شائف الحسيني -
لماذا نقول أننا بحاجة إلى حوارات ثقافية وإلى تنمية ثقافة التنمية في أوساط المجتمع وإلى بذل الجهد المتواصل لنشر التنوير في هذا الوقت؟ الجواب بإختصار لأن العامل السياسي بمفرده قد برهن مرة أخرى على فشله في تغيير الواقع وتحسين حياة الناس وإيجاد مناخ يطمئن المجتمع بأنه لن ينجر إلى حروب من هذا القبيل، وبالتالي هذا يستدعي من أرباب السياسة إلى إيلاء الثقافة جل اهتمامهم والبحث عن مخارج أخرى تتسم بالعقلانية والرؤى السليمة والواقعية لطبيعة الحلول إزاء المشاكل القائمة وأخذ العبر من الماضي القريب والبعيد حتى تعاد الأمور إلى نصابها مصداقاً للقول الشائع بأن اليمن واليمنيين هم أهل الحكمة والإيمان.
لقد كانت ثقافة التشرذم التي لايزال يتشرب أفراد المجتمع اليمني اليوم منها غير مطمئنة وهي في واقع الأمر تكرار لمكونات الماضي القريب والبعيد كما أنها ثقافة ماضوية متعصبة ومتقيدة بالنصوص وبها تحشى عقول الفتيان فتتحول بنظرهم وقائع الماضي السلبية إلى حقائق مطلقة لانقاش حولها، يسيرون نحو تحقيقها وإعادة إنتاجها بشتى السبل بما في ذلك العنف والإرهاب في واقع متغير تماماً ومتفجر، فهي تعود في حقيقة الأمر ليس فقط ليوم »سقيفة بني ساعدة« حين اختلف المهاجرون والأنصار على من يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما لعصور ماقبل الإسلام حيث تنازعت القبائل والعشائر على السيادة في المراعي وفي التجارة وغيرها، الكل يسير في هذا الاتجاه، البعض يعلم مايريد والآخرون لايعلمون ولكن الجميع يغترفون من هذه المناهل ويؤطرونها بأستار حديثة رقيقة وضعيفة أوهن من خيوط العنكبوت في عالم لم يعد سوى قرية كونية واحدة بقيادة عولمة مجنونة اختلط فيها الحابل بالنابل.. وفي هذه الأجواء يدعون متفاخرين أنهم منافحون عن تراث ليس له مثيل في الكون بتعصب منافٍ لمبدأ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.
وعندما تبحث لتتلمس خير هذه الأفكار وفائدتها في حياة الناس وماذا قدمت لهم عبر العصور فإنك لاتجد شيئاً يذكر سوى مآسي الحروب وضروب الاختلاف والفقر والتشرد والعوز من كل شيء، الذي دعا الأمم الأخرى للتدخل في اطعام المساكين من أبناء هذه الأمة شفقة ورحمة وعطفاً تحت يافطة الإنسانية وحقوق الإنسان التي سجلتها عبقرياتهم نحو الإنسانية المعذبة.
فتلك الثقافة المتعصبة اليوم هي فيما يعيشه اليمنيون على شكل اطروحات في أحقية الحكم والسلطة فيمن تكون هل هي في الإمامة أو في الخلافة أو في المنطقة أو في القبيلة، لاتؤمن بالجديد ولا بالعصر ولا بصناديق الانتخابات وشعارها »ليس بالإمكان أحسن مما كان«.. »وكل محدثة ضلالة وكل ضلالة في النار«..
هذه تيارات تعيش في الحاضر بأفكار الماضي دون اجتهاد ودون إحياء حقيقي للتراث الذي هو قابل للعيش مع العصر وله مقومات التطور بآفاق عصرية لو راجعت الأطراف المعنية نفسها وتحررت العقول من الموروث الاستبدادي المهيمن وعادت إلى رشدها وسمَّت الأشياء بمسمياتها وكان ذلك ممكناً وميسوراً وأخرجت الوطن من أزمة مستفحلة يعيشها.
وعندما نتأمل في قيم الدين الإسلامي وعظمته يحزن المرء على أمة كرمها الله وجعلها خير أمة أُخرجت للناس تتداعى إلى أسفل سافلين وتعود القهقرة إلى الوراء بهذه الصورة المزرية إلى قرون مضت وإلى عصور ولت وهي متمسكة بقشور تعتقد أنه الحق وما دونه باطل.
