يرحل بنا الكاتب الإسلامي الكبير خالد محمد خالد الى أغوار شخصيات كانت هي مبتدأ التاريخ الاسلامي.. بل هي صانعة اشراقاته المحفورة في الذاكــرة العربية والاسـلامية، وفي وجدان الانسانية عموماً.
ومن كتابه الشهير »رجال حول الرسول« نرحل في هذا العدد مع صحابي يماني جليل هو أبو موسى الأشعري.
< عندما بعثه أمير المؤمنين»عمر بن الخطاب« إلى البصرة؛ ليكون أميرها وواليها، جمع أهلها، وقام فيهم خطيباً، فقال:
»إن أمير المؤمنين »عمر« بعثني إليكم؛ أعلمكم كتاب ربكم، وسنة نبيكم، وأنظف لكم طرقكم«..!!
وغشي الناس من الدهش والعجب ما غشيهم، فإنهم لَيفهمون كيف يكون تثقيف الناس وتفقيههم في دينهم من واجبات الحاكم والأمير؟ أما أن يكون من واجباته تنظيف طرقاتهم؛ فذاك شيء جديد عليهم بل مثير وعجيب!!.
فمن هذا الوالي الذي قال عنه الحسن-رضي الله عنه:
»ما أتى البصرة راكب خير لأهلها منه«..؟؟
<<<
انه »عبدالله بن قيس« المكنَّى بـ»أبي موسى الأشعري«..
غادر »اليمن« بلده ووطنه إلى »مكة« فور سماعه برسول ظهر هناك يهتف بالتوحيد، ويدعو إلى الله على بصيرة، ويأمر بمكارم الأخلاق..
وفي مكة جلس بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتلقى عنه الهدى واليقين..
وعاد إلى بلاده يحمل كلمة الله، ثم رجع إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- إثر فراغه من فتح خيبر.
ووافق قدومه قدوم »جعفر بن أبي طالب« مُقبلاً مع أصحابه من الحبشة، فأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم لهم جميعاً..
وفي هذه المرة لم يأت »أبو موسى« وحده؛ بل جاء معه بضعة وخمسون رجلاً من أهل اليمن الذين لقنهم الإسلام، وأخوان شقيقان؛ هما أبو رُهم وأبو بردة..
وسمى الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الوفد.. بل سمى قومهم جميعاً بالأشعريين..
ونعتهم الرسول-عليه الصلاة والسلام- بأنهم أرق الناس أفئدة..
وكثيراً ما كان يضرب بهم المثل الأعلى لأصحابه؛ فيقول فيهم وعنهم: »إن الأشعريين إذا أرملوا في غزو، أو قلَّ في أيديهم الطعام، جمعوا ما عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بالسوية، فهم مني، وأنا منهم«..!!
<<<
ومن ذلك اليوم أخذ »أبو موسى« مكانه الدائم والعالي بين المسلمين والمؤمنين الذين قُدّر لهم أن يكونوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلامذته، وأن يكونوا حملة الإسلام إلى الدنيا في كل عصورها ودهورها..
<<<
»أبو موسى« مزيج عجيب من صفات عظيمة..
فهو مقاتل جسور، ومناضل صلب إذا اضطر لقتال..
وهو مُسالم، طيب، وديع إلى أقصى غايات الوداعة..!!
وهو فقيه، حصيف ذكي، يجيد تصويب فهمه إلى مغاليق الأمور، ويتألق في الإفتاء والقضاء، حتى قيل:
»قضاة هذه الأمة أربعة:
»عمرُ، وعلي، وأبو موسى، وزيد بن ثابت«..!!
ثم هو -مع هذا- صاحب فطرة بريئة؛ من خدعه في الله انخدع له..!!
وهو عظيم الولاء لمسئولياته..
وكبير الثقة بالناس..
لو أردنا أن نختار من واقع حياته شعاراً؛ لكانت هذه العبارة:
»الإخلاص، وليكن ما يكون«..
في مواطن الجهاد، كان »الأشعري« يحمل مسؤلياته في استبسال مجيد؛ مماجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عنه:
»سيد الفوارس أبو موسى«..!!
وإنه ليرينا صورة من حياته كمقاتل
»خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزاة، نُقبت فيها أقدامنا، ونُقبت قدماي، وتساقطت أظفاري، حتى لففنا أقدامنا بالخرق«..!!
وما كانت طيبته وسلامة طويته ليُغريا به عدواً في قتال..
