الثلاثاء, 06-يناير-2009
الميثاق نت -
إن يمن اليوم، وهو يتقدم إلى الأمام في ظل الثورة اليمنية (سبتمبر وأكتوبر)، يستند في ذلك إلى رصيد ضخم من حصانة العقيدة، وعراقة التاريخ، لا يمنحه القدرة على التقدم فحسب، بل يحول بينه وبين النكوص، ويحمل جيل الحاضر مسؤولية تاريخية، ودوراً حضارياً يتلخصان في السعي بقوة وحماس وإخلاص، وبكل الوسائل المتاحة لهذا الجيل، لاستعادة تلك المكانة الحضارية والتاريخية لليمن، وطناً وشعباً، باعتبار أن انتصار الثورة في استمراريتها وتطورها، ثم تحولها إلى نهج ديمقراطي واضح، تصبح قواعده وأصوله جزءاً من حياة الناس، يعيشونه ويمارسونه على مستوى المجتمع والدولة.
ذلك أن الثورة اليمنية لم تكن ثورة ضد نظام حكم مستبد فاسد، أو ضد مستعمر دخلي فحسب، بل كانت أيضاً ثورة إنسانية ضد ركود الحياة على الأض اليمنية، ذلك الركود الذي أبقاها تعيش في عهد من العهود المظلمة، ولذلك فإن الثورة اليمنية عندما قضت على الحكم الفردي المستبد المتخلف، الذي استغل أسم الدين لتضليل الشعب وإخضاعه وأعلنت قيام النظام الجمهوري بأهدافه الديمقراطية سياسياً واجتماعياً،وأنهت الاحتلال الأجنبي، جاءت لتعيد الدين ونقاءه، وجاءت –في الوقت نفسه- لتحرك جهود الزمن، وتقفز بالحياة قفزة هائلة، تنقلها من العهود المظلمة إلى الحياة المتطورة في القرن العشرين، وعلى الرغم مما واجهها في اندفاعها السريع والعنيف إلى الأمام، فقد استطاعت تجنب الردة إلى الخلف.
إن ما أحدثته الثورة من تغيرات جذرية في الحياة اليمنية، وما تحقق في ظلها من إنجازات رائعة في جميع المجالات، بالرغم من كل المعوقات التي اعترضتها ليدل على أصالة شعبنا وحيوته المتجددة، فالشعب اليمني ليس شعباً حديث التكوين، إنه شعب عريق في الحضارة منذ آلاف السنين، يضرب بجذوره في أعمال التاريخ محتفظاً بأصالته، وبسجل حافل بالإنجازات المتميزة عبر تاريخ الحضارة الإنسانية، سواءً في تاريخه القديم أو في دوره المتألق في الحضارة الإسلامية فيما بعد.
وإذا كان لكل حضارة من الحضارات البشرية طابع متميز، أو سمات خاصة بين السمات المشتركة، فإن أبرز سمات الحضارة اليمنية توجيه منجزات الحضارة لخدمة المجتمع، ومن هنا كان اهتمامها بإقامة السدود، وقنوات الري، وطرق التجارة وتأمينها.
فالجميع كانوا يصنعون تلك الحضارة القديمة ويشتركون في صيانتها، طبقاً لقواعد وأعراف ومراسيم حددت دور كل منهم ليتمتع الجميع بخيراتها، وليتوفر الرخاء والسعادة والكرامة للإنسان.
وفي مجال الحكم تميزت الحضارة اليمنية القديمة بوجود دولة مركزية أوجدت الكيان اليمني، أرضاً وشعباً وحكماً، يقوم الحكم فيها أسس الشورى التي لم تجعل السلطة مركزة في أيدي الملوك وحدهم، بل كان عليهم أن يزاولوا الحكم من خلال مجلس يسمى (المسود) يرأسه الملك، ويضم رؤساء المدن وحكام المناطق وأصحاب الرأي، ومهمته اتخاذ القرارات في الأمور الهامة.
وعلى غرار ذلك المجلس المركزي، كانت توجد مجالس محلية في كل المناطق يرأس كلاً منها حاكم لإدارة المنطقة محلياً.