الإسلام دين عزة وكرامة، دين تطور ورقي، ما جاء إلاّ ليرفع من مكانة الإنسان بل جعله مستخلفاً في الأرض يزرعها ويعمرها إلى ما شاء الله، وجعل كل بني آدم من أصل واحد لافرق بين عربي ولا أعجمي لا أسود ولا أبيض إلاّ بالتقوى »كلكم لآدم وآدم من تراب«، وقد حاول كثير من علماء المسلمين المستنيرين جعل التراث وقيم الإسلام يتماشى مع العصر الحديث ولكن هيهات هيهات فهؤلاء حاملو القشور بالمرصاد لكل جديد، يستغلون جهل المجتمع فصاروا يفسرون الأشياء على ما يتناسب مع مصالحهم وتوجهاتهم ويبطلون كل رأي بأفق جديد سواءً في الفكر أو في السياسة أو في الاقتصاد أو في غيره فيقدمون للمجتمع حلولاً عدمية لمشاكل عصرية وصار هذا الفهم المتخلف يحتل مساحة واسعة من الواقع وكأنه الحقيقة وما دونه هو كذب وافتراء، وعامة الناس يسمعون الكلام وهذا الخطاب ويرددونه متحمسين، والبعض يسير في هذا الموكب الذي ثمنه دماء وحروب وجهل وتخلف وهم لايعلمون ولكن بالنظر إلى الجهل السائد فإن كثيرين لايفرقون بين الواقع والخيال، بين الحقيقة والخداع ولو أن أي إنسان لديه أدنى مستوى من التفكير البسيط لتأمل في الأمر وسأل نفسه؟
طيب هذا الكلام نسمعه منذ مئات السنين عما يزعمه أصحاب هذه المشاريع أين ثمارها أين عطاؤها؟.. إن كان هو حقاً وإن كان صحيحاً وسليماً؟ فلماذا الفقر يحل في ديارنا لايفارقنا والحروب لاتكاد تنفك عنا والأمراض سارية بين الصغار والكبار والتفرقة تسود الحياة وغير ذلك من الأدران التي يعيشها المجتمع.
يكفي هذا التساؤل ليعطل نظرية التعصب وثقافة الإقصاء والصراعات على الحكم وجر المجتمعات إلى العهود الماضية لاستنطاق الأحكام منه..
هذا الواقع الثقافي المتخلف للأسف نجد له اليوم كتاباً ومفكرين وكتباً ومؤلفات في كل مكتبة وفي كل معرض ولو تم التأمل فيه لوجد القارئ اللبيب في الغالب أنه أشبه بروايات تتحور في كل فترة بالإضافة والحذف ولكنها منقولة ومستوحاة من مصدر واحد يتكرر مع الوقت على حسب الطلب فكل واقعة في كتاب معين يتم تحويرها فيوم السقيفة وعام الجماعة على سبيل المثال لوجدناه حرفياً في عشرات بل مئات الكتب ومن هو ناقل الحقيقة ياترى في هذا الجانب الذي يتحمس له الكثيرون ويقترف منه الجميع دون وعي بمكنونات المفاهيم التي حملتها الروايات والأحاديث وكأن الناس يحملون أسفاراً لا أحد يعلم الحقيقة ويفسر الوقائع تفسيراً سليماً وصحيحاً عقلانياً ومنطقياً وإنما المسألة ناقل ومنقول، تابع ومتبوع.. إن التاريخ في الغالب يكتبه المنتصرون ولم يخضع للتحليل والتمحيص وتسمية الأشياء بمسمياتها وإنما للنقل والتحوير وهذا هو »ما يميز الثقافة العربية منذ عصر التدوين إلى اليوم هو أن الحركة داخلها لاتتجسم في إنتاج الجديد بل في إعادة انتاج القديم«.. (2) صـ15 التراث والحداثة د. محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت لبنان طبعة أولى 1991م.
حيث مثلتا تلك الحادثتين أزمة الفكر العربي حتى يومنا هذا.
أصحاب الناقوس
أما التيار الثقافي الآخر »الناعم« الذي يعيش في واقعنا اليوم وهو عاجز عن مواجهة التحديات وعاجز عن اشاعة ثقافة التنمية وترسيخ الهوية الوطنية في السلوك الاجتماعي هو ذلك الذي يقول: »إن الحاضر ليس له مثيل« في منجزاته وفيما يقدمه في الحياة العامة التي جعلت اليمن جزءاً من العالم الحديث والمعاصر في كل شيء، الديمقراطية عنوانه والعدالة الاجتماعية مضمونه ودستوره والوحدة منجزاته، وفي هذه الاجواء تحوم الثقافة وتدور في مجراء المدح والقدح ويصاب المشهد الثقافي بما يشبه الشلل التام فلايتم التغيير، ولايتم الاستفادة من وسائل العصر المتاحة لمخاطبة الجماهير بطريقة بنَّاءة ولا أتاح المجال للحوار والتفاهم بين الأطياف المختلفة وهؤلاء القائمون عليه حالهم حال الراهب الذي يدق الناقوس قائلاً: أنا مضطر إلى دق الناقوس ما بقيت راهباً«، هذا هو المشهد في جانب منه.
