موقع المؤتمر نت



موقع مايو نيوز



موقع معهد الميثاق


القوات اليمنية تدشن المرحلة الرابعة ضد الاحتلال الصهيوني - 3 مجازر و26 شهيدًا بعدوان الاحتلال على غزة في 24 ساعة - عدوان أمريكي جديد على صيادين يمنيين - اليونسكو تمنح جائزة الصحافة للصحفيين الفلسطينيين بغزة - سلسلة غارات عدوانية جديدة على الحديدة - ارتفاع حصيلة الشهداء فى غزة إلى 34596 - حادث مروع يقتل ويصيب 31 شخصاً في عمران - ارتفاع حصيلة الشهداء في غزة إلى 34568 - غزة.. ارتفاع نسبة الفقر إلى أكثر من 90% - نائب رئيس المؤتمر يعزي القاضي شرف القليصي -
منوعات
الإثنين, 31-أغسطس-2009
الميثاق نت - عبديغوث عبديغوث -
'لا يسعكم أن تعرفوا ما يعني أن نكون مبصرين في عالم كل من فيه عميان، أنا لست ملكة بل ببساطة تلك الإنسانة التي ولدت لترى هذا الرعب'. العمى/ جوزيه ساراماغو
قال ساراماغو مرة 'أن الاستعارة هي أفضل الطرق لتوصيل الحقيقة'، وروايته 'العمى' التي حولت إلى فيلم سينمائي، واحدة من أعماله التي تجسد هذه الفكرة لديه، فهو يستعير العمى الظاهري للإشارة إلى عمى أعمق عند الإنسان، حين يحوّل سكان مدينة بأكملها واحدا اثر آخر إلى مملكة من العميان، عدا امرأة واحدة يدعوها ساراماغو 'امرأة الجملة كلها' وهي التي تبقى مبصرة طوال العمل، وشاهدة على الأرض الخراب حين يفقد الجميع حاسة البصر، وهنا تحديدا استعارة لفقد فضيلة البصيرة.
في الرواية ـ لم أشاهد الفيلم بعد- يُصاب رجل في مدينة ما بعمى مفاجئ من نوع غريب، 'عمى ابيض' تفريقا له عن العمى الأسود المعتاد، وهو واقف بسيارته عند إشارة المرور بانتظار الإشارة الخضراء للانطلاق:
'إن ما نسميه عمى هو ببساطة شيء ما يغطي مظهر وكينونة الأشياء، يتركها سليمة خلف حجاب أسود. هذا هو ذا الآن وعلى العكس غارق في بياض مبهر مطبق، بياض يبتلع بدلا من أن يمتص، لا الألوان فقط وإنما كذلك كل الأشياء والكائنات كلها وهكذا يجعلها غير مرئية مرتين'.
الرجل الذي أصيب بالعمى أول مرة يُدعى 'الأعمى الأول' والرجل الذي أوصله إلى بيته ومن ثم سرق سيارته وأصيب بالعمى بدوره يُدعى 'الرجل الذي سرق السيارة'، وهناك 'زوجة الأعمى الأول' و 'الرجل ذو العين المعصوبة' و 'الفتاة ذات النظارة السوداء' و 'الطفل الأحول' و'الطبيب' و'زوجة الطبيب'، كلها شخصيات روائية بلا أسماء، إنها مجرد أِشباح هائمة في المدينة، ليس لها سوى صفات وألقاب لتمييزهم عن بعضهم البعض، وهذه الشخصيات عندما تصاب جميعها بالعمى ما عدا زوجة الطبيب ، تبقى متلازمة، حين تحول هذا النوع من العمى النادر إلى وباء اجتاح المدينة كلها، مما دفع السلطات إلى احتجاز كل العميان، ومن له صلة قرابة أو معرفة بهم حتى لو لم يصب بالعمى بعد ، في محجر صحي خارج المدينة أشبه بمستعمرة للجذام، ولكن بعد أن يعمى الجميع ما عدا 'امرأة الجملة كلها'، يفر حرس المحجر الذين عموا بدورهم. المدينة كلها عمياء، البلدة كلها عمياء.
يصور لنا ساراماغو الصراع المضحك المبكي بين العميان في المحجر على الطعام والأسرّة ودورات المياه والممرات الطافحة بالغائط، هذا الصراع الذي يتطور من احتجاز 'عصابة من السفاحين' للطعام ومنعه عن العنابر الأخرى بقوة السلاح، إلى الصراع على النساء في صور استعارية مقززة لسعار الاغتصاب والدم والنتانة البشرية. إنهم أشبه بحيوانات جائعة في قفص لا تحركها سوى غريزتها البهيمية، وهي صورة مصغرة للصراع البشري على السلطة والنفوذ والمال والنساء.
ولكن حينما تتعرض المبصرة الوحيدة للاغتصاب ضمن مجموعة النساء فإنها تضطر أن تقتل الزعيم المتوحش دفاعا عن شرفها:
' لن تنال الوقت لتبلغ نشوتك، فكرت زوجة الطبيب لنفسها وهي تهوي بيدها بقوة هائلة. انغرزت شفرتا المقص عميقا في حنجرة الأعمى والتفتا قاطعتين الغضروف والأنسجة الرقيقة، ومن ثم غاصتا بعنف أكبر حتى وصلتا فقرات الرقبة.بالكاد سُمع صراخه، قد يكون قباع حيوان على وشك أن يقذف كما كان يحدث مع الرجال الآخرين......................'
بعدها يشب حريق هائل في المحجر بفعل امرأة أخرى أثناء الصراع في مشهد لم يتوقع النزلاء أن فيه خلاصهم من مشفى المجانين هذا :
' انهار سقف الجناح مترافقا مع صوت حطام مرعب، ناشرا ألسنة اللهب في كل الاتجاهات فاندفع النزلاء إلى الساحة يصرخون بأعلى صوتهم، بعضهم بقي في الداخل، لم يهرب فسحقتهم الجدران وبعضهم الآخر انسحق تحت الأقدام وتحول إلى كتل دموية عديمة الشكل . إن النار التي اندلعت فجأة ستحيل كل شيء بسرعة إلى رماد. البوابة مفتوحة على مصراعيها. لقد نجا المجانين'.