إن شعور أبناء اليمن منذ آلاف السنين بأنهم ينتمون إلى شعب واحد، له كيانه وكرامته وسيادته على أرضه، كان من أهم عوامل الوحدة اليمنية، وكان يلهب الحماس ضد أي عدوان خارجي.
لقد كان لتلك السمات أثرها في حياة المجتمع اليمني، لأنها نبعت من واقعه، وانسجمت مع طبيعة تكوينه، فارتبط ازدهارها الحضاري، ودورها في العالم القديم بتلك السمات التي جعلت استقرار أوضاعه الداخلية، واستقامت أحواله في ظل دولة مركزية، يستمد قوتها من المشاركة الشعبية مركزياً ولا مركزياً، وتعني بالمرافق العامة، وتحسين تنظيم تجارتها وزراعتها وصناعتها، وإدارة أمورها الداخلية، وعلاقتها بالدول والمجتمعات الأخرى.
غير أن ذلك لم يستمر، إذ بدأ الناس في المجتمعات اليمنية يخلدون إلى الترف، والاسترخاء، ويعرضون عن القيم التي كانت أساس تماسك المجتمع، وقوة الدولة، وبسبب ذلك بدأ الضعف يدب في الكيان اليمني، وبدأ الصراع الداخلي يمزق وحدة الشعب ووحدة الدولة، ورافق ذلك ركود اقتصادي، دفع الناس إلى الهجرات الجماعية، ومن أهم العوامل التي أدت إلى ذلك، تحول طبيعة الحكم من حكم مدني قائم على الشورى، وعلى مشاركة كل المناطق والقبائل وذوي الرأي في دولة معين وسبأ وقتبان وحضرموت إلى حكم يغلب عليه طابع الاستئثار بالحكم لقبيلة واحدة، في دولة الحميريين الذين كونوا قوة عسكرية للغزو وإخضاع المناطق الأخرى بالقوة، واحتكار السلطة والعبث بأموال الدولة وكان هذا بداية النهاية للدولة المركزية وللحضارة اليمنية القديمة.
وصاحب هذا التحول سيطرة الرومان على التجارة البحرية ونقلهم السلع التجارية مباشرة، الأمر الذي قلل من أهمية الطرق التجارية عبر الأراضي اليمنية، فخسرت اليمن بذلك مصدراً من أهم مصادر دخلها القومي، مما أدى إلى زعزعة الكيان اليمني، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وإلى عجز اليمنيين عن صيانة السدود وقنوات الري، مما أضعف الزراعة.
وسارت الأحداث المتلاحقة بعد ذلك بالأوضاع كلها إلى الانهيار المادي والمعنوي، فسقطت الدولة الحميرية وفقدت اليمن بسقوطها في "القرن السادس الميلادي" السلطة السياسية التي كانت توحد الحكم والشعب، وأخذت عوامل عديدة تعمل على تفكيك المجتمع، وإضعاف النظم الموحدة، كما طغت على المجتمعات مظاهر التكوينات القبلية المستقلة، مما زاد من حدة الصراع والتفتت، وأدى إلى غزو واحتلال الأراضي الاستراتيجية في اليمن.
ولم يتجاوز اليمنيون ظاهرة التمزق إلا بعد ظهور الدعوة الإسلامية، ودخولهم في دين الله أفواجاً، طائعين وغير مكرهين، وبذلك شكلوا أكبر قوة بشرية جاهدت لنصرة الإسلام ونشر كلمة الله، وأسهموا في الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية بصورة فعالة.
وقد واكب ذلك الإسهام الفعال على صعيد الدولة الإسلامية استقرار محلي، وقوة لليمن، ارتبط بقوة الدولة الإسلامية.
وحين انحرف حكام الدولة الإسلامية عن طبيعة الحكم الإسلامي القائم على الشورى والعدل، واعترض مسيرة الحضارة الإسلامية عارض من الضعف والفساد الذي اتصف به العهد الأخير للدولة العباسية، نال اليمن ما نال بقية الأقطار الإسلامية من اضطرابات أدت إلى المقاومة في أرجاء الدولة ومنها اليمن.