فهو في موطن كهذا يرى الأمور في وضوح كامل، ويحسمها في عزم أكيد..
ولقد حدث والمسلمون يفتحون بلاد فارس أن هبط الاشعري بجيشه على أهل اصبهان الذين صالحوه على الجزية، فصالحهم..
بيد أنهم صلحهم ذاك لم يكونوا صادقين.. إنما أرادوا أن يهيئوا لأنفسهم فرصة الإعداد لضربة غادرة..ولكن فطنة »أبي موسى« التي لا تغيب في مواطن الحاجة إليها كانت تستشف أمر اولئك وما يبيتون.. فلما همُّوا بضربتهم لم يؤخذ القائد على غرة، وهنالك بارزهم القتال، فلم ينتصف النهار حتى كان قد انتصر انتصاراً باهراً!!
<<<
وفي المعارك التي خاضها المسلمون ضد امبراطورية الفرس كان »لأبي موسى الاشعري« -رضي الله عنه- بلاؤه العظيم وجهاده الكريم..
وفي موقعة »تُستر« بالذات، حيث انسحب الهرمزان بجيشه اليها وتحصن بها، وجمع فيها جيوشاً هائلة، كان »أبو موسى« بطل هذه الموقعة..
ولقد أمده أمير المؤمنين »عمر« يومئذ بأعداد هائلة من المسلمين، على رأسهم »عمار بن ياسر«، و»البراء بن مالك«، و»أنس بن مالك«، و»مجزأة البكري«، و»سلمة بن رجاء«.. والتقى الجيشان..
جيش المسلمين بقيادة »أبي موسى«.. وجيش الفرس بقيادة الهرمزان في معركة من أشد المعارك ضراوة وبأساً..
وانسحب الفرس الى داخل مدينة »تُستر« المحصنة..
وحاصرها المسلمون أياماً طويلة، حتى أعمل »أبو موسى« عقله وحيلته..
أرسل مئتي فارس مع عميل فارسي، اغراه »أبو موسى« بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة أمام الطليعة التي اختارها لهذه المهمة..
ولم تكد الابواب تفتح، وجنود الطليعة يقتحمون الحصن حتى انقض »أبو موسى« بجيشه اقنضاضاً مدمدماً..
واستولى على المعقل الخطير في ساعات، واستسلم قادة الفرس، حيث بعث بهم ابو موسى الى المدينة ليرى أمير المؤمنين فيهم رأيه..
<<<
على أن هذا المقاتل ذا المراس الشديد، لم يكن يغادر ارض المعركة حتى يتحول الى أوَّاب، بكاء، وديع، كالعصفور!!
يقرأ القرآن بصوت يهز اعماق من يسمعه.. حتى لقد قال عنه الرسول »صلى الله عليه وسلم«:
»لقد أوتي أبو موسى مزماراً من مزامير آل داود«!!
وكان عمر -رضي الله عنه- كلما رآه دعاه، ليتلو عليه من كتاب الله.. قائلاً له:
»شوقنا الى ربنا يا أبا موسى«..
كذلك لم يكن يشترك في قتال إلاّ أن يكون ضد جيوش مشركة، جيوش تقاوم الدين وتريد ان تُطفئ نور الله..
أما حين يكون القتال بين مسلم وسلم، فإنه يهرب منه ولا يكون له فيه دور أبداً.
ولقد كان موقفه هذا واضحاً في نزاع علي ومعاوية، وفي الحرب التي استعر بين المسلمين يومئذ أوارها.
ولعل هذه النقطة من الحديث تصلنا بأكثر مواقف حياته شهرة، وهو موقفه في التحكيم بين علي ومعاوية.
هذا الموقف الذي كثيراً ما يؤخذ آية وشاهداً على افراط ابي موسى في الطيبة الى حد يسهل فيه خداعه..
بيد أن الموقف -كما سنراه- برغم ما عسى أن يكون فيه من تسرع أو خطأ، انما يكشف عن عظمة هذا الصحابي الجليل- عظمة نفسه، وعظمة ايمانه بالحق..
ان رأى »أبي موسى« في قضية التحكيم يتخلص في أنه وقد رأى المسلمين يقتل بعضهم بعضاً، كل فريق يتعصب لإمام وحاكم.. كما رأى الموقف بين المتقاتلين قد بلغ في تأزمه واستحالة تصفيته المدى الذي يضع مصير الأمة المسلمة كلها على حافة الهاوية.
