أحمد الحبيشي - لحظة حرية: لليمن.. لا لعلي عبدالله صالح (8)
يصعب فهم الوضع الحالي الذي آل إليه تكتل ( أحزاب اللقاء المشترك )عموما والحزب الاشتراكي اليمني خصوصاً، بدون منهج تحليلي نقدي لا يتجاهل النجاح الذي حققه تيار مسدوس باعوم داخل اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني، في فرض أجندته السياسية على ما يسمى تيار الأغلبية في اللجنة المركزية الذي وجد نفسه إلى جانب حلفائه في تكتل (اللقاء المشترك ) مخطوفاً على أيدي أنصار هذا التيار في الشارع الذي راهنوا عليه، حيث يتم اختزال قضية إزالة آثار حرب صيف 1994م وهي قضية وطنية بامتياز في صيغة (هوية جنوبية ) مفترضة ومتماهية مع مشاريع بالية وميتة، تسللت عظامها الرميمة إلى لا وعي الذين تدثروا بأتربة ورياح الشوارع التي أوهمتهم بأنّ التاريخ سيعود إلى الوراء يوماً لإحياء ليس فقط (الجنوب والشمال)، بل اليمن واتحاد الجنوب العربي، بمعنى أنّ تياري الأغلبية والأقلية اللذين التقيا على حين غرّة في الشارع المنقلب على الديمقراطية ونتائج صناديق الاقتراع، لا يتحدثان - بطبيعة الحال - عن المصالح الحقيقية للناس في الجنوب، بل عن مصالح فوقية وامتيازات نخبوية لحفنة من السياسيين المدمنين على الفشل وصناعة الأزمات والحروب الداخلية والكوارث. ولوكان هذان التياران يدافعان حقاً عن مصالح أهلنا في الجنوب، فثمة طرق وأبواب ووسائل متاحة وفاعلة يمكن استخدامها.. إذ لا يوجد وجه واحد فقط للحقيقة.. ولا توجد وسيلة واحدة فقط لخدمة مصالح الناس.
من المفارقات المدهشة أن يلتقي تكتل ( أحزاب اللقاء المشترك ) وتيار الأقلية في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني وسط الشارع، بينما كانا قبل ذلك خصمين لدودين، بعد أن أصبح الحوار بين مكونات العملية السياسية في السلطة والمعارضة مدعاة للخصومة والانقسام، بينما يكون صراخ الغوغاء وغبار الأتربة في الشارع حافزاً للوحدة بين القوى المعارضة للسلطة ونظام الحكم، بعد أن تخلى الحزب الاشتراكي اليمني وحلفاؤه في ( اللقاء المشترك ) عن قضاياهم الوطنية ليستبدلوها بما تسمى ( القضية الجنوبية ). لكن الذين يتحدثون اليوم عن الجنوب بعد تسعة عشر عاماً ونيف منذ قيام الوحدة، وبعد خمسة عشر عاماً من حرب صيف 1994م المشؤومة يتجاهلون حقيقة أنّ هزيمة الحزب الاشتراكي في تلك الحرب وخروجه من السلطة بعد إعلان وفشل مشروع الانفصال، ما كانا ليحدثا لوأنّ الحزب استوعب المتغيرات الداخلية والخارجية التي حصلت خلال السنوات الأربع بعد قيام الوحدة، حيث لم يتمكن الحزب بسبب عدم استيعاب تلك المتغيرات من إعادة إنتاج شروط وضعه السابق قبل الوحدة في بيئة سياسية مختلفة وعالم واقعي متغير.
أما وقد أنهزم الحزب في تلك الحرب، ومرَّت بعد هزيمته خمسة عشر عاماً أحدثت هي الأخرى متغيرات وتحولات وحقائق جديدة سواء داخل المجتمع أوالنظام السياسي أوالحزب نفسه، بالإضافة إلى متغيرات عاصفة وجوهرية على الصعيد العالمي أفرزت تحديات ضاغطة باتجاه إعادة تعريف حقائق وثوابت تاريخية مثل الدولة والهوية والسيادة والعولمة، وإعادة صياغة معايير ومفاهيم الحرية والحق والعدالة والأمن والإرهاب والشرعية الدولية، فمن العبث أن يصر الذين يتحدثون عما تسمى بالقضية الجنوبية على تجاهل ضغوط وتحديات هذه المتغيرات الداخلية والخارجية، وإنكار انعكاساتها على الوعي والفكر والسياسة والممارسة، خصوصاً وأنّ ما تسمى بالقضية الجنوبية مفتوحة على مشاريع بالية وميتة تجاوزها ليس التاريخ الوطني الحديث لكفاح شعبنا فحسب، بل وتاريخ هذه الحقبة من عصرنا الراهن . إذ يصعب على العقل الحي صياغة برنامج سياسي يستهدف إعادة إنتاج أوضاع قديمة وأدوات بالية ومشاريع ميتة، وما يترتب على ذلك من إهدار لضرورة التجاوز والاستشراف، وتكريس شكل آخر للطوباوية السلفية التي تهدر البُعد التاريخي للزمن، بإصرارها على الإقامة الدائمة في الماضي، والاعتقاد بأوهام القدرة على إعادة تعريف الزمان والمكان من خلال إعادتهما إلى نقطة سابقة في تاريخ ماضوي وجغرافيا قديمة.
