إعداد/نجيب شجاع الدين
بانتقال الثوار الى عدن فارين بأرواحهم ناجين بحياتهم تبدأ مرحلة جديدة من حياتهم ومن حياة الثورة سماها الزبيري »مرحلة اليقين الثوري« وقد كانت جديرة بالتسمية، إذ مثلت المنطلق السياسي للثورة ممثلاً بحزب الاحرار الذي اتخذ له من عدن مقراً ومن مجلة »الحكمة« متنفساً.
كانت مجلة »الحكمة« بمثابة النافذة التي يطلون من خلالها على جمهور الشعب وعلى الرأي العام العربي والعالمي فاستطاع الاحرار عبرها، بما حققوه من تجاوب شعبي، ان يقضّوا مضاجع الحكام في صنعاء وذلك باطلاق الصيحات المتعاقبة والمجلجلة، حيث يقول الزبيري:
والحق يبدأ في آهات مكتئب وينتهي بزئير ملؤه نقمُ
تصدرت تلك المرحلة أول صرخة انبرت عن براعة لتهز عرش الطغاة وتزلزله زلزالاً عظيماً ألا وهي الخروج من اليمن السجن الكبير ومطلعها:
خرجنا من السجن شم الأنوف كما تخرج الأسد من غابها
تلتها صيحته الشهيرة التي سجلت وكما أراد لها أمر قلمه:
سجل مكانك في التاريخ يا قلم فها هنا تبعث الأجيال والأمم
اما ثالثتها فهي صرخة الى النائمين، أراد لها أن تكون ايقاضية فكانت بما كثف فيها الشاعر من الاستفسارات المتواترة على غرار قوله:
ما لليمانيين في نظراتهم
بؤس وفي كلماتهم آلام
جهل وامراض وظلم فادح
ومخافة ومجاعة وإمام
والناس بين مكبل في رجله
قيد وفي فمه البيلغ لجام
أو خائف لم يدر ما ينتابه
منهم أسجن الدهر أم إعدام
فالاجتماع جريمة أزلية
والعلم إثم ٌوالكلام حرام
وفي هذه الصرخة المدوية يبلغ استنهاض الشعب من خمولة وغيبوبته مداه ويبلغ التحريض والتعريض حداً أصاب الامام يحيى بالهستيريا وافقده السيطرة على اعصابه حتى وصل به الحال الى اصدار اوامر لجنوده بسرعة هدم مساكن الوطنيين وفي مقدمتهم منزل الزبيري وزميله الموشكي ظناً منه أنه بإصداره تلك الأوامر قد أصاب منهم مأمله وشفى فيهم غليله ولكن هيهات ان تضعف لذلك العمل الهمجي ارادتهم او تخور منه قواهم او تهن عزائمهم وهم الذي وهبوا ارواحهم رخيصة في سبيل الوطن على حد قول الزبيري:
بحثت عن هبة احبوك يا وطني
فلم أجد لك إلا قلبي الدامي
بل ان ذلك زادهم اصراراً على اصرارهم وتمسكاً بقضية الهم الجماهيري مضحين من أجله بالهموم الفردية مغلبين مصلحة الوطن والشعب..وعلى اثر ذلك العمل المجنون الذي قام به الامام تجود قريحة الموشكي بقصيدة رائعة من اعذب ما كتب من شعر يقول في مطلعها معرضاً بفعل الامام مؤكداً ان ذلك ايذاناً بالسقوط:
خاف السقوط فنام بالتخريب
ملك يعيش على الدم المسكوب
وفيها يقول مواسياً زميله الزبيري ومؤثراً اياه على نفسه:
يا شاعر اليمن العزيز تصبراً
ان التصبر حظ كل اريب
لا تضجرن وان اصبت بفادح
جلل فقد زعزعت عرش الحوب
سحق الاثيم الدار وهو مبلل
مما بعثت به من الترهيب
اقلقت مضجعه فأرسل عسكراً
يشفونه بفضيعة التخريب
او حدثته النفس انك تحتها
فمضى يفتش عنك كالمسلوب
أو ظن ان فناك في تهديمها
فإذا به تحيا حياة نجيب
الله أكبر قد ملأت فؤاده
رهباً واضرمت الحشا بلهيب
وسلبته التفكير حتى انه
نسي الملام ووخزة التأنيب
ورغم طول المؤاساة التي حظي بها الزبيري وكثرة عدد أبياتها إلاّ أن الشاعر لم يمر بمصابه إلاّ مرور الكرم ليلتفت متلهفاً كهذا الوطن المفدى مستهيناً في سبيله بكل غالٍ وعزيز وفي ذلك يقول:
أفديك يا وطني العزيز بمهجتي
وكريم اولادي وكل قريب
وجو القصيد برمتها يعمل على ابراز اهمية الكلمة وقيامها بدور المواساة والتعرية عن المصاب وتخفيف الآلام.
