أ.د. طارق أحمد المنصوب -
شهد مجتمعنا مسلسلاً عصيباً ورتيباً من الأحداث المتلاحقة والمتكررة والمتداخلة والعصية على الفهم والتفسير، لكن وحده العنف يبقى متسيداً جميع المواقف وردود الفعل الشعبية والرسمية، ولقد جرت الأحداث في تواتر غريب، وتوالٍ مريب، وبدا كما لو كانت هذه الأحداث تترى وفق متوالية أو سيناريوهات معدة سلفاً حددت فيها الأدوار لكل طرف بدقة متناهية، وكأننا ماضون في وجهة واحدة محددة لابد أن نصلها نهاية المطاف؛ أي في اتجاه تصعيد وتفجير الاحداث، وتأجيج الأوضاع، وزرع الأحقاد والكراهية، بهدف زعزعة الأمن والاستقرار والاستقلال الوطني، وفصم عرى الوحدة بين شطري الوطن الواحد، وتقسيم الشعب اليمني الى شعوب وقبائل متناحرة.
كما اتضح أن العقل والتعقل والحكمة اليمانية أخذت إجازة اضطرارية وتركت مكانها لوسائل العنف والعنف المضاد، وحل الخطاب الايديولوجي المتشنج محل الخطاب العلمي الهادئ والعقلاني، وبرز السلاح والقتل بوصفهما الخيار الأكثر قبولاً وتقبلاً، وكشر الحقد والتعصب الاعمى عن أنيابه القبيحة ليلغي عشرات القرون وآلاف السنوات من العيش والتعايش المشترك بين أبناء الأصل الواحد، والأسرة الواحدة، والمجتمع الواحد والدين الواحد والوطن الواحد.
هذه الأحداث تضعنا جميعاً في مواجهة مباشرة مع عدد كبير من الأسئلة أو التساؤلات، نعتقد أن محاولة الإجابة عنها صعبة، إن لم نقل إنها مستحيلة الا من الاطراف ذات العلاقة، لكننا نتوقع أنها ستضعنا على أول الطريق لحل كثير من الأزمات السياسية، وإيقاف ما يجري في مجتمعنا من أحداث عنف دوري ومتصل، وستجعل الاطراف تتفق على عدد من القضايا تصلح أرضية لانطلاق الحوار الوطني من أجل التسامح والتصالح.
فهل تمتلك جميع الأطراف السياسية والقوى الحزبية نفس النوايا الصادقة، والحرص على سلامة وأمن الوطن والمواطن؟ وهل يمتلك هؤلاء ما يطرحونه على طاولة الحوار، أم أنهم قد تجاوزوه الى ما هو أبعد من ذلك؟ وهل ستعمد السلطة الى تبني مطالب هؤلاء، حتى إن أدى الأمر الى اتخاذ سلسلة من التدابير والإجراءات العلاجية الحاسمة، أم ستبقى الحلول الجزئية والمؤقتة سيدة الموقف؟ وهل اتخاذ تلك التدابير كفيل بعودة هذه الأطراف الى جادة الصواب والدخول في حوار وطني جاد ومسؤول لتجنيب الشعب والبلاد كوارث وخيمة؟
أولاً: خصائص الأزمة
بداية نعتقد أن من حق القارئ أن يعرف خصائص الأزمة السياسية التي عرفها مجتمعنا والتي تميزت بها دورة الاحداث الاخيرة في مجتمعنا، وهي متداخلة بحيث يصعب فصلها عن بعضها، ومنها:
- تعدد الأجندات وتداخل اللاعبين:
يمكن ملاحظة وجود عدة أطراف ترغب في تسيد المشهد السياسي والساحة الوطنية، بعضها ظاهر، وبعضها الآخر متستر وراء أطراف أخرى، وهي: جماعة الحوثيين، وقوى الحراك الجنوبي، والقاعدة التي دخلت كطرف جديد ضمن دائرة العنف السياسي الذي شهده مجتمعنا مؤخراً ، ويقف- سراً أو علانية - خلف كل طرف من هذه الاطراف عدد من الاطراف الوطنية والاقليمية والدولية لديها حساباتها الخاصة وأجنداتها المختلفة.