ولم تكن هذه المرحلة كلها أيام اضطراب وحروب، بل شهدت اليمن ازدهار دول يمنية، مركزية، وحدت اليمن في فترات متعددة من التاريخ، كما شهدت اليمن أيضاً تقدماً ملموساً في الجوانب العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد صاحب هذه الحركات السياسية والدول المتعاقبة في اليمن حركة فكرية ثقافية ازدهرت في فترات معينة، وتمثلت في وجود تيارات فكرية للفرق الإسلامية، وأدت إسهامات اليمنيين في هذا المجال دوراً فعالاً في مدارس الفكر الإسلامي، وأعطت أبعاداً اجتماعية جديدة لهذا الفكر.
وعندما انتقل مركز الدولة الإسلامية إلى الأتراك العثمانيين، الذين اتصف حكمهم بالعسف والظلم، ثم الركود الاقتصادي في فترات الضعف، عمل اليمنيون على مقاومة الوجود العثماني، وشملت المقاومة كل أرجاء اليمن واشتركت فيها كل فئات المجتمع، وقد طلبت بريطانيا من السلطان العثماني في عام 1838م السماح لها بالاستفادة من ميناء عدن كمستودع لخزن الفحم، وعندما أدركت أن السلطة الفعلية بيد سلطان لحج طلبت منه التنازل عن عدن فرفض فاستخدمت أساليب الضغط السياسي والمناورات الحربية، وجاء غرق السفينة البريطانية قرب عدن مبرراً لها لاحتلال عدن بالقوة في 19 يناير 1839م رغم المقاومة الوطنية، ثم قامت بالاستيلاء على عدة مناطق أطلقت عليها المحميات الغربية والشرقية بعد أن عقدت معاهدات ولاء بينها وبين سلاطين وأمراء المناطق المذكورة.
وبفضل المقاومة الوطنية المستمرة للوجود العثماني وبمساعدة ظروف مواتية أخرى أحرزت اليمن الاستقلال في العقد الثاني من القرن العشرين وتسلم (الإمام يحيى) السلطة التي سيطرت على معظم مناطق اليمن الخاضعة للسيطرة الفعلية للعثمانيين، ولكن هذا الاستقلال في ظل حكم الإمام يحيى، قد أُفرغ من محتواه ومعانية، فقد ظلت الإجراءات الجائرة، والمظالم المختلفة التي كانت سبب الثورة ضد الأتراك قائمة على حالها، حيث استبدلت بعض الوسائل الجائرة بوسائل أكثر جوراً، وبنظام حكم فردي متخلف مستبد.
ونتيجة لهذا بدأ المجتمع المرهق، جراء الحرب الطويلة التي خاضها ضد الأتراك، يتململ تحت نير الحكم الفردي الاستبدادي الجديد.
وعقب الحرب السعودية اليمنية عام 1934م نشأت حركة (نقد) اتخذت أسلوب النصح للإمام، قام بها المستنيرون من العلماء، ولكن الإمام واجه النصح بالتهديد، واستمر يمارس أساليب القمع والجور ضد الشعب، فتحولت حركة (النقد) إلى حركة (رفض) ساخطة متذمرة، شملت عناصر مستنيرة من مختلف الفئات اليمنية، ولكنها كانت غير منظمة فواجهها الإمام بعنف.
وهنا بدأت حركة الأحرار تتخذ شكل التنظيم، فتكونت (جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وجمعيات أدبية وثقافية في كل من صنعاء، وتعز، وإب.
وبالرغم من أساليب الإرهاب والقمع، فإن حركة الأحرار أخذت تشتد وتقوى، عبر سلسلة من التجارب والمحاولات الفاشلة، وتحت وطأة الإحساس بالظلم والقهر، وفي مناخ المعاناة من مآسي التخلف والجهل والمرض، تطورت حركة الأحرار من أساليب (النصح) إلى أساليب (الرفض) غير المنظم، ثم إلى حركة إصلاحية منظمة، ثم إلى (اليقين الثوري) الذي تبلورت أهدافه في تنظيم (حزب الأحرار)، وقد بدأت حركة الأحرار الحديثة المنظمة في الجزء المستقل من الوطن، وضمت المستنيرين من العلماء، والمثقفين، والعسكريين، ورجال القبائل، والتجار وغيرهم.