كما ان الكلمة مثلت في هذه المرحلة الحرجة سلاحاً دفاعياً لم يكن هناك اية امكانية للاستغناء منه فقد استخدمت لمنازلة الامام الفكرية حينما تذرع بالدين ليتم محاربته بنفس سلاحه على حد قول الشاعر:
وداوني بالتي كانت هي الداء
وتمت ايضاً مقارعة الحجة بالحجة نحو قول الموشكي ايضاً لدفع تهمة المروق عن نفسه ليضع الامام بالمقابل في قفص الاتهام:
هذه صورتي وانت ذكي
هل بها ذرة من الاجرام
بل انا مسلم خرجت غيوراً
ذائداً عن محارم الاسلام
كما تصدى الموشكي بنفس السلاح لولي العهد فقال:
تخاصمنا بالدين والدين موجع
لاشك قد أدميت مهجته عمدا
قضى باحترام الأهل والعرض والدماء
فلم لا تجد إلاّ الخلاف له ردا
حتى يقول مشيراً الى وحشية اعماله ودناءتها:
أليس الذي قد جئته لا يبيحه
سوى الوحش لكن لا نفي بها الأسدا
ظلت كل تلك القصائد ونضرائها تنمو وتترعرع في ضمير ووجدان الشعب لتثمر وتينع ثمرتها لتسفر عن ثورة ٨٤م، التي كان جل مهرها من دماء الادباء وجل حطب محرقتها من جماجمهم.
وبعد سقوط الثورة قام الطاغية احمد بقتل كل من ظفر بهم من الثوار وأولهم الشاعر المفكر الشهيد الجليل زيد الموشكي الذي اقدم على الشهادة راضي النفس معبراً عن ذلك بقوله:
هانت علينا النائبات وهولها
فالموت مثل السلسل المشروب
وتقدم الشاعر ابراهيم الحضراني الى ساحة الاعدام وهو موقناً بالموت وشاء الله ان ينجو وهو يقول:
كم تعذبت في سبيل بلادي
وتعرضت للمنون مرارا
وأنا اليوم في سبيل بلادي
أبذل النفس راضياً مختارا
وبعد ان تعثرت خطى الثورة بفعل قوى التآمر داخلياً وخارجياً وانقلب العرس الى مأتم مخلفاً مجزرة دامية كان لزاماً على الادب ان يضطلع بدوره الذي يعتبر انعكاساً لذلك التعثر فهذا الشاعر العوبلي على سبيل المثال يدين تلك المجزرة البشعة فور انتهائها فيقول:
ادغلت في الدم كالمجنون تنهله
ودست فوق ضحايا الشعب خذلانا
يوم النصر
ظلت القصائد الملتهبة بالحماس الناضحة بالحق المبين هي الزاد للرحلة الثورية الطويلة بما فيها من وعورة الطريق ومشقة السفر وظل الشعب مشرئب الاعناق مشدود الالحاظ الى ما يجري على الساحة الوطنية وما يرافقه على الساحة الادبية من ردود فعل تزيد جذوة الثورة اتقاداً وتزيد اطارها على المستوى الشعبي اتساعاً.
