بقلم / احمد ماهر -
لا أدري كيف تسللت كلمة «محادثات» لتحل محل كلمة «مصادمات» عند حديثي في مقالي السابق عن الوضع الفلسطيني والعلاقات بين الرئاسة والحكومة وبين فتح وحماس.
ولعله خطأ مطبعي أو لعله العقل الباطن الذي عكس الألم ازاء مصادمات مادية وكلامية هي طعنة للقضية الفلسطينية وللوضع العربي عامة الذي يعاني ما يكفيه ويزيد من مآس وكوارث، كما عكس الأمل في إمكانية تخطي المأساة عن طريق محادثات لا تستهدف لا المصلحة الفلسطينية بعيدا عن التنافس المؤلم النابع عن مشاعر المرارة والإحباط ، أو عن تحريضات بغيضة سعى اليها البعض، واستجاب البعض الآخر فتاهت أو كادت المصلحة الوطنية والقومية.
واذا كانت ملابسات فشل محادثات اقامة حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية غامضة في بعض نواحيها، فانه لا يمكن تجنب شكوك تتصل بدور امريكي نرى امتداداته في العالم العربي كله، يجب التصدي له ليس بالعصبية التي قد تقود الى الوقوع في الفخاخ التي تنصبها لنا مخططات متعددة الأطراف متحدة الأهداف الخبيثة، بل عن طريق الدراسة المتأنية المبنية على النظرة بعيدة المدى الشاملة التي تتجاوز مصالح آنية ضيقة لترسم مستقبل الأمة الذي يرجوه لها أبناؤها ويجب عليهم ان يعملوا على تحقيقه. ويقضى هذا بادئ ذي بدء أن ندرك أن ما يدبر لبلد أو شعب سوف ينعكس بالضرورة ـ حتى اذا اختلفت الدرجة ـ على جميع البلاد والشعوب الأخرى، وان إضعاف الجزء يصيب بقية الأجزاء بالوهن.
وليس هذا كلاما حماسيا أو رومانتيكيا، بل هو تعبير عن واقع يؤكد أن الأمن الوطني لأية دولة عربية مرتبط بالأمن القومي لمنطقة ينظر اليها الآخرون على أنها واحدة ـ حتى اذا صنفوا أجزاءها بالمعتدلين والمتطرفين ـ وبالتالي علينا من باب أولى ان ننظر اليها بنفس النظرة، وان ننصر أشقاءنا حتى إذا كان نصرهم يجب في بعض الأحيان أن يأخذ شكل النصيحة الصريحة المخلصة المبنية على التشاور الحقيقي والمصارحة والتحليل الجاد للواقع الذي قد يؤدي احيانا الى اللوم أو العتاب.
اذا نظرنا الى فلسطين نرى ما نرى من جريمة مأساوية في حق الشعب وواقعه وحاضره ومستقبله ليس هناك ما يبررها ما دام الهدف واحدا وهو استعادة الحقوق واقامة الدولة الفلسطينية التي يتمكن الشعب فيها أن يمارس ـ بعد طول حرمان ـ سيادته على أرضه يعيش فوقها حرا كريما حتى اذا شعر البعض أنها لا تستجيب تماما للحجم الذي كان يرجوه او يتمناه. وإذا كنت أرى من الظلم محاولة إلغاء نتيجة الانتخابات النزيهة الحرة التي جاءت بحماس إلى الحكم، ومن غير المنطقي تحميل الحكومة كامل نتائج تعرضها من اليوم الأول لحصار خانق استهدف تجويع الشعب الفلسطيني كله بهدف عقابه، ولكن أيضا بهدف اثارته ضد حكومته كما حدث من قبل في دول اخرى تعرضت لمثل هذه المؤامرة، فإني في نفس الوقت أرى ان على حماس وفتح ان تلتقيا لوضع حد لهذا الأمر بدلا من ان تدخلا في صراعات لا يستفيد منها الا من يعملون على تفتيت الأمة العربية، كما نرى في السودان حيث ما تكاد أزمة تقترب من نهايتها حتى يتم ازكاء النار ودفع البلاد كلها شمالها وجنوبها وغربها وشرقها الى اتجاهات تؤدي الى هاوية سحيقة. وهناك لبنان حيث يتم اجهاض لحظات اتحد فيها الجميع ـ رغم تحفظاتهم ـ لمواجهة العدوان الإسرائيلي، وذلك عن طريق اثارة نعرات كنا نتمنى على جميع الاطراف دون استثناء ـ بما فيهم حزب الله بما حققه من صمود بطولي ـ ان يتجنبوها ليتفرغوا لاعادة بناء الدولة ليس فقط ماديا بل معنويا وسياسيا، والاستفادة من دروس الماضي القريب والبعيد، بما يسمح بتنظيم الايجابيات وتجنب الأخطاء وحرمان من يضمرون الشر للبنان من جني ثمار مؤامرتهم. وهناك العراق الذي أوصلته الولايات المتحدة بسياستها الخرقاء الى وضع يكاد يكون الأقرب إلى ما عاناه شعبه تحت حكم صدام حسين، وذلك رغم الدعاوى التي سمعناها مدوية ثم ما لبثت أن خفتت استمرار المكابرة من جانب مخططي تلك الكارثة التي ما زال البعض يسميها انتصارا أو تقدما أو نجاحا.