نقول: ان رأيه وقد بلغت الحال من السوء هذا المبلغ، كان يتلخص في تغيير الموقف كله والبدء من جديد.
ان الحرب الأهلية القائمة يوم ذاك انما تدور بين طائفتين من المسلمين تتنازعان حول شخص الحاكم، فليتنازل »علي« عن الخلافة موقتاً، وليتنازل عنها »معاوية«، على أن يُرد الأمر كله من جديد الى المسلمين يختارون بطريق الشورى الخليفة الذي يريدون.
هكذا ناقش »أبو موسى« القضية، وهكذا كان حله لها.صحيح ان الامام علياً -كرم الله وجهه- بُويع بالخلافة بيعة صحيحة.
وصحيح ان كل تمرد غير مشروع لا ينبغي ان يمكن من غرضه في اسقاط الحق المشروع، بيد ان الأمور في النزاع بين الإمام و»معاوية«، وبين أهل العراق وأهل الشام كانت -في رأي »ابي موسى«- قد بلغت المدى الذي يفرض نوعاً جديداً من التفكير ومن الحلول.. فعصيان »معاوية« لم يعد مجرد عصيان.. وتمرد أهل الشام لم يعد مجرد تمرد.. والخلاف كله لم يعد مجرد خلاف في الرأي ولا في الاختيار.
بل ان ذلك كله تطور الى حرب أهلية ضاربة ذهب فيها آلاف القتلى من الفريقين.. ولا تزال تهدد الاسلام والمسلمين بأسوأ العواقب.
فإزاحه أسباب النزاع والحرب، وتنحية اطرافه مثلاً في تفكير »أبي موسى« نقطة البدء في طريق الخلاص..
ولقد كان من رأي الإمام »علي« حينما قبل مبدأ التحكيم ان يُمثل جبهته في التحكيم »عبدالله بن عباس«، أو غيره من أصحابه، لكن فريقاً كبيراً من ذوي البأس في جماعته وجيشه فرض عليه »أبا موسى الأشعري« فرضاً.
وكانت حجتهم في اختيارهم »أبا موسى« أنه لم يشترك قط في النزاع بين »علي« و»معاوية« منذ بدأ النزاع، بل اعتزل كلا الفريقين بعد ان يئس من حملهما على التفاهم، والصلح، ونبذ القتال، فهو -بهذه المثابة- أحق الناس بالتحكيم..
ولم يكن في دين »أبي موسى«، ولا في اخلاصه وصدقه ما يريب »علياً«.. لكنه كان يدرك نوايا الجانب الآخر، ويعرف مدى اعتمادهم على المناورة والخدعة، و»أبوموسى«. برغم فقهه وعلمه- يكره الخداع والمناورة، ويحب أن يتعامل مع الناس، بصدقه، لابذكائه؛ ومن ثم خشي الإمام »علي« أن ينخدع »أبو موسى« للآخرين، ويتحول التحكيم إلى مناورة من جانب واحد تزيد الأمور سوءاً..
<<<
بدأ التحكيم بين الفريقين..
»أبو موسى الأشعري« يمثل جبهة الإمام »علي« و »عمرو بن العاص« يمثل جانب »معاوية«.
والحق أن »عمرو بن العاص« اعتمد على ذكائه الحاد وحيلته الواسعة في أخذ الراية لمعاوية.
ولقد بدأ الاجتماع بين الرجلين -الأشعري، وعمرو- باقتراح طرحه »أبو موسى«؛ هو أن يتفق الحكمان على ترشيح »عبدالله بن عمر« بل وعلى إعلانه خليفة للمسلمين، وذلك لما كان ينعم به »عبدالله بن عمر« من إجماع رائع على حبه، وتوقيره، وإجلاله.
ورأى »عمرو بن العاص« في هذا الاتجاه من »أبي موسى« فرصة هائلة فانتهزها..
إن مغزى اقتراح »أبي موسى« أنه لم يعد مرتبطاً بالطرف الذي يمثله؛ وهو الإمام »علي«.. ومعناه -أيضاً- أنه مستعد لإسناد الخلافة إلى آخرين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم- بدليل أنه اقترح »عبدالله بن عمر«..
وهكذا عثر »عمرو« بدهائه على مدخل فسيح إلى غايته، فراح يقترح »معاوية«.. ثم اقترح ابنه »عبدالله بن عمرو« وكان ذا مكانة عظيمة بين أصحاب الرسول -عليه وعليهم الصلاة والسلام.