ما من شك في أنّ اختزال المطالبة بالحوار بين السلطة والمعارضة في شروط ومطالب تتعلق بما تسمى (القضية الجنوبية) لا يجعل هذه المطالب ممكنة التحقيق في داخل الحزب نفسه، بل ويجعلها غير مؤهلة للحصول على إجماع (اللقاء المشترك) منذ أن أصبح الحزب الاشتراكي مجرد لوبي صغير في ماكنة هذا التكتل الذي يقوده حزب ( التجمع اليمني للإصلاح)، علماً بأنّ حزب “الإصلاح” درج على استخدام (القضية الجنوبية) بعد فشله في الانتخابات الرئاسية والمحلية كورقة سياسية ضمن أوراق أخرى في تكتيك اللجوء إلى الشارع، بهدف إرباك السلطة وإضعافها سياسياً واقتصادياً وأمنياً، بما يكفل منع تنفيذ البرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية والحزب الحاكم، وتمهيد الطريق لوصول حزب التجمع اليمني للإصلاح إلى السلطة وتنفيذ برنامجه السياسي الملتبس بالمشروع التاريخي لحركات الإسلام السياسي الصحوي الذي ينطلق من فكرة بناء الدولة الإسلامية الإمبراطورية وإعادة نظام الخلافة. وهي فكرة لم يبلور حزب (الإصلاح) حتى الآن قطيعة سياسية وأيديولوجية معها، ولم يحدد حتى الآن موقفاً نقدياً واضحاً وشجاعاً من تناقضها الصريح والسافر مع الدستور والنظام الجمهوري والديمقراطية التعددية وميثاق الأمم المتحدة وميثاق الجامعة العربية، بما هي ثوابت وطنية ودولية يجري الالتفاف عليها من خلال خطاب سياسي وإعلامي تكتيكي أضطر الأخوان المسلمون الذين يقودون حزب (الإصلاح) إلى تبنيه بعد قيام الوحدة والتحول نحوالديمقراطية التعددية.
وقد تعزز هذا الاتجاه لدى الأخوان المسلمين في حزب (الإصلاح) بعد انتخابات 1997م وخروجهم من المشاركة في السلطة إلى المعارضة، وتحالفهم مع الحزب الاشتراكي اليمني في إطار " اللقاء المشترك "، وصولاً إلى انخراطهم العلني والسافر في برامج نشر الديمقراطية التي تمولها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي بهدف الاستفادة من مفاعيلها الدولية وتوظيفها لدعم وصول (الإسلام السياسي) إلى السلطة في اليمن عبر الديمقراطية، وهوموضوع سيكون لنا معه وقفة تحليلية في القسم الثاني من هذا المقال عندما ننتناول بنية الخطاب السلفي العام في اليمن بعد إجازة عيد الفطر المبارك بإذن الله .
وما من شك في أن إصرار تكتل (اللقاء المشترك) على رفض دعوة رئيس الجمهورية الأخيرة للحوار حول مشروع التعديلات السياسية التي طالت شكل النظام السياسي والسلطتين التنفيذية والتشريعية مع تحديد الفترات الدستورية للرئاسة والسلطة التشريعية، باتجاه إقامة حكم رئاسي كامل يستند إلى حكم محلي منتخب وواسع الصلاحيات والموارد، يقدم دليلاً إضافياً على أنّ أحزاب (اللقاء المشترك) غير مؤهلة هي الأخرى لمعالجة القضايا الجوهرية التي تتعلق بمصائر البلاد عن طريق الحوار السياسي، بما هو أحد آليات العملية الديمقراطية التي تشارك فيها.
وأرجو أن أكون مخطئاً في التقدير حين أرى أجندة أحزاب (اللقاء المشترك ) بقيادة حزب التجمع للإصلاح وهي تتجه بوضوح منذ فشلها في الانتخابات الرئاسية والمحلية عام 2006م إلى الانقلاب على الديمقراطية بواسطة (( انتفاضة ثورية شعبية )) تقوم بها هذه الأحزاب من خلال ناخبي الأقلية في الشارع، بعد أن فقدت ثقة غالبية الناخبين عبر صناديق الاقتراع . بمعنى أنّ طبول المجابهة في الشوارع صارت هي صاحبة الصوت الأعلى مقابل صوت الحوار السياسي في الأطر الديمقراطية للمجتمع المدني والمؤسسات الدستورية للنظام السياسي.
ومن نافل القول أنّ مشروع اتحاد الجنوب العربي كان يستهدف نزع الهوية اليمنية عن الجنوب المحتل، وتلفيق هوية بديلة.. وقد بدأ هذا المشروع يلفظ أنفاسه الأخيرة بقيام ثورة 14 أكتوبر التي أنجزت الاستقلال الوطني للجنوب، وأطلقت الرصاصة الأخيرة على مشروع "الجنوب العربي” بما هونظام حكم أنجلوسلاطيني معادٍ للهوية الوطنية اليمنية، وأقامت على أنقاضه جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي أعادت الهوية اليمنية إلى جنوب الوطن بعد تحريره من الاستعمار في 30 نوفمبر 1967م، وصولاً إلى قيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو1990م، التي أعادت للوطن اليمني المشطور وجهه الشرعي الواحد.
