إبراهيم ناصر الجرفي - * ما يحدث شحن واصطفاف وفرز مذهبي وطائفي في سوريا والعراق وبعض الدول العربية دفعني لكتابة هذه السطور ..
كم عانت ولا تزال تعاني وستظل تعاني المجتمعات البشرية من ظاهرة التعصبات بكل أنواعها، فالتعصب بشكل عام هو المعنى الحرفي لبذل كل الجهود والطاقات لمنع الآخرين من ممارسة حقوقهم وحرياتهم الإنسانية، وفي مقدمتها حرية العقيدة والمذهب والفكر والرأي، والتعصب هو الوجه القبيح للاستبداد والتوحش لفرض الرأي الواحد والفكر الواحد والدين الواحد والمذهب الواحد دون مراعاة لحقوق وحريات الآخرين، والتعصب هو النافذة التي يتسلل منها الشيطان لفتح أبواب الفتن والحروب والصراعات بين أفراد البيت الواحد والأسرة الواحدة والمجتمع الواحد، والتعصب هو الطريق الأمثل لصناعة الكراهية والبغضاء بين أبناء المجتمع الواحد والوطن الواحد والدين الواحد، والتعصب هو المنهج الأفضل لإباحة سفك الدماء وهتك الأعراض ونهب الممتلكات والأموال ومصادرة الحقوق والحريات، فالمتعصب وتحت تأثير تعصُّبه يفقد الكثير من عقلانيته وإنسانيته، ويتحول إلى وحش لا يتورع عن ممارسة كل صور الإجرام والإرهاب ضد المخالفين والمعارضين له، والتعصب بذلك هو السبب الرئيسي في تحويل حياة المجتمعات البشرية المنكوبة بظاهرة التعصب إلى كابوس مخيف ومرعب ..!!
ويظل التعصب الديني والمذهبي والطائفي هو أسوأ أنواع التعصب على الإطلاق، لأنه يحيط بالتعصب بهالة من المشروعية والتعظيم والتقديس، فهو يجعل المتعصب يظن أنه يمارس تعصُّبه باسم الله، ويسفك الدماء ويهتك الأعراض ويمارس الإجرام والإرهاب باسم الله ودفاعاً عن الدين أو المذهب، وهذا النوع من التعصبات ينزع عن الإنسان إنسانيته وينزع من قلبه كل صور الرحمة والتسامح، وهذا أمر طبيعي فهو يجعله يشعر أنه يقوم بالصواب وبما يجب عليه أن يقوم به، بل إنه يظن أنه يكسب الأجر والثواب والدرجات العليا وهو يمارس تلك الانتهاكات والجرائم الوحشية بحق الآخر الديني والمذهبي، لأن هذا النوع من التعصب يجعل المتعصب مغيب العقل والفكر والمنطق والوعي، فالتعصب هو ليس أكثر من عملية غسيل للأدمغة وبرمجتها بشكل جديد قد تكون مخالفة للفطرة الإنسانية السليمة الرافضة للعنف والإرهاب والقتل وسفك الدماء، والتعصب هو تصوير الدين الآخر والمذهب الآخر والفكر الآخر على أنه الشر المطلق، ومحاربته والقضاء عليه من أفضل الأعمال والأفعال التي تقرّب المتعصب إلى الله زلفى ..!!
وبذلك فإن إثارة التعصبات الدينية والمذهبية والطائفية هي اللعبة المفضَّلة عند أرباب الاستعمار والتوسع والهيمنة والسيطرة والسياسة والسلطة في كل زمان ومكان، فما لا تستطيع فعله في مجتمع مخالف لك بالقوة العسكرية، يمكنك فعله بكل سهولة عن طريق إثارة وتحريك التعصبات والنعرات الدينية والمذهبية والطائفية بين أفراد المجتمع أو الشعب المستهدَف، من أجل ذلك يجب أن تكون الأولوية هي لنشر الوعي بين أفراد المجتمعات عن خطر التعصبات وخصوصاً الدينية والمذهبية والطائفية، فالمجتمع المتعصب والمنقسم دينياً ومذهبياً وطائفياً هو مجتمع من السهل جداً اختراقه وتقسيمه وإثارة العنف والحرب بين أفراده، وأولى خطوات التوعية في هذا المجال هي تربية وتعليم الأجيال الناشئة على القبول بالتعدد والتنوع الديني والمذهبي كحق وحرية شخصية، وتربيتهم على التسامح والتعايش السلمي مع الآخر الديني والمذهبي..
