أحمد الشرعبي - في محطات حياته الكثير من الشجن وفتون الجهاد في سبيل بناء الذات وإغداقها في خدمة الأهداف التي رسمها لنفسه وتوسمها لبلاده .
بدأ الحفر على مسند الكفاح بهدى الرعيل الاول من الأحرار وفي طليعتهم الشهيد علي عبدالمغني وحسين خيران وعلي الشيبه ومحمد مطهر زيد ..الخ
أما اذا علمنا أن مقدم (أوراق من ذكرياتي) صديق اثير وعالم لا نظير له وفيلسوف حداثة ومدرسة رقي الدكتور حسين عبدالله العمري فمعناه أن لهذه الأوراق شأناً ولذكريات كاتبها شئووناً .
استهل معتركاته الطويلة بدور في مسرحية ترفض المشروع الأمريكي آنذاك (سد الفراغ في الشرق الأوسط) على عهد الرئيس ايزنهاور..ويومها تتوافق الإرادات المتحررة من الارتهان ويلتقي الحاكم والشعب على الرفض ليبدو الأمر وكأنه حالة وعي طبيعي مبشر بإمكانية الانتصار لقضايا الأمة وبالمقدم منها التحرر من قبضة الاستعمار الجاثم على جزء حبيب من الوطن.
على أن هذا التصور لم يكن ممكناً الرهان عليه بحكم ظروف التخلف الذي يجسده النظام الامامي من انغلاق وجور وتخلف بحيث باتت المقارنة بين وضع صنعاء وشقاء المجتمع في أرجائها قياساً بما هي عليه عدن من تطور ونهوض تصب في صالح المستعمر الدخيل، لهذا وسواه لم تكن دروب الثوار معبدة بالسندس ولا مسالكها روض تتخللها الافياء ولكن الميزة التي جُبل عليها الشباب اليافع من الثوار شغفهم بالقراءة والتهام كل ما يقع تحت ايديهم من كتب ثقافية وسياسية وفلسفية وادبية .
وكان اللواء حسين المسوري أحد أولئك الشباب الذين اعتمدوا على التثقيف الذاتي لتنمية قدراتهم الذهنية ..وكما يحكي في مذكراته إذ هو قرأ لجواهر لآل نهرو (من السجن إلى الرئاسة) وجال عبر الأيام لطه حسين وتأمل في العبرات والنظرات للمنفلوطي وهكذا حتى تشكلت ذائقته المعرفية .
وجاء التحاقه بكلية الطيران ضمن 15 طالباً من زملائه بجهد أبوي نبيل من الفقيد الكبير المشير عبدالله السلال متزامناً مع الارهاصات الأولى للثورة وتفاعلاتها بين من يقوم بالتحضير لها من الضباط الأحرار وبطليعتهم عقلها المدبر الشهيد علي عبدالمغني ورفاقه جزيلان ومحمد مطهر والسكري وعبداللطيف ضيف الله وآخرون ومن يثير أسئلتها من الشباب المتوقدالادنى نضجاً.
انخرط المسوري في صفوف حركة الأحرار عبر الشهيد محمد مطهر زيد قائد جناح المدفعية وشارك في وضع النواة الجينية للجيش الوطني عبر ألوية (الثورة- الوحدة- العروبة- النصر) وخاض معاركها في أكثر من هضبة ووادٍ وجبل متوجاً تجربته الطويلة حينها بتسنم ذروة المسئولية عبر رئاسته هيئه الأركان العامة للقوات المسلحة .
ولقد جاشت ذكريات اللواء المسوري بالكثير من ملامح الحقبة الزمنية التي عاصرها خلال العقود الأولى من عمر الثورة وافرازات الصراع الذي دارت رحاه في معسكر الجمهوريين ومدى الأثر السلبي الذي نجم عن ذلك لصالح فلول الملكيين وكيف أن التنازع على الكراسي أوشك على إسقاط العاصمة صنعاء التي كادت الملكية تطرق أبوابها على حساب آمال وتضحيات الشعب اليمني العظيم.
وفيما سجل موثق الذكريات حضوره الفاعل على مسرح الأحداث ..وعلى حين كانت له في كل معمعة ظلال الا اننا نراه يتوارى عندما تصل الأمور إلى مفترق طرق .. يذكي ولا يصطلي ويخترق ولا يحترق .
وهو بين هذا وذاك لا ينسى حق الآخرين من الإشادة والثناء خاصة تجاه كبار ضباط الجيش المصري عمرو خالد ورياض السيد وإسماعيل الشريجي وكمال حسين وزير دفاع ورئيس وزراء جمهورية مصر بعيد خروج قواتها من اليمن .
