محمد حسين العيدروس - قد تكون تجارب الشعوب السياسية منهلاً لسواها إلا أنها لا يمكن أن تحل بديلاً لنتاجها الوطني، إذ أن هامش الخصوصية في أي تجربة سياسية يمثل ذاتها الوطنية والهوية التي تميزها عن غيرها، علاوة على كونه الأساس الذي تتعاطى عليه مع مفردات واقعها، ويكفل نجاحها.. وذلك هو بالضبط ما حدث مع تجربتنا اليمنية في البناء الديمقراطي.
عندما نوقش موضوع الديمقراطية من قبل لجنة العمل السياسي للمؤتمر الشعبي العام في مؤتمره التأسيسي (24-29 /8/2891م)، كانت رؤية الأخ الرئيس علي عبدالله صالح في غاية الوضوح، والإيجاز، إذ لخّصها بعبارته (لا يمكن حرق المراحل)، ثم شرح للمشاركين كيف أن من السهل استنساخ تجربة بلد متقدم، وكيف من الصعوبة بمكان أن تقارن بين ظروف وواقع ذلك البلد وبين ما في اليمن، التي كان دستورها يحرم الحزبية، وليس بين قواها الوطنية من خاض تجربة عمل حزبي متعدد، ولم تكن في وضع مستقر في ضوء حالها التشطيري.. لذلك لم يكن منطقيا القفز فوق هذا الواقع نحو التعددية الحزبية قبل تأهيل الساحة الوطنية وقواها للتحول الجديد.
اليوم عندما نقف أمام استحقاقات يوم الديمقراطية (27 ابريل) لا ينبغي لأحد منا تجاهل تلك الحقبة التي عملت فيها جميع القوى السياسية تحت مظلة المؤتمر الشعبي، ولعبت دوراً في قهر ظروف المرحلة، والمضي بالمشروع الوطني على طريق الوحدة اليمنية، وعصر الديمقراطية التعددية، والحريات الإعلامية والمجتمع اليمني بمختلف توجهاته الحقوقية والتنموية.
كما أننا مثلما نفاخر اليوم بتنظيماتنا وأحزابنا السياسية بكياناتها المستقلة، لا بد من استلهام ما ذهب إليه الأخ الرئيس من معنى في قوله (كلنا في سفينة واحدة)، إذ أن السفينة وإن يقودها ربان واحد، إلا أن استواءها فوق البحر لا يكتمل بغير طاقم الملاحين، وكل منهم له وظيفته ودوره، مثلما له اسمه الخاص وشخصيته المستقلة، وهكذا هو حال العمل السياسي في أي بلد ديمقراطي، يكمل بعضه البعض، ويرتهن فيه الجميع لمصير واحد.
إن من فضائل تجربتنا الديمقراطية أنها مثلت خيارنا الوطني ولم تترجم إرادة غير يمنية..وهي أنها انبثقت من وحي همومنا ومعاناتنا وملبية لاحتياجاتنا ومشروعنا الوطني ولم تأت لتزويق وجه الدولة في المحفل الدولي لذلك نحن نمارسها كما لو تمرسنا عليها منذ أمد بعيد ويتداولها بعض أبناء شعبنا أحيانا بعفوية أو ببعض الجهل، وهو أمر لا نستعيبه أو نخشاه طالما والجهل جزء من حقائق واقعنا، ويكدر صفو حياتنا، وما تحولنا للديمقراطية إلا لتكون أداتنا السلمية لمكافحة الجهل والتخلف والاخذ بأيدي مواطنينا الى نواصي مستقبل زاهر.
إن أعظم خطأ يرتكبه المرء هو حين يتنكر لحقائق الواقع ويتجاوز حساباتها لأنه حينئذ لن يحقق شيئا .. وللأسف الشديد أن هذا الخطأ يظل يتكرر لدى بعض القوى السياسية التي تحمل الديمقراطية ما لا تحتمل، وتقفز بها الى زوايا بعيدة في محاولة لمحاكاة تجربة هذا البلد أو ذاك، متجاهلة أن الزرع يموت في غير أرضه، وأن لنا خصوصيتنا الحضارية والثقافية والعقائدية والاجتماعية والاقتصادية، وهي بمجموعها تمثل ملامحنا الوطنية التي ليس من حقنا مصادرتها لأنها ملك أجيال متعاقبة لكن من حقنا تشذيبها وتقويمها بما يحقق النفع الأكبر أو ينقيها من الشوائب.
نحن لا نختلف في أن الديمقراطية تحمل مدلولاً واسعاً لتعزيز الحياة الكريمة للفرد والمجتمع، لكننا لا نطلبها دفعة واحدة في ظل ما يكتنف حياتنا من مواريث بالية ورثناها عن عهود ظالمة وأنظمة شمولية صادرت كل بريق من وجه الحياة اليمنية، وكذلك في ظل ما يواجه بلدنا من تحديات اقتصادية وثقافية واجتماعية، وأخرى خارجية تتربص بنا الدوائر، فمن كان يرى في الديمقراطية علاجاً لوضعه السياسي فإن العلاج يؤخذ على جرعات، وأوقات محددة، قد يتسبب عدم الانتظام بها بأثر عكسي يفاقم الداء ويتضاعف فيه البلاء.
ليس بيننا من لا يحلم بحياة الرفاهية، وبعدالة راسخة، وبوطن يزدهي بشتى المظاهر الحضارية التي نراها في بلدان أخرى متقدمة، غير أن كل ذلك لا يمكن أن يأتي بغير صبر وكفاح وعمل مضنٍ، كما أنه لم يتحقق لتلك البلدان بين ليلة وضحاها أو بالتمني .. فالدول تبنيها إرادة الشعوب الصلبة، وحكمة الرجال الأفذاذ الذين يحسنون كيف يفجرون طاقات شعوبهم - ليس للفوضى والتخريب - وإنما يفجرونها بالعلم والعمل والتفاني بحب الوطن، والوفاء لتضحيات أبنائه.
إن الديمقراطية والحريات لا تمنح أحداً حق الإساءة للرموز الثورية الوطنية، ولا حق تخريب ما هو منجز بشق الأنفس، ولا حق العبث بالحقائق وتضليل الشعب، لأن كل ذلك حق عام يجب أن يسمو فوق كل الممارسات الأخرى، والمصالح المحدودة.
وإذا كان هناك شيء يستحق أن نتذكره في يوم الديمقراطية، ونقف له إجلالاً هو أولئك الثوار المناضلون الذين حملوا الديمقراطية هدفاً لثورتي سبتمبر وأكتوبر.. وأولئك الرجال الذين تفانوا في التضحية لتحقيق أهداف الثورة - وعلى رأسهم الأخ الرئيس علي عبدالله صالح الذي ترجم أسمى قيم الديمقراطية حين قبل الوقوف أمام صناديق الاقتراع مع كل من رشح نفسه لرئاسة الجمهورية، ومن غير مَنٍّ على أحد من شعبه بأنه من حفظ لليمن أمنها وسلامها، وحقق وحدتها حين كان العالم يتشظى.. أليست هذه هي الديمقراطية الحقة، التي تستحق أن نفاخر بها اليوم، ونصونها تحت الجفون..! |