ثم انتقلت إلى الجزء المستعمر من الوطن الذي اتجهت إليه فصائل من حركة الأحرار، لتنجو بنفسها، وتعبر عن أهدافها، وهناك حل تنظيم (الجمعية اليمنية الكبرى) محل (حزب الأحرار)، لتكون الجمعية إطاراً، يضم الأحرار من أبناء مختلف مناطق اليمن، تعبيراً عن وحدة الشعب اليمني وعن إرادته في التحرر والوحدة.
لقد عملت حركة الأحرار على ترسيخ مفهوم الوطن والمواطن، وقامت الدعوات السلالية، والمذهبية، والإقليمية، وناهضت الاستبداد والاستعمار، وتركزت أهدافها الرئيسية في القضاء على الحكم الفردي الاستبدادي، واستبداله بحكم دستوري يقوم على المؤسسات الدستورية، ويفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية، والقضائية، والتنفيذية)، ويطبق الشريعة الإسلامية بمضامينها الحقة، وكانت الحركة تهدف إلى اتخاذ الجزء المستقل – بعد تخلصه من الاستبداد – قاعدة لتحرير الجزء المستعمر من الاستعمار البريطاني حتى توجت جهاد الأحرار بقيام ثورة 1948م التي عبر عنها (الميثاق الوطني المقدس) والتي قضت على الإمام (يحيى) وأعلنت قيام الدولة الدستورية، وحكم الشورى، وبالرغم من أنها قد سقطت خلال أسابيع، إلا أنها قد أحدثت هزة عنيفة في أعماق الشعب اليمني، ثم أصبحت بمرور الزمن قوة دفع أيقظت وعي الشعب بقضيته، وحقوقه الوطنية، ودفعته في طريق الثورة لتحقيق طموحاته في حياة أفضل، وكانت التضحيات الجسيمة التي حدثت إثر فشل الثورة، واستمرار حكم الطغيان والاستبداد والاستعمار والتخلف، مقدمة هامة للانتفاضات التي تلتها.
ولقد ساقت انتفاضة 1955م، بما أحاط بها من عوامل وملابسات حركة الأحرار، إلى منعطف حاسم، وإلى نقلة هائلة في التفكير، إذ جعلتهم يراجعون مواقفهم، ويقررون تجاوز الإمامة الدستورية كمرحلة ويعلنون دعوتهم لقيام النظام الجمهوري الإسلامي الديمقراطي، على أساس أن هذا النظام هو نظام الحكم الإسلامي المناسب لهذا العصر.
ثم تواصل كفاح الحركة الوطنية ضد الاستبداد والاستعمار حيث توالت انتفاضات عديدة في صوف الجيش، وفي المناطق القبلية، وفي العملية الفدائية (للشهيدين عبد الله اللقية ، ومحمد العلفي) للقضاء على الطاغية (الإمام أحمد)، وفي مظاهرات طلبة مدارس صنعاء، وتعز، مصحوبة بإستمرار مظاهر الكفاح ضد الاستعمار البريطاني في المناطق المستعمرة بدءاً بظهور مقاومة قبلية مسلحة في المناطق المتاخمة للشطر المستقل ومقاطعة الإنتخابات التشريعية الاستعمارية، وما رافق ذلك من مظاهرات وإضرابات طلابية وعمالية وعامة شهدتها عدن ومناطق أخرى من البلاد وكانت هذه الانتفاضات إرهاصات للثورة، زادت الحركة الوطنية قوة وتنظيماً وأصبح تنظيم الضباط الأحرار من أهم التطورات في تلك الحركة، وعاملاً من العوامل الحاسمة في تفجير ثورة 26سبتمبر 1962م، تلك الثورة التي كانت تعبيراً عن إرادة الشعب بأهدافها الوضاحة لتغيير الواقع اليمني في جميع مجالات الحياة، وتمثلت في الأهداف الستة التالية:
1- التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهمان، وإقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات.
2- بناء جيش وطني قوي لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها.
3- رفع مستوى الشعب اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً.
4- إنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل، مستمد أنظمته من روح الإسلام الحنيف.