بيد أن اشادته بهؤلاء القادة الأفذاذ لم تغفل نقد الجوانب السلبية التي شابت مجريات الشأن الداخلي المحض وإزاء ذلك يسوق الكاتب في معرض ذكرياته أمثلة عدة من التجاوزات التي ارتكبت بحق قادة وطنيين أمثال محمد الرعيني عضو مجلس قيادة الثورةوعلي محسن هارون وكلاهما أردي به قتلاً ظالماً دون جريرة غير الوشاية والتسرع والحمق .
ولئن كانت تلك الممارسات محل اعتراض المسوري وبعض رفاقه في الصف الجمهوري الا انه يعدها في موقع آخر من الذكريات نزقاً لا تستدعيه ضرورة .
بيد أن الذكريات وهي(صدى السنين الحاكي) تلفت انتباهنا الى السمة الغالبة في اداءات النسق الأول والثاني من قيادات الملحمة السبتمبرية وما كانت عليه من اختلال واعتلال وذلك ما استحق نقد المسوري كما كان محطة عتب واستهجان جمهور واسع من أبناء الشعب اليمني .
فالقاضي عبدالرحمن الارياني رئيس المجلس الجمهوري على خلاف مع رئيس وزرائه محسن العيني وكلاهما على اختلاف مع الفريق حسن العمري والقاضي عبدالله الحجري على خلاف مع الأستاذ النعمان والشيخ الاحمر يقاوم نشر دولة القانون بطريقته ..ومن البدهي في مثل هكذا حال ان تنشأ بؤر صراع تتغذى على انقسامات القادة وتستغرقها الايديولوجيات اليسارية والقومية والدينية فيغدوا الأمر جللاً يستدعي الفتنة ويقود إلى الاحتراب الداخلي المعزز بمخاتلات التخلف واعراضه وأمراضه .
مالا جدال فيه أن الصديق العزيز اللواء حسين المسوري صاحب سجل عريض وتجربة شاقة وحافلة وقد حالفه التوفيق في معظم المنعطفات التى مر بها وتوج حديثه عن الوحدة اليمنية وشذرات النضال في سبيل استعادتها ومشاركة القيادات الوطنية من أبناء المحافظات الجنوبية في مواقع قيادية لحكومات شمال الوطن بدءاً من الرئيس الشهيد قحطان الشعبي والمناضل الكبير حسين عشال والعميد عبدالله سبعة والأستاذ محمد سالم باسندوة وعبدالله الدرويش وعلي القفيش والاصنج، اقول انه توج حديثه حول الوحدة بالشجن المفعم بالوله .
كما جاء إنصافه للقاضي عبدالرحمن الارياني والدكتور حسن محمد مكي منسجماً مع ثنائه العطر على أساتذته ومجايليه ..ولكنه وقع مثل جواد شرود في كبوات لا أحسبه اختارها بمحض الرغبة أو بدافع الانتقام ..ففي حيوات كل منا مؤثرات غالبة تجبر الانسان على غير ما يرجو وتحمله على غير ما يريد!
وإني لأستميح الصديق العزيز عذراً بالتقاطع مع ذكرياته وما دونته في ثناياها من حيف في حق الشهيد القائد المقدم/ ابراهيم الحمدي .
لقد كان عهد الحمدي مؤتلقاً كالكواكب الزهر.. خضراً كالمروج.. بهياً كالاشواق.. ندياً كالجداول.. شفيفأ كالصباحات المطيرة ومثل اغتياله الغادر اغتيالاً بشعاً للسيادة الوطنية وعدواناً على الشعب اليمني ونيلاً دنيئاً من كرامته .. ولم تلطخ يد بعار اكثر من الأيادي التي قبلت على نفسها التورط بمؤامرة دنيئة كتلك التى ذهب ضحيتها ابراهيم وعبدالله محمد الحمدي .
وعلاوة على عثرة الجواد في تناول الشهيد الحمدي فإن عتباً لابد لي من إثارته فيمايتصل بالحديث عن الشهيد عبدالرقيب عبدالوهاب احد الرموز التي ذاقت مرارة الجحود وعصف بها طوفان الصراع العبثي المتخلف .
أقول هذا مستنداً لا الى ما سمعته عن الرجل أو قرأته ولكن بما دونه اللواء المسوري نفسه عن عبدالرقيب عبدالوهاب من سمات الشجاعة والتهذيب، وحسبنا وصف اللوا للشهيد بالقائد العسكري المميز .
وفيما عدا ذلك فإن وقفات مطولة أمام ذكريات اللواء لا شك سأقفها لاحقاً.. فما أكثر ما استلفتني فيها من دروس وما شوقني بها من عبر .
شاكراً للصديق العزيز كرم إهدائه ومدونة سجالاته.. وان كنت أعده واحداً من الثوار الأُباة الذين ايقظوا حولنا الذئاب وناموا- على حد رأي بصير اليمن وضميرها الأستاذ عبدالله البردوني رحمه الله..
|