الميثاق نت -

الثلاثاء, 11-أغسطس-2020
طه‮ ‬العامري‮ ‬ -
بيروت ليست مجرد عاصمة عربية فحسب ولكنها مدينة تختلف عن كل المدن؛ ولبيروت خصوصيات لا تتميز بها سوى بيروت وكما تشتم في شوارعها رائحة (الكافيار) والعطور الراقية؛ تشتم فيها أيضا رائحة (الكبة والمجدرة والمغربية) وفي أزقتها تشتم أيضا رائحة (العود والعنبر والطيب المتنوع الرائحة) وتشاهد فيها من يرتدي أزياء (إف سان لوران) والزي التقليدي اللبناني وكما تشاهد القبعات الكلاسيكية على رؤوس اثريا جونية وكسروان ترى أيضا العمامة الدرزية على رؤوس سكان الجبل كما هي العمامة (السوداء) على رؤوس سكان الجنوب وبعلبك الهرمل والضاحية‮ ‬دون‮ ‬أن‮ ‬تكتحل‮ ‬عيونك‮ ‬بطرابيش‮ ‬الزمن‮ ‬القديم‮ ‬على‮ ‬رؤوس‮ ‬سكان‮ ‬الضيع‮ .‬
في‮ ‬بيروت‮ ‬تقرأ‮ ‬على‮ ‬الأرصفة‮ ‬حكاية‮ ‬فؤاد‮ ‬شهاب‮ ‬وقصة‮ ‬كمال‮ ‬جنبلاط‮ ‬وأسطورة‮ ‬معروف‮ ‬سعد‮ ‬والتراتيل‮ ‬الحزينة‮ ‬للإمام‮ ‬موسى‮ ‬الصدر‮.‬
بيروت عنوان المجد وأيقونة الثورة وحديقة الثوار وقهوة الادباء والفلاسفة والمفكرين؛ على صدرها استراح غسان كنفاني وكمال عدوان وكمال ناصر وعلى صدرها لفظوا أنفاسهم الأخيرة؛ تجول بها الشهيد ياسر عرفات ومارس منها هوايته الثورية وجعل منها قبلة يؤمها ثوار وأحرار‮ ‬الأمة‮ ‬والعالم‮ ‬واستوطنها‮ ‬وديع‮ ‬حداد‮ ‬ورسي‮ ‬على‮ ‬شواطئها‮ ‬لوران‮ ‬كابيلا‮ ‬وتشي‮ ‬جيفارا؛‮ ‬ولأجلها‮ ‬زمجر‮ ‬ناصر‮ ‬العروبة‮ ‬حين‮ ‬سعت‮ (‬المارونية‮) ‬لتخلع‮ ‬عنها‮ ‬رداء‮ ‬العروبة‮.‬
بيروت مدينة استثنائية في سردية الفعل والحياة وهي تتماهى بمسيرتها مع زيتونة صفد والجليل وحيفا ويافا والخليل ورام الله وغزة والقدس وتل الربيع وتقاوم التجذر بالتطلع .. بيروت ليست مجرد مدينة عابرة في الذاكرة الوطنية والقومية ولكنها مدينة الحضور المتنوع والأفكار المتجددة إنها مدينة الحب والثورة وعاصمة الثقافة والفكر ؛ شيدتها أنامل فليسوف موسيقي ماهر ؛ ونسجت ألوانها بألوان الطيف فكانت عنوان الحياة وعنفوانها ؛ هي مدينة لا تموت وهي صورة مصغرة من أمتها ومن وطنها العربي الكبير الممتد من المحيط الى الخليج .. هي بغداد ودمشق‮ ‬والقاهرة‮ ‬والقدس‮ ‬ومراكش‮ ‬والجزائر‮ ‬وتونس‮ ‬وطرابلس‮ ‬الغرب‮ ‬وهي‮ ‬صنعاء‮ ‬وعمان‮ ‬والرياض‮ ‬وتونس‮ ‬وهي‮ ‬الصندوق‮ ‬الأسود‮ ‬للأمة‮ ‬وعاصمة‮ ‬الأسرار‮.‬
تنهض من تحت الأنقاض كطائر الفينييق وهي أسطورة العالم القديم والحديث والمعاصر ؛ هي عنوان التحولات وبوصلة المسار والمسيرة قيل عنها لفترة طويلة أن (قوتها في ضعفها) لكن بيروت لفظت هذه المقولة وقالت عن نفسها أن قوتها في (مقاومتها) وفي رفضها لكل شعارات الارتهان والاستسلام وكيف لمدينة ترعرع في ربوعها (جبران) و(الرحابنة وفيروز) وفي سهولها وهضابها وضيعها وأدغالها مرت أقدام الثوار نحو فلسطين ونزفت دماء أطهر من أنجبت بيروت ولبنان والأمة على سهولها والجبال دفاعا عن بيروت ولبنان وفلسطين وكل العرب حتى في زمن لم يعد يعرف فيه‮ ‬العرب‮ ‬أنفسهم‮ ‬وماذا‮ ‬يريدون‮ ‬؟‮ ‬وإلى‮ ‬أين‮ ‬يتجهون‮ ‬؟‮ ‬كانت‮ ‬بيروت‮ ‬ولاتزال‮ ‬تعرف‮ ‬ماذا‮ ‬تريد‮ ‬؟‮ ‬وإلى‮ ‬أين‮ ‬تتجه‮ ..!!‬