يُجرجر العميان الناجون من الحريق أنفسهم، كل يحاول أن يسند أو يستند على الآخر، عليهم أسمال تفضح عريهم ، صوب المدينة بحثا عن طعام وكساء برعاية زوجة الطبيب المبصرة الوفية يرافقها زوجها، الأعمى الأول، زوجة الأعمى الأول، الرجل ذو العين المعصوبة، الفتاة ذات النظارة السوداء، الطفل الأحول، ويجدون المدينة وقد تحولات إلى تلال من القاذورات، الجثث مبعثرة في الشوارع وقد نهشتها الحيوانات التي بقيت ـ ويا للمفارقة- مُبصرة بين البشر، لا ماء نظيفاً ولا كهرباء والبيوت والبقالات عامرة بالعميان المتراكمة والمتبعثرة كيفما اتفق في مشهد قيامي مرعب.
لكن النفس البشرية لا تكف عن البحث عن حلول في مصائبها في اتجاهات متناقضة، تجسد من جهة أخرى صراع الأفكار البشرية، تلك الأفكار التي تصنع التيارات والأحزاب والثورات والدول منذ أن طُرد الإنسان من الجنة.
' اجتازوا ساحة حيث كانت مجموعة عميان تتسلى بالاستماع إلى خطابات عميان آخرين. للوهلة الأولى لا تخال الجميع عميانا فالمتكلمون يديرون وجوههم صوب المستمعين والمستمعون يشرئبون بأعناقهم إلى المتكلمين'.
يعبر ساراماغو هنا على لسان المبصرة الوحيدة بين عميان المدينة، عن فكرة 'العمى الكلي' للبشرية، عندما تعاين كل هذا الخراب وكل هذه النظريات المضحكة في مشهدين متشابهين ظاهريا، لكنهما يتحدثان عن فكرتين متناقضتين في الواقع.
يدور خطاب المجوعة الأولى حول أفكار (بدائية روحانية) : ' كانوا يعلنون عن نهاية العالم، عن الخلاص عبر التوبة، عن رؤى اليوم السابع، ومجيء الملائكة، اصطدامات كونية، انطفاء الشمس، الروح القبلية، نسغ اللقاح ـ نبات عشبي ، مرهم النمر، طهارة الأمارة، انضباط الريح، عطر القمر، البرء من الظلمة، قوة التعويذة، أمارة الهاوية، صلب الوردة، طهارة اللنف ـ سائل عديم اللون، دم القطة السوداء، نوم الظل، فيضان البحار، منطق أكل لحم البشر، الاخصاء غير المؤلم، الوشم المقدس، العمى الطوعي، الأفكار المحدبة أو المتكهفة أو الأفقية أو العمودية أو المائلة أو المكثفة أو المتشتتة أو الرشيقة، عن وهن الاحبال الصوتية وموت الكلمة'.
أما لسان حال المجموعة الثانية فينظّر في أفكار (مادية حديثة): 'كانوا يمجدون فضائل المبادئ الأساسية للأنظمة عظيمة التنظيم، الملكية الخاصة، السوق النقدية الحرة، اقتصاد السوق، تبادل المواد الخام، ويبجّلون فرض الضرائب، الفائدة، التجريد من الملكية الخاصة، التخصيص، الإنتاج، التوزيع، الاستهلاك، العرض والطلب، الفقر والثروة، الاتصالات، القمع والجنوح، قانون السير، القواميس، إدارة الهاتف، شبكات البغاء، مصانع الأسلحة، القوات المسلحة، المدافن، الشرطة، التهريب، المخدرات، ترخيص التجارة غير المشروعة، البحوث الصيدلانية، المقامرة، أسعار القساوسة والجنازات، الحكومات، الأفكار المحدبة أو المتكهفة أو الأفقية أو العمودية أو المائلة أو المكثفة أو المتشتتة أو الرشيقة، اهتراء الحبال الصوتية، موت الكلمة'.
هذا هو الدرك الأسفل الذي وصل إليه الإنسان الأعمى بأفكاره المتضاربة، هذا الكائن الأكثر تناقضا من كل الكائنات الأخرى على وجه البسيطة. هذه هي الحقيقة الموجعة التي أراد ساراماغو أن يوصلها لنا في إشارة إلى عقم الأفكار البشرية والتي رغم ذلك تسبب لنا كل هذا الصراع وكل هذه الآلام، هكذا تعمى المدينة ويصبح حال المبصر فيها مثلما جاء على لسان البطلة مخاطبة زوجها الطبيب في بداية 'العمى':
' نحن الآن في مملكة العميان القاسية، الوحشية، الحقود. فقط لو ترى ما أنا مجبرة على رؤيته لرغبت لو أنك أعمى'!.
وحين تجرجر نفسها من شدة التعب بصحبة زوجها إلى كنيسة قريبة، تفاجأ بأن كل عيون القديسين التي في صور الكنيسة معصوبة العينين أيضا وبوشاح أبيض، مثل لون العمى الذي طال حتى المُقدّس ، وعندما يعمى الملاذ الأخير للإنسان في ضعفه لا بد أن يصرخ:
' انه الإنسان الأكثر عدلا وتطرفا، يدخل هنا ليعلن أن الكلي القدرة ليس جديرا بأن يرى'.
في نهاية الرواية التي ـ ربما- لن يتوقع القارئ نهايتها، يخاطب الطبيب زوجته:
'شكرا لعينيك اللتين بفضلهما نحن أقل عمى'.
لكن القارئ لا يسعه إلا أن يردد نفس عبارة الشكر هذه لساراماغو، الذي يتمنى بدوره على لسان كاتب أعمى يحاور المبصرة الوحيدة في الرواية نفسها ، كتابة رواية عن العمى:
- أود لو تخبريني كيف عشتم في المحجر؟
- لماذا؟
- لأني كاتب.
- كان يجب أن تعيش هناك.
- الكاتب كالآخرين تماما لا يستطيع معرفة كل شيء، ولا يستطيع تجريب كل شيء فيجب عليه أن يسأل ويتخيل.
- قد أخبرك عن ذلك ذات يوم، ويمكنك أن تؤلف كتابا.
شكرا لعينيك ـ ساراماغو- اللتين بفضلهما نحن أقل عمى'، شكرا لتأليفهما هذا الكتاب المُبصر.
رواية العمى، جوزيه ساراماغو، ترجمة: محمد حبيب، المدى، الطبعة الأولى 2002
شاعر من عُمان
[email protected]
أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
معجب بهذا الخبر
انشر في فيسبوك
انشر في تويتر
المزيد من "منوعات"