5- العمل على تحقيق الوحدة الوطنية في نطاق الوحدة العربية الشاملة.
6- احترام مواثيق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، والعمل على إقرار السلام العالمي، والتمسك بمبدأ الحياد الإيجابي، وتدعيم مبدأ التعايش السلمي بين الأمم.
وهكذا جاءت ثورة سبتمبر لتمثل قمة النضال الوطني، فقد شارك في تفجيرها بجانب الضباط الأحرار الكثير من رجال القبائل والعلماء، والمثقفين، والضباط، والطلاب، وساندتها كافة فئات الشعب وقطاعاته في مختلف أرجاء الوطن.
كما جاءت أهدافها خلاصة مركزة ومكثفة لتطور الفكر الثوري، عبر مسيرة الحركة الوطنية منذ الثلاثينات حتى قيام ثورة 26سبتمبر سنة 1962م، ومن هنا تميزت أهداف الثورة بوضوح الرؤية وعمق الوعي، وحددت بدقة معالم التغيير الجذري للواقع اليمني في جميع المجالات.
فالتحرر من الاستبداد والاستعمار، لا بد أن يتبعه القضاء على ما خلفاه من شر وتخلف، والحرية السياسية لا تتحقق بدون تطبيق الحرية الاجتماعية والوحدة الوطنية –كهدف وطني- لا بد أن تكون خطوة أساسية في سبيل تحقيق الهدف القومي، المتمثل في الوحدة العربية الشاملة، وانتهاج سياسة داخلية حكيمة، تبني الحياة وتوحد الجبهة الداخلية هو الوسيلة لإنتهاج سياسة خارجية تجعل علاقاتنا بالدول الأخرى متوازنة ومكافئة، وتجعل أدوارنا ونشاطنا في المنظمات الإقليمية والدولية، وفي مناهضة الاستعمار والطغيان، وفي نصرة القضايا العادلة فعالاً وإيجابياً.
وقد عمق أهداف الثور، وأغناها، التجارب التي اكتسبها شعبنا اليمني خلال نضاله المرير ضد الحروب المفروضة عليه، والمؤامرات الداخلية والخارجية التي استهدفت إسقاط الثورة والنظام الجمهوري واستمرار المستعمر، وضد الممارسات الخاطئة في ظل تلك الظروف الصعبة، التي كانت تهدد الثورة من داخلها، ومن أعظم المناضلين ضد هذين الخطرين الشهيد أبو الأحرار ( محمد محمود الزبيري).
وضمت مسيرة الثورة في مرحلة المعاناة التطبيقية وسط ملابسات وظروف قاسية، وعوائق ومخلفات وسلبيات، ولكنها لم تكن أقوى من إرادة الشعب التي قضت على حكم فاسد، استنفد كل مبررات وجوده، وحمت الثورة من المؤامرات الداخلية والخارجية، بل إن تلك الإرادة الشعبية هي التي أنقذت الثورة من الفشل الكامل، نتيجة الممارسات الخاطئة التي حدثت باسمها في غياب ديمقراطية الحكم، ووصول عناصر مشبوهة، انتهازية، إلى مراكز السلطة، مستغلة اشتغال القوى والعناصر الوطنية بمعارك الدفاع عن الثورة والجمهورية وتحرير الجزء المستعمر من الوطن.
وإذا كانت المؤامرات الخارجية والداخلية قد سببت الكثير من المصاعب والمشاكل والمآسي، فإنها في الوقت نفسه قد خلقت في شعبنا روح التحدي، فتماسك وناضل حتى انتصرت الثورة، واستقر النظام الجمهوري وإلى الأبد.