ثقافة الأزمات عنوانها عاش الاستعمار
لم تكن تلك التيارات هي نهاية المطاف في المشهد الثقافي المأزوم الذي تعيشه البلاد حالياً فقد برزت إلى السطح وأفرزت أنماط ثقافية جديدة من واقع الأزمات في اليمن وبوجه أخص الأزمة الأخيرة مع صعود قوى تدعي اختلاف الثقافة بين مناطق اليمن وأجزائه مما يصبح معه صعوبة العيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد، إنها دعوات الانفصال والتمزيق التي ترتفع الأصوات دون حياء أو خجل اليوم للبوح بها وحشد البسطاء لتأييدها والالتفاف حولها، إنهم يسيرون في اتجاه التشكيك في الهوية الوطنية والسير في اتجاه العدمية والبحث عن هويات ضائعة يلبسها البعض بلبوس غريبة عن واقع الثقافة والتاريخ اليمني.
وهذا في الحقيقة هو أخطر خطاب ليس في الثقافة وحسب بل وفي السياسة أيضاً، حيث يقوم بالهدم الخطير لأُسس الوطن الواحد والتاريخ المشترك والسير بالمجتمع نحو الهاوية وتعطيل العقل بدعاية مضللة وتحويل المصالح الشخصية والانانية لأفراد معدودين إلى قضايا عامة تحت عناوين مخادعة »إذا عدنا كما كنا حُلت مشاكلنا« ولكن كلما تؤديه هو استفحال الازمة ودفع ثمنها الباهض من قبل الناس البسطاء وليس حلها.
إن الدعوات الانفصالية اليوم التي يروج لها تحت مبررات وحجج من هذا القبيل هي دعوات ليست في صالح أحد وليست بكل حال حلاً للمشاكل القائمة إنما هي نتاج أفراد فقدوا مصالحهم واستغلوا ظروفاً كثيرة احاطت باليمن من كل جانب سواءً في الإدارة أو في الاقتصاد أو غيره ووظفوها لدعوات هي أبعد ماتكون في صالح اليمن، الاقرار بأن في اليمن مشاكل هي حقيقة لا غبار عليه ولكن الدعوة إلى هذا المستوى المتدني في الطرح ليس إلاّ من باب صب الزيت على النار، وبالتالي إغراق الوطن بالفوضى مما يؤدي في الأخير إلى فقدان كل شيء، وما البديل ياترى؟
إنها المشيخات والسلطنات والمناطقية والمذهبية والحروب الأهلية هي البديل أمام هذه الدعوات الخبيثة الشيطانية الضالة الذي يروج لها من فقدوا مصالحهم وسلطناتهم ويبثوها بين البسطاء من الناس وإيهامهم بجنة أرضية فيها أنهار العسل واللبن وفيها كل شيء، العمل والسكن والصحة والأمن، لو أنهم عادوا إلى الماضي الغابر التشطيري..
فقد ظهرت أصوات ليس فقط تدعو للانفصال وإنما إلى الاشادة بالاستعمار وظهر بعض من يدعون الثقافة مدافعين عن الارث الاستعماري وكأن الصحيح هو ذلك والغلط هو القائم »الثورة والوحدة«، ونسوا التضحيات العظيمة للشعب اليمني من أجل التحرر من الاستعمار الذي كان ثمنه باهظاً من الشهداء والدماء والدموع والعرق على درب الحرية والاستقلال والوحدة، فكيف بهؤلاء يمجدون العهود الماضية التشطيرية الاستعمارية التي كان فيها اليمني من أية منطقة لايستطيع دخول عدن إلاّ بعد أن يمنح تصريح دخول من المستعمر البريطاني، وفي هذا المقام الدفاع عن الإرث الاستعماري فقد انبرى مثقف في منصة الندوة سالفة الذكر يتحدث عن حي »فارليز« بحماس شديد ليدلو بدلوه عن ثقافة المستعمر وما قدمه لهذا الجزء من الوطن في هذا الحي الذي شيد في بداية السبعينيات من القرن الماضي قام بتشييده »جيمي روجيرز« مقراً نموذجياً للبريطانيين في منطقة البريقة حي صلاح الدين حالياً وكيف كان يحتوي- كما يتحدث عنه هذا المثقف على مباهج الحياة وبأنه كان آية في الجمال والروعة، فيه كل شيء المسبح والحديقة والكنيسة والشوارع المرتبة والمشجرة وفناءات الخضرة وكل شيء جميل والكلام لايزال »للمثقف«.
أنه بعد الاستقلال عام 1967م دمرت بعض مظاهر الحضارة في هذا الحي ثم بعد حرب صيف 1994م دمر مابقي على يد الناهبين الذين أخذوا منه حتى أعمدة الكهرباء وغير ذلك مما ساقه من الألفاظ التي يترفع المرء الحديث عنها والقول بها بما فيها من مجافاة للحقيقة وإثارة للفتنة.