بيروت سر الأمة والوطن الكبير وحاضنة الاحلام الوطنية والقومية .. بيروت لم تختزل يوما بـ(شارع الحمراء وكازينو لبنان والكارلتينا) ولكن بيروت الجنوب وقلعة شقيف وملاحم تعددت اساطيرها بتعدد الحاجة القومية وغايتها ..بيروت ليس لها مثيل في الذاكرتين الوطنية والقومية‮ ‬أنها‮ ‬مدينة‮ ‬الملاحم‮ ‬والاساطير‮ ‬فملاحمها‮ ‬تجاوزت‮ (‬حطين‮) ‬واساطيرها‮ ‬فاقت‮ (‬جلجامش‮) ‬وحكايته‮ ‬تنسي‮ ‬قارئها‮ ‬حكاية‮ ‬ألف‮ ‬ليلة‮ ‬وليلة‮ ..!!‬
فماذا جرى في بيروت ؟ وماذا يجري ويعد لبيروت ؟ بيروت مدينة الحب والعشق والثورة والمقاومة والعنفوان والتحدي السرمدي للغربان القادمة نحو عبر هضاب وسهول صفد والجليل وتلال جبل الشيخ ؛ تلك الغربان التي كسرت بيروت اجنحتها وأجبرتها على السقوط من عليائها لتجرفها مياه الليطاني ؛ بيروت التي طهرت ترابها من آثار الاقدام الهمجية بدماء رشيد كرامي ودماء مقاوميها الاحرار ..هل تذكرون رشيد كرامي ؟ وهل تذكرون وتعرفون قاتليه ؟ لم تكن قطعا فاجعة اغتيال كرامي بحجم ما حدث يوم أمس الأول في مرفأ بيروت وشريانها الحيوي لكن بمقياس اللحظة‮ ‬الزمنية‮ ‬كان‮ ‬رحيل‮ ‬كرامي‮ ‬كارثة‮ ‬وتزداد‮ ‬الكارثة‮ ‬مع‮ ‬بقاء‮ ‬قاتله‮ ‬يطل‮ ‬بوجهه‮ ‬القبيح‮ ‬لتتكحل‮ ‬به‮ ‬ابصارنا‮ ‬آناء‮ ‬الليل‮ ‬وأطراف‮ ‬النهار‮.‬
فإذا ما رغبنا إدراك حقيقة ما جرى في مرفأ بيروت من حيث الأهداف والدوافع فعلينا أن نتأمل وجوه قتلة كرامي ومعروف سعد وإن تلونوا بحكم ظروف المرحلة الزمنية وتقلباتها ؛ ومع كل ما حدث ستنجو بيروت وسوف تنهض من جديد وبحلة أكثر بهاء مما كانت عليه وسترحل عنها ( العصافير‮ ‬المهجنة‮ ‬القادمة‮ ‬من‮ ‬اصلاب‮ ‬غربان‮ ‬صفد‮ ‬والجليل‮ ‬وجبل‮ ‬الشيخ‮ )..‬
وستتطهر بيروت وكل لبنان من الناقورة ومزارع شبعا وحتى المصنع وجرود عرسال الى آخر ميل في مياه المتوسط ؛ نعم فثمة رجال أشداء وأقدام راسخة تحرس أرزة بيروت المنحوتة على بيرقها الخفاق ؛ ولن تركع بيروت ولن تستسلم لقدرها بعد أن صارت هي صانعة الاقدار لمن فيها ولمن يتربص‮ ‬بأسوارها‮ ‬؛‮ ‬وستبقى‮ ‬فلسطين‮ ‬بقدسها‮ ‬وبحرها‮ ‬ونهرها‮ ‬حاضرة‮ ‬في‮ ‬تضاريس‮ ‬بيروت‮ ‬ومسارها‮ ‬ومسيرتها‮ ‬رغم‮ ‬أنف‮ (‬الغربان‮) ‬ومن‮ ‬ولدوا‮ ‬من‮ ‬أصلابهم‮ ‬لانهم‮ ‬عمل‮ ‬غير‮ ‬صالح‮..‬
فسلام عليك يا بيروت وبردا وسلاما وسكينة واستقراراً لكل ربوعك وفيافيك وتضاريسك وسمائك وستبقين محروسة برعاية الله وبرعاية الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ويسوع عليه السلام وستنهض بيروت من كبوتها لثقتي بقوتها وصمودها فهي عصية على الخنوع والركوع والاستسلام مهما تكالبت عليها قوى الشر .. أليست بيروت من تطهرت من رجس شارون وأدران المارونية السياسية المرتهنة ؟ أليست بيروت من اسقطت اسطورة الجيش الذي لا يقهر؟ أليست بيروت هي من فضحت (الميركافا) في وادي حديد الجنوبي حتى جعلتها محل سخرية العالم وتندره بعد أن كانت قد لقبت‮ ‬زورا‮ ‬بـ‮( ‬أسطورة‮ ‬الرب‮) ‬لكنها‮ ‬بيروت‮ ‬التي‮ ‬ليس‮ ‬هناك‮ ‬اسطورة‮ ‬في‮ ‬الكون‮ ‬تضاهيها‮ ‬أو‮ ‬تتماهي‮ ‬مع‮ ‬فلسفتها‮ ‬الحياتية‮.‬
سلام على بيروت والف تحية ؛ فما حدث لا يقتل بيروت التي لن تقتل ولن تموت بل بيروت هي من تقتل الحاقدين والفاسدين والخونة والعملاء وهذا ما سيكون فترقبوا لأن ما حدث لبيروت ليس شراً مطلقا مع ترحمنا للضحايا وتمنياتنا بالشفاء للجرحى.

تمت طباعة الخبر في: الثلاثاء, 16-أبريل-2024 الساعة: 08:18 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-58986.htm