إن من أهم منجزات ثورة 26 سبتمبر 1962م تحويل الشطر المستقل من الوطن فور تخلصه من الاستبداد، إلى قاعدة انطلقت منها القوى الوطنية لمحاربة الاستعمار وقيام النضال المسلح المنظم، ووفرت السند والقاعدة لانطلاقة ثورة 14 أكتوبر 1963م بهدف تحرير الجزء المستعمر من الوطن التي انطلقت أولى شرارتها من جبال ردفان وكان أول شهيد فيها راجح غالب لبوزة، حيث التحم كل أبناء اليمن في اصطفاف وطني رائع لمنازلة الاستعمار، وفتحت جبهات للقتال في مختلف مناطق تواجده، وفتح أبناء الشعب في عدن بيوتهم لأيواء الفدائيين واحتضنت القوى مناضلي الثورة وحمتهم من ملاحقة الجنود البريطانيين حتى تم جلاء الاستعمار الإنجليزي نهائياً في 30 نوفمبر عام 1967م.
وقد كان لإسهام الشعب العربي المصري في دعم الثورة اليمنية أثر كبير في حماية الثورة والجمهورية، وسيظل عملاً مشرفاً في تاريخ الأمة العربية الحديث.
وعقب عودة القوات المصرية من اليمن عام 1967م، كانت الهجمة الشرسة التي استهدفت إسقاط النظام الجمهوري، فاشتركت كل قوى الشعب من مختلف أرجائه في مقاومتها خلال حرب السبعين يوماً، حتى هُزِمَت الهجمة، وانتصرت الثورة ونظامها الجمهوري، لأنها تمثل إرادة الشعب اليمني بكل قطاعاته وقواه، وإرادة الشعب هي التي تنتصر في النهاية.
ثم جاءت مرحلة السلام في النصف الأول من عام 1970م فتحقق للشعب مكسب جديد في ظل المصالحة الوطنية، ولكنه –كأي عمل عظيم- يحمل معه إيجابياته وسلبياته معاً.
لقد كان من الطبيعي أن يتوحد اليمن ويستعيد وحدته الوطنية فور جلاء المستعمر وذلك كمحصلة طبيعية طالما تطلعت إليها الجماهير ووضعتها الحركة الوطنية في مقدمة أهدافها.
ولأسباب داخلية وخارجية استمرت حالة التجزئة التي كانت سبباً لإهدار الطاقات الوطنية والموارد، وعملاً للصراع وتكريساً لواقع العزلة.
وتتويجاً لكل المكاسب الوطنية التي تحققت لشعبنا على طريق السعي الدؤوب لتحقيق وحدته الوطنية أرضاً وحكماً، فقد تم في الثاني والعشرين من مايو 1990م إعلان قيام الجمهورية اليمنية وارتفع علم الدولة اليمنية الواحدة خفاقاً على كل ربوع اليمن.
وبنفس العزم والمثابرة التي واجه بها شعبنا كل الصعاب ومعوقات استعادة وحدته الوطنية، فقد تصدى بحزم وشجاعة بالغين لمحاولة الإنفصال التي استهدفت اغتيال أغلى وأعز مكاسب وأمانيه.
لقد نقلت الثورة الشعب اليمني كله من العهود المظلمة إلى الحياة المتطورة في القرن العشرين، وحققت له انطلاقه فكرية من عالم الظلام والتضليل السياسي الذي أعتمد عليه نشر الخرافات المنافية لأحكام وأسس الدين الحنيف والقهر الاستعماري الذي أعتمد سياسة فرق تسد، إلى عالم النور والحقيقة، ودفعت بحياته كلها إلى الأفضل، وجعلته يشارك في حياة العصر أخذاً وعطاء دون أن يفقد أصالته.
إن ظروفنا الواقعية، واحتياجاتنا الوطنية، وما يمليه منطق العصر الذي يجب أن يهيمن على جهودنا المتواصلة وتجاربنا، يقتضي إعادة النظر بشكل مستمر في جميع أعمالنا ومراجعة تجاربنا ومواقفنا، محددين معالمنا السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، بصورة أوضح وأعمق، انطلاقاً من أهداف الثورة وتحقيقاً لطموحات المجتمع في التطور والتقدم والسلام –ومن هنا جاءت ضرورة وجود ميثاق وطني يستمد أهدافه من شريعتنا الغراء، وينسجم مع أهداف الثورة اليمنية ليكون منهاجاً تلتف حوله جماهير الشعب.