والحال أن أحزاب ( اللقاء المشترك ) تفرط كثيراً في الدعوة الى مصالحة وطنية عبر حوارٍ وطني بين القوى السياسية في السلطة والمعارضة . ويتوجب التوقف أمام هذا النوع من المطالب والمقدمة السياسية التي هيأت لها، من خلال حركة الاعتصامات والاحتجاجات التي حرضت عليها قيادات حزبية وقبلية معارضة على نحوما أشرنا إليه في الحلقات السابقة من هذا المقال .
اللافت للنظر أنّ الخطاب السياسي والإعلامي لأحزاب ( اللقاء المشترك ) يتجاهل المسؤولية التي يتحملها تكتيك (اللجوء إلى الشارع ) عن التداعيات الخطيرة التي نجمت عن هذا التكتيك، وما ترتب عليه من مخاطر لا تهدد فقط السلم الأهلي والوحدة الوطنية، بل أنّها تمتد لتفتح الأبواب واسعة لدخول تيارات مختلفة من الداخل والخارج، وإحياء مشاريع ميتة دفنتها الحركة الوطنية اليمنية بنضالها وتضحياتها، وبالذات نضال وتضحيات أبناء الجنوب اليمني الذين تصدوا لمشروع (الجنوب العربي ) عندما حاول الاستعمار البريطاني تمريره بهدف تطويق شعارات الاستقلال والوحدة اليمنية التي رفعتها الأحزاب والقوى السياسية الوطنية والنقابات العمالية ومنظمات الطلاب والشباب والنساء في منتصف الخمسينات، على إثر ظهور الطبقة العاملة اليمنية كقوة سياسية منظمة في نقابات، وانخراطها في العمل الوطني التحرري، حيث كان الهدف من هذا المشروع يتمحور حول سلب وطمس الهوية اليمنية للجنوب المحتل وتلفيق هوية بديلة ومزيفة بدلاً عنها.
ومما له دلالة أنّ الخطاب السياسي والاعلامي المعارض لا ينكر مخاطر انفتاح تكتيك اللجوء إلى الشارع على كل الاحتمالات والكوارث التي تهدد بتمزيق وحدة الوطن وتماسك نسيجه الاجتماعي، وبضمنها مشروع (الجنوب العربي) ومشروع (حضرموت التاريخية )، التي حرص الاستعمار على أن يحتفظ لها بكيان مستقل عن اتحاد الجنوبي العربي. لكن هذا الخطاب يتناول هذه المخاطر بحياء شديد وبهروب إلى الخلف وليس إلى الأمام حيث يكتفي بالتحذير مما درج قادة أحزاب ( اللقاء المشترك ) في مؤتمراتهم الصحفية وفعالياتهم الاعلامية على وصفه بالانهيار المحتوم، بعد دخول اليمن في نفق مظلم بحسب خطابهم السياسي والإعلامي، في إشارة تبريرية لتفاعل بعض اللاعبين السياسيين في حركة الشارع من المحسوبين على الحزب الاشتراكي اليمني وأحزاب ( اللقاء المشترك ) مع الخطاب المشبوه والشعارات الانفصالية التي تتحدث عن (الجنوب العربي) و( حضرموت التاريخية قبل الوحدة والشرعية) عبر بعض المسيرات والمقالات والمداخلات في بعض وسائل الإعلام المحلية والعربية على طريق التعاطي مع ما تسمى بالقضية الجنوبية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ اصطلاح (القضية الجنوبية) كان عنواناً لثقافة سياسية استعمارية سلاطينية رجعية استهدفت طرح قضية الجنوب المحتل والتعامل معها من منظور جيوسياسي انعزالي يخرج مصير الجنوب اليمني وأهله من هويتهم الوطنية اليمنية، ويبعدهم عن مصيرهم المستند إلى حقائق التاريخ والجغرافيا ووحدة الأرض والإنسان والمصير.
ولما كانت الوحدة التي تحققت في الثاني والعشرين من مايو1990م قد اقترنت بالديمقراطية كشرطٍ لحمايتها وترسيخها وتعميق مضمونها الوطني، فمن الطبيعي أن تتعرض الوحدة للخطر عند الخروج عن مبادئ وقواعد الممارسة الديمقراطية وعدم الاعتراف بنتائجها والسعي للانقلاب عليها عبر التهديد باللجوء إلى الشارع على نحوما أعلنته أحزاب (اللقاء المشترك) فور إعلان فشلها في الانتخابات الرئاسية والمحلية لعام 2006م، وما فعلته بعد أقل من مرور عام على تلك الانتخابات من خلال تحريض الشارع ضد نتائج تلك الانتخابات التي شهد العالم بشفافيتها وتعدديتها وأبدى إعجابه بالروح التنافسية غير المسبوقة التي تميزت بها.
|