وقد اكتشف الشعب الأمريكي زيف تلك الادعاءات، وانه بدلا من ان ينشر نظامه الديمقراطي في العالم ويقضي على الإرهاب ساهم في نشر الإرهاب في العالم وأصاب الديموقراطية في الوطن الأم ذاته اصابات بالغة جعلت منها الضحية الأولى. ولعل آخر ضربة وجهت للديموقراطية هي القوانين التي تبيح التعذيب ـ حتى اذا كان ذلك تحت مسميات أخرى ـ وتسمح بمخالفة الاتفاقيات الدولية تحت ستار تفسيرها، وتحتجز من تشاء في سجون سرية أو في معتقلات مثل جوانتنامو لا تخضع للقواعد القانونية المعروفة، ولا تلتزم بتوجيه التهم اليهم في زمن محدد كما تعلمنا حتى من الروايات البوليسية الأمريكية قبل ان نتعلمه في كليات الحقوق، فإذا قدمتهم للمحاكمة اتاحت اخفاء بعض الأدلة عنهم حرمانا لهم من حق الدفاع المفروض انه مكفول لكل متهم على اساس مبدأ انه بريء الى ان يثبت العكس. وقد استطاعوا ان يقلبوا محاكمة صدام حسين ـ المشكوك في شرعيتها بسبب الجهة التي شكلت المحكمة ووضعت اساسها ـ وهي قوات الاحتلال، الى ملهاة ومأساة في ذات الوقت عن طريق اجراءات مثل عزل القاضي وطرد المتهمين تارة واتاحة الفرصة لهم لخطابات سياسية مطولة تارة أخرى. كل هذا بينما الحرب الأهلية تستمر والضحايا يسقطون، والانقسام بين الشيعة والسنة يتصاعد، بل يصل إلى الانقسام داخل الشيعة وداخل السنة، بينما الأكراد يستسلم بعضهم لأحلام الانفصال الذي يهدد ليس فقط وحدة العراق بل أمن واستقرار المنطقة.
ولعل الشعب الامريكي ذاته قد أدرك خطورة مثل تلك السياسات التي يدفع ثمنها من أرواح أبنائه وسمعة بلاده والنظرة في العالم كله اليها سواء لدى أصدقائها، أو أعدائها، أو ذوي النظرة المختلطة اليها. فقد اثبتت استطلاعات الرأي الأخيرة ان شعبية الرئيس بوش التي كانت في شهر سبتمبر 42% قد هبطت الان الى 39% وان 54% من الناخبين المتوقعين في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر القادم سوف يصوتون للديموقراطيين في مقابل 41% للجمهوريين بسبب السياسة تجاه العراق والفضائح الخلقية التي ظهرت بين صفوفهم ومحاولة التستر عليها، وازاء هذه النتائج ـ كما نشرتها الـ«واشنطن بوست» ـ فقد يكون هناك لدى بعض من تسببوا في هذا الوضع تفكير في «الهروب الى الأمام» كما يقولون بمعنى الدخول في معركة مع ايران او مع كوريا وان كان هذا في تقديري مستبعدا لان في ذلك مساسا بمصالح دول اخرى كبرى او صغرى، حليفة أو صديقة، قد ترى من مصلحتها الابتعاد عن السفينة الغارقة لسياسة فاشلة تورط فيها البعض في بعض الأوقات، ويهمهم الآن إيجاد مسافة بينهم وبينها.
واذا كان هذا هو وضع الإدارة الأمريكية، فإننا يجب ألا ننسى أنها ستظل في الحكم أكثر من عامين، ستكون فيها ضعيفة دون ان يعنى ذلك تخلصها من غواية المغامرات. وعلينا اذن ان نستغل ضعفها بأسلوب عقلاني يشجعها أن تتحرك في اتجاهات تتفق مع مصالحنا وأهدافنا التي هي توخي العدالة في تسوية المشكلات وخاصة تلك التي تهم منطقتنا، وفي نفس الوقت ندفعها بعيدا عن طريق المغامرات المحسوبة او غير المحسوبة.
ويقتضي هذا تخطيطا عربيا شاملا، يتجاوز الخلافات، ويرمم العلاقات، ويتخلى عن المنافسات العقيمة، ويضع خريطة للطريق تحدد المسار وتوزع الأدوار اذا اقتضى الأمر، وترتقي فوق الحساسيات.
وهذه دعوة طالما كررتها ولن أمل من تكرارها حتى اذا كان البعض يتصور انها ضرب من الخيال. فقد عرفت الأمة زمنا اقتربت فيه من تحقيق هذا الأمل قبل ان تعود الى الابتعاد عنه، وكانت حينئذ الأخطار أقل ومع ذلك كانت نتائج الانقسام مرة اخرى مدمرة. وأعتقد أننا قادرون اذا أردنا شعوبا وحكومات على أن نتحرك في الاتجاه الصحيح الذي ينتهز الفرصة بل يخلقها أحيانا. ويحتاج هذا إلى خطط طموحة في جميع المجالات لنعيد بناء حياتنا ومستقبلنا ونبني نهضتنا بعيدا عن محاولات الإملاء أو التسلط، ولتكون قوتنا فاعلة معنويا وماديا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا.
الشرق الأوسط