إن نظرتنا إلى تاريخنا وتجاربنا السابقة، بالمقارنة لواقعنا الراهن تؤكد لنا حقائق هامة في نظرتنا إلى المستقبل هي:
* الحقيقة الأولى:
إن شعبنا لم يصنع حضارته القديمة إلا في ظل الاستقرار والأمن والسلام، ولم يتحقق له ذلك إلا في ظل وحدة الأرض والشعب والحكم.
ولم تتحقق له الوحدة إلا في ظل حكم يقوم على الشورى والمشاركة الشعبية.
* الحقيقة الثانية:
إن كل الأحداث الدامية، عبر تاريخ اليمن الطويل، قد زعزعت كل شيء في حياة الإنسان اليمني، إلا إيمانه بالله وتمسكه بالعقيدة الإسلامية، هذه الحقيقة تؤكد أن العقيدة الإسلامية هي ضمير شعبنا الذي يستحيل بدونه الاندفاع إلى الأمام، وتؤكد أن مجتمعنا اليمني في ظل الشريعة الإسلامية الحقة، قادر على فهم واقعه وتكوين النظرة الواقعية السليمة لحاضرة ومستقبله، وضمان الوحدة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
* الحقيقة الثالثة:
إن التعصب الأعمى لا يثمر إلا الشر، وأن محاولات أية فئة متعصبة للقضاء على الآخرين، أو إخضاعهم بالقوة، قد فشلت عبر تاريخ اليمن كله، وأن الاستقرار الجزئي أو الشامل لليمن في ظل حكم يتسلط بالقوة ويتسلط بالدجل والخديعة لا يدوم طويلاً، وغالباً ما ينتهي بكارثة، بعد أن كان نفسه كارثة على الشعب، وأن الحوار الواعي هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق حياة أفضل للجميع.
* الحقيقة الرابعة:
إن مجتمعنا اليمني بدون الديمقراطية والعدالة الاجتماعية غير قادر على تعزيز وحدته، وغير قادر على استغلال ثروته المادية والبشرية وإحداث التطور والتقدم والحفاظ على السيادة الوطنية.
* الحقيقة الخامسة:
إن مجتمعنا اليمني، كان وما يزال يؤكد رفضه لأشكال الاستغلال والظلم، مهما كانت أصولها ومصادرها، ويؤكد –في الوقت ذاته- حرصه على الاستقلال والأمن والإيمان.
والآن ونحن على أبواب مرحلة من أهم مراحل التاريخ الحديث، مرحلة الانتقال إلى التطبيق الديمقراطي وإقامة المجتمع المدني، لا بد أن نملك الوضوح، وضوح الهدف، ووضوح الوسيلة، ذلك أن التطبيق الديمقراطي الحقيقي تطبيق الشورى، تطبيق المشاركة الشعبية في الحكم، سيبقى الهدف الأساسي للحركة الوطنية وللثورة والمحتوى الأساسي للنظام الجمهوري، وبدونه يبقى النظام الجمهوري شكلاً بلا محتوى جسداً بلا روح.
ومن أجل هذا كله جاء هذا الميثاق الوطني محاولة مخلصة وصادقة وواعية يحقق لنا وضوح الرؤية، وفي إطاره الفكري تأتي برامج العمل السياسي ملتزمة بمبادئه الأساسية، ومستفيدة من تجاربنا الوطنية، محددة احتياجاتنا الواقعية ومعالم الطريق للمستقبل، في نظام ديمقراطي يقوم على التعددية الحزبية ومبدأ التداول السلمي للسلطة.
إن الشعب اليمني اليوم – في ظل الجمهورية اليمنية- مصمم على استعادة مكانته الحضارية من جديد، ومندفع –بوعي- لاستيعاب منجزات الحضارة الإنسانية في هذا العصر، والتفاعل مع إيجابياتها أخذاً وعطاء، تأثراً وتأثيراً، وهو في تصميمه واندفاعه متسلح بعقيدته الإسلامية ومحتفظ بذاته الأصيلة، وأن هذا الميثاق الوطني، عهد نلتزم به جميعاً، ونعزز به الوحدة الوطنية ونرسخ به الأسس الديمقراطية للنظام السياسي والشرعية الدستورية.
(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)
صدق الله العظيم
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 08-ديسمبر-2024 الساعة: 09:42 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-8445.htm