-عدم وجود سقف محدد للمطالب:
أدى تعدد اللاعبين الى تعدد القضايا والمشاريع وتداخلها، وهذا أدى الى كثرة المطالب والقضايا، وتداخل ما هو مشروع من الحقوق والمطالب الشخصية والجماعية التي كان يمكن معالجتها عن طريق القضاء والمحاكم والجهات الرسمية الوطنية، مع مشاريع أخرى غير مشروعة تحاول أن تسوقها بعض الاطراف الوطنية والاقليمية والدولية، وهذا أدى الى عدم وضوح أو غياب المشروع الحقيقي، وضياع المطالب المشروعة والحقوقية، لعدم معرفة الاطراف الوطنية سقف أو حدود ما يطلب منها من الأطراف المحركة لها، ولذا فإنها تترقب تعليمات جديدة في كل مرة.
- الضبابية والتمويه المتعمد:
أدى غياب المشروع الوطني او الحقوقي الى لجوء كثير من الأطراف الى التمويه والضبابية المقصودة، حتى يتسنى لها تحقيق مجموعة من الاهداف الموضوعية بدقة متناهية؛ فهي تتعمد ذلك حتى يسهل عليها خداع المواطن العادي وجر كثير من الأفراد الى دعم هذا المشروع، لاعتقاد كل واحد منهم أنه صاحب مصلحة في نجاحه من جهة أولى.
كما أن هذا التمويه والتعميه المتعمدين يفيدان في تصوير الأمور على عكس حقيقتها، وإصباغ الشرعية على كافة الاعمال السلمية والمشروعة منها، والاجرامية من جهة أخرى، وإطلاق التسميات الخادعة عليها، مثل: الحراك السلمي، النضال السلمي، بدلاً من الخراب، والتعطيل، والتقطع، والتخويف والارهاب.
- الرتابة والتكرار
من يتابع الاحداث الاخيرة، ويعُد بذاكرته الى الوراء سيجد أنها تدور في حلقة واحدة تتكرر باستمرار؛ فهي تبدأ بمسيرات «سلمية» ثم تتحول الى تجمعات خطابية لجمع الانصار والمؤيدين، ثم اعتصامات، فمظاهرات واحتجاجات يتلوها مشاهد من العنف المصطنع والمفتعل والمقصود، تقود الى دخل قوات الامن لاحتجاز المشاركين في هذه الاحداث، وحماية المواطنين وممتلكاتهم تتلوها مطالب جديدة بالإفراج عن هؤلاء، وتدخل منظمات الدفاع عن حقوق الانسان، وهكذا، لتبدأ العملية من جديد بنفس الرتابة والتكرار، حتى يتصور الانسان كما لو كان يتفرج على مسلسل ممل.
- التصعيد وتجاوز حدود ما هو مسموح:
ويتمثل ذلك في مهاجمة رجال الأمن ومراكزهم والمجمعات الحكومية، ونصب الكمائن والتقطع والقتل المتعمد للمدنيين المسالمين بدون ذنب، وحرق الاعلام الوطنية، ورفع أعلام التشطير وترديد شعارات الانفصال، وكلها جرائم يعاقب عليها القانون بشدة في جميع أقطار الارض الديمقراطية منها وغيرها، ولعل أخطر ما في هذه الخاصية أنها تقود في كل مرة الى خلق عداوات ونزاعات جديدة، وتفتح الباب أمام قضايا ثأر جديدة بسبب سقوط الضحايا والقتلى من الجانبين، وهذا أمر يجعل من العصي الوصول الى حل جذري للأزمة واستفحالها وتجددها في كل مرة.
- غياب الرغبة الحقيقية في حل الازمات:
يضاف الى كل ذلك غياب الرغبة الحقيقية والصادقة لدى كثير من الأطراف في حل تلك الازمات، وبخاصة أمراء وتجار الحروب، وسماسرة السلاح، وأعداء المشروع الوحدوي والنهضوي اليمني والعربي، والمتضررين من مشروع الوحدة اليمنية، وهم كثيرون.. واستمرار تجدد الأزمة في صعدة، وفي محافظات جنوب الوطن معناه أن هناك كثيراً من الأطراف التي تجد مصلحتها في تجدد الأزمة وافتعال المزيد منها، وسد الباب أمام أي حوار وطني جاد قد يقود الى حل الأزمات.
ثانياً: ما العمل؟
يمتلك صانع القرار السياسي الوطني عدداً لا بأس به من الخيارات للتعامل مع هذه الأزمة أو غيرها منها: خيار المواجهة والتصعيد أو خيار التغاضي والتهوين ، وأخيراً خيار الحوار، ولكل خيار منها فوائده، ومحاذيره، وسيكون لنا عودة لنتناول هذه الخيارات بالتفصيل في تناولة قادمة إن شاء الله.{
❊ جامعة إب