عناوين أخرى

الافتتاحية
ذكرى الصمود التاسعة..و صوابية مواقف المؤتمر
فريق ركن دكتور/ قاسم لبوزة- نائب رئيس المؤتمر الشعبي العام

حوارات
جريمة الرئاسة
مقالات
شوقي هائل.. الشخصية القيادية الملهمة
راسل القرشي

ضبابية المشهد.. إلى أين؟
إياد فاضل*

"الكوتشينا".. على الطريقة الإيرانية..!!
د. عبدالوهاب الروحاني

أبوراس.. موقف مشرّف مع القضية الفلسطينية
سعيد مسعود عوض الجريري*

" غَزَّة ".. كاشفة
أحمد الزبيري

حتى لا يصبح بلد الحكمة منسياً وفاشلاً.. “دعوة للحوار والسلام”
عبدالله الصعفاني

حب الوطن أغلى من المال
عبد السلام الدباء

ماذا تفعل البحرية الهندية في البحر الأحمر؟
منذر سليمان

دولة العدل والمساواة
علي القحوم

عنتر أبو "الجَلَن" !!
عبدالرحمن بجاش

اليمن على مدار السرطان!!
علي أحمد مثنى

جميع حقوق النشر محفوظة 2006-2024 لـ(الميثاق نت)