وأنا أشاهد برنامجاً في إحدى القنوات الثقافية، يتحدث عن التنوع والتعدد الديني والمذهبي بين المسلمين والنصارى في إحدى البلدات الفلسطينية الواقعة تحت السيطرة الاسرائيلية وتُسمى الناصرة، أدركت على الفور روعة وعظمة القبول بالتعدد والتنوع، روعة التعايش السلمي والقبول بالآخر الديني، مع مراعاة واحترام الرابط المشترَك بينهم وهو رابط الأخوة العربية، فكم هو جميل مشاهدة النصارى العرب في هذه البلدة وهم يحترمون مشاعر المسلمين العرب وطقوسهم الدينية خلال شهر رمضان، بل لقد وصل الحال ببعض الأسر العربية النصرانية إلى مشاركة الأسر العربية المسلمة صيام بعض الأيام، والإفطار الجماعي معهم كأسرة واحدة، كتعبير عن المحبة والتعايش المجتمعي في أروع صوره، واحترام كل طرف لمشاعر ومقدسات الطرف الآخر، فالاختلاف في الدين والمذهب أمر وارد وطبيعي، وهو التجسيد الواقعي لقوله تعالى ((لا إكراه في الدين))..
إن مثل هذه المواقف الجميلة والرائعة والمؤثرة بين أسر عربية فلسطينية تدين بديانات مختلفة، هي التجسيد الحقيقي لبلوغ الوعي مراتب ودرجات عالية من الثقافة والمعرفة والنضوج، وهي التجسيد العملي لروح التسامح والتعايش والقبول بالتعدد والتنوع، وهي الصورة المشرقة لاحترام حقوق وحريات الآخرين، فإذا كان بالإمكان رسم صورة جميلة بهذا الشكل بين أفراد المجتمعات العربية من أتباع ديانات مختلفة، فإنه بالإمكان رسم صورة أكثر إشراقاً وجمالاً بين الأخوة العرب أتباع الدين الإسلامي المختلفين فقط في المذهب، وذلك إذا تم فهم التعدد والقبول بالآخر بشكل صحيح بعيداً عن صور الشحن المذهبي والطائفي، الذي يقوم بصناعة الكراهية والتباغض بين أتباع المذاهب والطوائف الإسلامية، والذي يقوض تكرار صناعة هكذا صور جمالية رائعة ومشرقة في بعض المجتمعات العربية الغارقة في مستنقع التعصبات المذهبية والطائفية، والتي تسببت في تفشّي ظاهرة العنف والارهاب والتشدد والتطرف، وصولاً إلى الصراع والاحتراب بين الاخوة العرب أتباع الدين الواحد والشركاء في الوطن الواحد..
وهكذا أوضاع سلبية وكارثية هي بدون شك نتيجة تدخلات قوى وأطراف خارجية، تحمل مشاريع توسعية واستعمارية تعمل على تأجيج وإثارة الفتن المذهبية والطائفية بين أبناء المجتمعات العربية المسلمة، عن طريق دعمها وتحريكها لبعض القوى المذهبية والطائفية، وهذا الدعم ليس حباً في تلك القوى والأطراف ولكن بهدف تحقيق مصالحها السياسية وأطماعها التوسعية، على حساب الدم العربي والأرض العربية والتآخي العربي، ولن تخرج المجتمعات العربية من براثن هذه الفتن والحروب والصراعات حتى يدركوا حقيقة المخططات التي تستهدف أمتهم ودينهم وأوطانهم ونسيجهم الاجتماعي، وحتى يرفضوا كل صور التدخلات والمشاريع الخارجية في شئونهم الداخلية، وحتى يرفضوا كل الجرائم التي ارتكبتها وترتكبها السلطات والجماعات الدينية والمذهبية والطائفية المتعصبة سابقاً وحاضراً ومستقبلاً في كل مكان في الدول والمناطق العربية دون انتقائية ودون تحيُّز.
|