ولم يغب ذكاء »أبي موسى« أمام دهاء عمرو؛ فإنه لم يكد يرى »عمراً« يتخذ مبدأ الترشيح قاعدة للحديث والتحكيم حتى لوى الزمام إلى وجهة أسلم؛ فجابه عمراً بأن اختيار الخليفة حق للمسلمين جميعاً، وقد جعل الله أمرهم شورى بينهم؛ فيجب أن يترك لهم وحدهم وجميعهم حق الاختيار..
وسوف نرى كيف استغل »عمرو« هذا المبدأ الجليل لصالح »معاوية«؟..
ولكن -قبل ذلك- لنستمع إلى نص الحوار التاريخي الذي دار بين »أبي موسى« و»عمرو بن العاص« في بدء اجتماعهما، ننقله عن كتاب »الأخبار الطوال، لأبي حنيفة الدينوري«:
أبو موسى- ياعمرو، هل لك فيما فيه صلاح الأمة ورضا الله..؟
عمرو-وماهو..؟
أبو موسى-نولي عبدالله بن عمر فإنه لم يُدخل نفسه في شيء من هذه الحرب.
عمرو- وأين أنت من معاوية..؟
أبو موسى- ما معاوية بموضع لها ولا يستحقها.
عمرو: ألست تعلم أن »عثمان« قتل مظلوماً..؟
أبو موسى: بلى..
عمرو: فإن معاوية ولي دم عثمان.. وبيته في قريش ما قد علمت.
فإن قال الناس: لِمَ ولي الأمر وليست له سابقة؟ فإن لك في ذلك عذراً، تقول: إني وجدته ولي عثمان، والله -تعالى- يقول: »ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً«..!! وهو مع هذا، أخو »أم حبيبة« زوج النبي »صلى الله عليه وسلم« وهو أحد أصحابه.
أبو موسى: اتق الله يا عمرو..
أما ما ذكرت من شرف معاوية، فلو كانت الخلافة تستحق بالشرف لكان احق الناس بها »ابرهة بن الصبَّاح«، فإنه من ابناء ملوك اليمن التبابعة الذين ملكوا شرق الأرض وغربها.. ثم أي شرف لمعاوية مع علي بن ابي طالب؟؟
وأما قولك: ان معاوية ولي عثمان، فأولى منه ابنه »عمرو بن عثمان«..
ولكن ان طاوعتني أحيينا سُنَّة »عمر بن الخطاب« وذكره بتوليتنا ابنه عبدالله الحبر..
عمرو: فما يمنعك من ابني »عبدالله« مع فضله، وصلاحه، وقديم هجرته، وصُحبته..؟
أبو موسى: ان ابنك رجل صادق، ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمساً، فهَلُمَّ نجعلها للطيب ابن الطيب.. »عبدالله بن عمر«.
عمرو: يا أبا موسى، انه لا يصلح لهذا الامر الاّ رجل له ضرسان، يأكل بأحدهما، ويطعم بالآخر!!
ابو موسى: ويحك يا عمرو.. ان المسلمين قد اسندوا الينا الامر بعد ان تقارعوا بالسيوف، وتشاكوا بالرماح، فلا نردهم في فتنة.
عمرو: فماذا ترى؟
ابو موسى: ارى أن نخلع الرجلين -علياً ومعاوية- ثم نجعلها شورى بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من احبوا.
عمرو: رضيت بهذا الرأي، فإن صلاح النفوس فيه.
> ان هذا الحوار يغير تماماً وجه الصورة التي تعوَّدنا ان نرى بها »ابا موسى الاشعري«، كلما ذكرنا واقعة التحكيم هذه..
ان »أبا موسى« كان ابعد ما يكون عن الغفلة.
بل انه في حواره هذا كان ذكاؤه أكثر حركة من ذكاء »عمرو بن العاص« المشهور بالذكاء وبالدهاء.
فعندما أراد »عمرو« أن يجرّع »أبا موسى« خلافة معاوية بحجة حسبه في قريش، وولايته لدم عثمان، جاء رد »أبي موسي« حاسماً لامعاً، كحد السيف!!
اذا كانت الخلافة بالشرف، فأبرهة بن الصبَّاح سليل الملوك اولى بها من معاوية.
