الميثاق نت -

الثلاثاء, 22-أبريل-2025
حسن نعيم* -
ما هي الإنسانية؟! ماذا نفعل لنحافظ على الإنسانية

بحيث تحمل مدلولاً مُعيَّناً وليس آخر؟ كيف يمكن أن تكون إنساناً في مواجهة العنف والقسوة الخيالية، ماذا يحدث للأشخاص الذين يتعرّضون لهذا الكمّ من العنف والتهشيم؟ وكيف يمكنهم أن يستمرّوا في ممارسة حياتهم الطبيعية وهم يحملون كلّ هذا الانكسار الداخلي من جرَّاء العنف الذي تعرَّضوا له؟

ما هو المعيار الأخلاقي العامّ للأفراد؟ لماذا نجد جمهوراً لا ينتفض أمام إمكانية حدوث أفعال بشرية مثل السلب والقتل والاغتصاب؟.. وفي المقابل لماذا يظهر جمهور آخر شجاعةً وإيثاراً في مواجهة هذه الأفعال؟

وكيف يمكن للتهويل - الذي يحدث بصورة طبيعية - أن يجعل أفعالاً بشرية، كالسلب والقتل والاغتصاب، أعمالاً مقبولة؟

هذه الأسئلة تثيرها رواية "أفعال بشرية" لهان كانغ الحائزة على جائزة نوبل عام 2024م والصادرة حديثاً عن دار التنوير بعد أن نقلها إلى العربية محمد نجيب..

تشتقّ هان كانغ أسئلتها من سرديات رواياتها "أفعال

بشرية" التي تروي على طريقتها الحدث الأكثر أهمية في تاريخ كوريا الجنوبية وهو انتفاضة الطلبة عام 1980م التي شكّلت ملامح هذا البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية..

في صبيحة يوم 18 مايو، انطلقت في مدينة غوانغجو التظاهرات وخرجت الحركة الطلابية معترضةً على الدكتاتورية العسكرية وقانون الطوارئ المفروض على البلاد، مطالبةً بالإصلاح وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وسرعان ما انضمّ إلى هذه الحركة الاحتجاجية العمال وأصحاب المهن في المدينة، فتصدّت قوات مكافحة الشغب لهذه التظاهرات، لكنّ الشرطة عجزت عن التصدّي لهذا الطوفان البشري، فاستعانت بوحدات من الجيش، عمدت هذه الوحدات إلى سحق الانتفاضة في صباح 27 مايو، بعد أن استخدمت في مواجهتها أقسى أساليب العنف والقمع الوحشي..


10 أيام هو عمر الانتفاضة كانت كفيلة بأن تملأ الشوارع بالجثث والسجون والمعتقلين الأمر الذي

استندت إليه الرواية لتسرد أحداثاً حقيقية جرت وقائعها الدموية في ثمانينيات القرن الماضي، وتسجّل وقائعها منذ اندلاع شرارتها الأولى وحتى نجاح الجيش في قمعها بعد إطلاق النار على طلاب جامعة جيونام..

"إفرازات مائية، وصديد لزج، ولعاب عفن، ودماء، ودموع، ومخاط، وبَوْل وبراز يلطّخ أسفل بنطلوني، هذا هو كلّ ما أملكه الآن، لا، بل هذا ما تقلّصت ذاتي إليه، لست سوى مجموع تلك الأشياء، لم أكن سوى كتلة من لحم عفن تنزّ تلك الأشياء منها، حتى الآن أجد الصيف صعب الاحتمال، حالما أتصبّب بأنهار العرق على صدري وبطني، وتلسعني مثل عضّات حشرة، يداهمني من جديد فجأة شعورٌ بأنني لست سوى كتلة لحم، الشعور نفسه من دون أيّ تغيير، حينها تتوقّف الحياة..."..

الرواية مرثية حزينة عن الانتفاضة، تصوّر مشاهد مؤلمة من قلب الحدث مشاهد طافحة بالجثث ورائحة الموت والوجوه الممزّقة والأكتاف المخلوعة والنهود المتحلّلة، ووصف تفصيلي لمراسم التأبين ودفن الجثث المتكوّمة والملفوفة في الأكفان القطنية والتوابيت والشموع على رخام القبور المظلمة..


"عندما خرجت أون سوك أخيراً من مخبئها في القبو مساء اليوم التالي، أخبرتها أمها أنّ جثث القتلى قد نُقِلت بواسطة شاحنات قمامة المدينة إلى مقبرة جماعية، ليس فقط الجثث الملقاة أمام النافورة بل حتى الجثث التي لم يتعرَّف أحد إلى هويتها، والجثث التي كانت في قاعة الرياضة كلّها تمّ التخلّص منها"..

من دون الوقوع في فخ السرد التاريخي المملّ تقول لنا هان كانغ في"أفعال بشرية": إنّ البشر هم أكثر أنواع الوحوش قسوةً ودمويةً وإنّ البربرية سمة من سمات الطبيعة البشرية، وذلك عبر 6 شخصيات تتناوب على السرد، عبر خط زمني يمتد لعشر سنوات من عام 1980م وحتى عام 2013م، كلّ واحدة من هذه الشخصيات تروي برهافة واقتصاد لغوي قصتها الشخصية في فصل من فصول الرواية، وما يميّز سرديات هذه القصص أنها شخصيّة في معاناتها، عالمية في إنسانيتها تنطلق من الخاص المحلي إلى المشترك الإنساني العالمي..

تُصوّر لنا صاحبة نوبل هان كانغ في روايتها "أفعال

بشرية"، كيف تفضي آلة العنف الرهيبة إلى تدمير العلاقات الإنسانية بين أبناء البلد الواحد والشعب الواحد والتاريخ الواحد، وكيف يكون مصير هذه الآلة العنيفة هو الزوال والاضمحلال وأنّ عودة اللُّحمة إلى أبناء الشعب هي الردّ الحقيقي على الأنظمة الاستبدادية التي بالغت في سياسة إدارة الظهر لطموحات شعبها في الحرية والعزة والكرامة الوطنية..

انتصار الشعب الكوري الجنوبي على جلّاديه -وإنْ جاء متأخّراً (10سنوات)- فإنه انطوى على تصحيح لحركة التاريخ في ذلك البلد وصنّفه ضمن مجموعة النمور الآسيوية التي قفزت قفزات واسعة نحو التطوّر والحداثة والتنمية البشرية..

لكنّ تلك السنوات العشر لم تكن كافية كي يبرأ أبطال" أفعال بشرية" من ندبات وجروح آلة البطش الفتّاكة، وكي يتعرّفوا إلى أنفسهم بعد ذلك الكابوس الرهيب ويبدأوا في البحث عن معنى لحياة يحكمها العبث واللامعنى، وكي يكتشفوا "صعوبة أن تكون إنساناً وشقاء أن تكون ناجياً"..

وإذا كانت لغة هان كانغ الشعرية المكثّفة قد فضحت مقدار الرعب الذي تحمله الآلة الوحشية للأنظمة الاستبدادية، فإنها في الوقت عينه، أظهرت الصمود والتلاحم بين أبناء الشعب من طلاب وعمال وأصحاب مهن في مواجهتها، وحوّلت الجروح المؤلمة لتلك المواجهات إلى أدب عظيم قطف جائزة نوبل عام 2024م بكلّ جدارة واستحقاق.


* كاتب من لبنان - عن "الميادين"
تمت طباعة الخبر في: الثلاثاء, 22-أبريل-2025 الساعة: 04:58 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-67330.htm