د. عادل الشجاع - هذه السلسلة المستفزة من أحداث العنف التي وصلت إلى حد القتل ضد مواطنين في الحبيلين على أيدي متعصبين ينبغي أن تدفعنا نحو شجاعة الاعتراف بأن غياب مشروع ثقافي وكذلك وسائل الإعلام المختلفة تتحمل مسئولية كبيرة في تعزيز هذا التعصب..
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هو موقف الأحزاب السياسية وكذلك موقف المثقفين في طول البلاد وعرضها تجاه ثقافة التحريض والكراهية التي تروّج كذباً أن الشمال احتل الجنوب وأن الوحدة قامت على الإكراه؟!.
ومع احترامي لكل مشاعر الغضب التي أظهرناها عقب مصرع هؤلاء المواطنين، لكن علينا أن ندرك أن ذلك لا يكفي أن نرد على هذه الجريمة بمقالات صحفية، ثم ننتظر جريمة أخرى تضاف إلى رصيد القتلة وتباركها الأحزاب السياسية بتبريراتها المستفزة، وتغيب هيبة الدولة.
نحن بحاجة إلى آليات عاجلة ومؤثرة تصل بصوت الحقيقة إلى كل مواطن، هذه الجريمة ينبغي أن تكون مناسبة لفحص الخطاب التحريضي السائد هذه الأيام في الصحافة وفي بعض التصريحات الحزبية، ذلك أن هذا الخطاب التحريضي الذي تروج له الصحافة هو الذي حرض القتلة على ارتكاب هذه الجريمة.
من المؤكد أن القتلة سوف يلقون جزاءهم العادل، سواء قتلة أبناء القبيطة أم قتلة الأطباء الأجانب في صعدة، ولكن سيبقى هذا الجزاء ناقصاً وغير كافٍ لمنع تكرار هذه الجرائم والحؤول دون وقوعها ما لم يتم محاكمة الخطاب التحريضي ومروجيه من الصحافيين والساسة المتعصبين، وإدانة هذه الثقافة التي يروج لها، وذلك عبر دعم الثقافة التي تدعو إلى التسامح والمساواة وتأكيد الكرامة الإنسانية.
أقول دعم الثقافة وليس الأشخاص الذين يتاجرون بالوطن وأمنه واستقراره، وهم الذين قال عنهم رئيس الجمهورية: إن الانفصاليين حولي هنا في صنعاء أكثر من الانفصاليين في المناطق الجنوبية.
والحقيقة أن الأسباب الكامنة وراء الأزمة كثيرة، لكن المشكلة واحدة وهي الصراع على السلطة ومغانم القوة، ويكذب من يقول: إن هذا العنف الـذي يعصف بالوطن واستقراره يتعلق بالحقوق أو رفاهية الناس.
وتبدو اللحظة الراهنة الآن جديرة بأن تعود النخبة السياسية في اليمن إلى رشدها، وتتوقف عن اللعب بالنار؛ وأن تنأى بمواطنيها عن إقحامهم في صراعات مناطقية طاحنة.
ويبدو الوطن أكثر من أي وقت مضى في مفترق الطرق، وبات العنف يجثم بقوة وبقسوة على صدور اليمنيين، ظهر ذلك واضحاً في المباراة التي جمعت بين أهلي صنعاء والهلال، حيث وصل العنف إلى هذا القطاع الحيوي الذي يفترض أن يكون رمزاً للتسامح والمحبة والأخلاق النبيلة.
ولن أكون مبالغاً إذا قلت: إن البعض يشجع على العنف، ولا يسأل عن عواقب هذا العنف، بل صار يحاول فرض مصالحه حتى لو كانت على حساب تمزيق الوطن.
ولانزال نحذر من عواقب العنف المنفلت والتطاول على القانون وهيبة الدولة، ولكل من يلعبون بالنار سواء من يتخذون من السلطة وسيلة لحمايتهم أم من المعارضة نقول لهم: تذكروا من السهل البدء في مغامرة العنف، لكن من الصعب معرفة أين ينتهي، والأصعب السيطرة على الأمر.
وفي هذه اللحظة التي لاتزال هناك نافـذة من الأمل من أجل اليمن الموحد المزدهر، فإننا نقول لهؤلاء المغامرين عليكم أن تتذكروا تجربة الحروب التي طحنت اليمن، فقد كانت غواية بداية الحرب سهلة للغاية، إلا أن هذه الحروب لم تحل مشاكل اليمن.