واذا كانت بولاية دم عثمان والدفع عن حقه، فابن عثمان -رضي الله عنه.. أولى بهذه الولاية من معاوية.
لقد سارت قضية التحكيم بعد هذا الحوار في طريق يتحمل مسئوليتها فيه »عمرو بن العاص« وحده.
فقد أبرأ »أبو موسى« ذمته برد الأمر الى الأمة، تقول كلمتها وتختار خليفتها..
ووافق »عمرو« والتزم بهذا الرأي..
ولم يكن يخطر ببال »أبي موسي« ان »عمراً« في هذا الموقف الذي يهدد الاسلام والمسلمين بشر كارثة، سيلجأ الى المناورة، مهما يكن اقتناعه بمعاوية.
ولقد حذره »ابن عباس« حين رجع اليهم يخبرهم بما تم الاتفاق عليه.. حذره من مناورات »عمرو« وقال له:
»أخشى والله، ان يكون عمرو قد خدعك، فإن كنتما قد اتفقتما على شيء فقدّمه قبلك ليتكلم، ثم تكلم انت بعده«!!
لكن »أبا موسى« كان يرى الموقف أكبر وأجل من أن يناور فيه »عمراً«.. ومن ثم لم يخالجه أي ريب أو شك في التزام »عمرو« بما اتفقا عليه.
واجتمعا في اليوم التالي.. »أبو موسى«، ممثلاً لجبهة الامام »علي« و»عمرو بن العاص« ممثلاً لجبهة »معاوية«.
ودعا »أبو موسى »عمراً« ليتحدث.. فأبى »عمرو« وقال له:
»ما كنت لأتقدمك وانت أكثر مني فضلاً.. وأقدم هجرة.. وأكبر سناً«!!
وتقدم »أبو موسى« واستقبل الحشود الرابضة من كلا الفريقين.
وقال:
»أيها الناس.. إنا قد نظرنا فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة ويصلح أمرها، فلم نر شيئاً أبلغ من خلع الرجلين -علي ومعاوية- وجعلها شورى، يختار الناس لأنفسهم من يرونه لها.. واني قد خلعت علياً ومعاوية..
فاستقبلوا أمركم وولُّوا عليكم من أحببتم.«.
وجاء دور »عمرو بن العاص«، ليعلن خلع معاوية، كما خلع »أبو موسى« علياً، تنفيذاً للاتفاق المبرم بالأمس.
وصعد »عمرو« المنبر وقال:
»أيها الناس، ان ابا موسى قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه..
ألا واني قد خلعت صاحبه، كما خلعه، واثبت صاحبي »معاوية« فإنه ولي أمير المؤمنين »عثمان« والمطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه«!!
ولم يحتمل »أبو موسى« وقع المفاجأة، فلفح »عمراً« بكلمات غاضبة ثائرة..
وعاد من جديد الى عزلته، وأغذ خطاه الى مكة.. الى جوار البيت الحرام، يقضي هناك ما بقي له من عمر وايام.
كان »أبو موسى« رضي الله عنه- موضع ثقة الرسول »صلى الله عليه وسلم« وحبه، وموضع ثقة خلفائه وأصحابه، وحبهم.
ففي حياته -عليه الصلاة والسلام- ولاه مع »معاذ بن جبل« أمر اليمن.
وبعد وفاة الرسول عاد الى المدينة، ليحمل مسئولياته في الجهاد الكبير الذي خاضته جيوش الاسلام ضد فارس والروم.
وفي عهد أمير المؤمنين »عمر«، ولاه البصرة..
وولاه الخليفة »عثمان« الكوفة.
<<<
وكان من أهل القرآن، حفظاً، وفقهاً، وعملاً.
ومن كلماته المضيئة عن القرآن:
»اتبعوا القرآن..
ولا تطمعوا في أن يتبعكم القرآن«!!
وكان من أهل العبادة المثابرين.
وفي الايام القائظة التي يكاد حرها يزهق الانفاس كنت تجد »أبا موسى« يلقاها لقاء مشتاق، ليصومها، ويقول:
»لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريَّاً يوم القيامة«.
<<<
وذات يوم رطيب جاءه أجله..
وكست محياه اشراقة من يرجو رحمة الله وحسن ثوابه..
والكلمات التي كان يرددها دائماً طوال حياته المؤمنة، راح لسانه الآن وهو في لحظات الرحيل يرددها..
تلك هي: »اللهم انت السلام.. ومنك السلام«.
|