل ورأب الصدع، والاتجاه صوب المصالحة الوطنية التي تكفل للمقاومة الفلسطينية الاستمرار في جهودها من أجل تحقيق هدف نيل الاستقلال الوطني والتحرر من الاحتلال الإسرائيلي الغاصب، وعدم التفريط في خيار المقاومة الذي يعمل جنباً إلى جنب مع خيار التفاوض ويعززه، ويعطي للمفاوض الفلسطيني الدعم الذي يحتاجه لفرض خياراته وشروطه على طاولة المفاوضات والوقوف مع الكيان الصهيوني نداً قوياً يمتلك شروط المفاوضات.