ومن هنا فإن الحل في اليمن يبدأ بالتفرغ للتنمية والحديث عن الاقتصاد بدلاً عن السياسة.. ولذا فإن الحكومة والمعارضة والحوثيين والحراك جميعهم يتعين عليهم أن يتخلوا عن العناد، ويبدأوا الجهد المخلص لحل مشاكل اليمن، ويحتكموا إلى الشعب ليقرر ماذا يريد - أيريد الحرب، أم الاستقرار؟! وإذا لم نكن جادين في مساعدة بلادنا، فإن أحداً لن يكون بمقدوره مساعدتنا.
هل يستطيع الجميع أن يحتكموا إلى العقل ويؤجلوا الحديث عن السياسة لبعض الوقت ويبدأوا بالحديث عن كيفية تحويل المواطنين من فقراء إلى أغنياء، والبحث عن الثروات لكي نستجيب لضغوط الكتل السكانية المختلفة عند رصد الموارد المحدودة؟!.
على الجميع أن يمدوا يد المساعدة للحكومة لكي تتمكن من القيام بواجبها، وحتى لا تبدد الموارد المحدودة من الموارد السيادية واحتياجات الأمن القومي بحيث تكون في النهاية قادرة على الحفاظ على استقرار البلاد.
ولذلك فإنني أجزم أن الحكومة لن تكون قادرة على توفير المبالغ المطلوبة منها لتنمية البلاد في ظل الاختلالات القائمة والتي تفتح الباب واسعاً لأولئك الانتهازيين الذين يمتصون خزينة المال العام.
على الجميع أن يدركوا أن الفقر يستحكم بحياة الناس رغم الجهود التي تقوم بها الحكومة؛ إلا أن الأوضاع غير المستقرة قد ساعدت الفساد على الاستشراء في كل مفاصل الجهاز الإداري.
ونحن لن نعيد اكتشاف العجلة في مسألة التنمية، وإنما نحن أمام تجربة عالمية تقول لنا إنه لا يمكن إحداث تنمية إلا من خلال تفعيل المبادرة الفردية للجماعة.
ولن يتم ذلك إلا حينما يقرر الناس أنهم لن يكونوا فقراء بعد اليوم، وعلينا أن نركز على المناطق التي مازالت مفتوحة وقليلة السكان حتى نشجع على خلق توازن سكاني يسمح بتوزيع الثروات بشكل عادل.
والأهم من هذا كله هو الحفاظ على المناطق الزراعية من التدمير، وهذا ما فعلته كل دول العالم مثل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا والاتحاد السوفيتي الذي أبقى مساحات واسعة مثل سيبيريا بعيداً عن ساحة العمران والاستغلال الاقتصادي خوفاً من أن يكون ذلك سبباً في اختلال التوزيع.
على الحكومة أن تفكر بمشاريع استثمارية وتنموية جادة تُشرك فيها المواطنين ليسهموا بمدخراتهم وتحويل المؤسسات العائلية إلى مؤسسات اكتتاب حتى يشعر الجميع أنهم يملكون فيحافظون على هذه الممتلكات.
أما وزارة السياحة فمطالبة بنسيان السياحة الخارجية بسبب أولئك القتلة الذين حرموا البلاد ملايين الدولارات والتركيز على السياحة الداخلية وتشجيعها ودعمها لما لذلك من أهمية تتمثل بخلق تجانس وطني تجعل ابن حضرموت يرى ابن مأرب، وابن أبين يرى ابن عمران، وابن الحديدة يرى ابن المهرة فتطمئن القلوب لبعضها البعض ويشعر الجميع أنهم أبناء وطن واحد، ولكي يتعرفوا على ظروف الوطن الاقتصادية المتشابهة حتى لا يظن أحد أنه فقط الذي يعاني، وحتى يعلم الجميع كيف أن الشغل على السياسة قد حرم الوطن التطوير الاقتصادي والتنموي، وأن الحديث عن الاقتصاد يعني الحديث عن الرزق وتعبئة المدخرات الوطنية.
إن النجاح بعد ذلك سيكون ممكناً، وكل ما نحتاجه هو الاستفادة من تجارب الآخرين، ومن تجاربنا أيضاً، والمهم هو أنه لا ينبغي البدء في توزيع الثروة قبل أن تتكون بعد، وهذا ما هو حاصل، حيث توزع الثروة وهي لم تتكون بعد.
والأهم من كل هذا هو إعادة النظر في وزارة الثقافة، فالقوة الناعمة أهم من القوة الصلبة، وهي القادرة على صهر المجتمع في بوتقة وطنية واحدة.
عن صحيفة الجمهورية |