وفي اطلالة ذلك اليوم المجيد يطل علينا الشاعر محمد الشرفي باسم الشعب برائعته العصماء أنا الشعب مزمجر:
أنا الشعب زمجرة من رعود
وأنشودة في شفاه الخلود
إذا احتدمت ثورتي فالطغاة
بقايا رماد على كل بيد
ومضى الشعب لارساء ذلك الفجر الجديد الذي يشيد بنوره احمد المعلمي قائلاً:
طلع الفجر وهذا نوره
يغمر الشعب فما ابهى سناه
قد غسلنا بدموع ليلة
ودم زاك وشيدنا خطاه
وبعثنا مجدنا من قبره
وتوحدنا لكي نحمي حماه
وهذا هتاف البردوني وهديره في هذه المناسبة وفي هذا اليوم الخالد من حياة شعبنا عبر قصيدة الطريق الهادر:
هتاف هتاف وماج الصدى
وارغى هنا وهنا أزبدا
وزحف مريد يقود السنا
ويهدي العمالقة المددا
تلاقت مواكبه موكبا
يمد الى كل نجم يدا
وهذا الدكتور عبدالعزيز المقالح ومن خلال قصيدته الغراء »ان الشعب« يشيد ويفخر بصنيع صنعاء الأبية في الثأر للشعب من ظلمة وفي رفع الرؤوس بعد ذلة وانكسار فيقول:
وثأرت يا صنعاء، رفعت رؤوسنا بعد انكسار
اخرجت من ظلماتك الحبلى أعاصير النهار
وولدت هذا اليوم بعد ترقب لك وانتظار
وفي هذه القصيدة يشير ويهب بدور اولئك الابطال الذين ابت انفسهم الذل والضيم وتاقت وتعطشت لحياة العز والكرامة معرضين حياتهم في سبيلها لكل المخاطر عن طيب خاطر فيقول منهم:
سلمت اياديهم بناة الفجر عشاق الكرامة
الباذلين نفوسهم لله في ليل القيامة
وضعوا الرؤوس الأكف ومزقوا وجه الإمامة
صنعوا ضحى سبتمبر الغالي لنهضتنا علامة
ورغم انغماس الشاعر في فرحة الانتصار ومناظره البهيجة وانشغاله باحلام الغد المشرق فلم يغب عن باله حال الطغاة المدحورين ولم يفته تصوير مصيرهم قائلاً:
في نار احترقوا كما احترقت على النار الفراش
مات الطغاة الظالمون وشعبنا المظلوم عاش
وهذه هي النتيجة الحتمية لأية ثورة ناجحة تقوم من أجل انتزاع حق سليب من يد من لا يستحقه وليس أهلاً له تقوم لكي تعيد الاوضاع الى نصابها والحقوق الى اصحابها.
أما الشاعر عبده عثمان فلأن الفرحة سلبت تفكيره وملكت عليه لبه وحواسه فلا يجد إلاّ ان يتساءل في قصيدة عندما يحكم الشعب قائلاً:
ماذا يخط وماذا يترك القلم
واحرف النار في الاعماق تضطرم
ثم يقول متحدثاً عن كسر القيود وهدم السجن على السجان:
إنّا كسرنا قيوداً يوم ثورتنا
واسقط السجن والسجان والظلم
الى أن يصل الى الاستفسار في سخرية قائلة ممن يراهنون خاسرين على اخفاق مسيرة ثورة الشعب صانعها ويحاولون عبثاً اعادة عقارب الساعة الى الوراء فيقول:
أثورة تنتهي والشعب خالقها
والشعب من طبعه يملي لمن ظلموا؟
أما الشاعر الثوري الملهم والمخضرم محمد سعيد جرادة فيقول:
غمدان ردد أناشيد العلا عجباً
فأنت ابلغ من غنى ومن خطبا
حققت يا شعب نصراً لا ينال بلا
سعي يشق وجهد يوجب النصبا
طهرت ارضك من رجس ومن وثن
وخضت بحراً من الاهوال مصطخبا
آليت ألا يعيش الحق مضطهداً
ولا ترى في ديار العرب مغتصبا
يا شعب نصرك قد جلت مكاسبها
فلا تضع في مهب العصافات هبا
ولا تضح لدعاة التفرقات فمن
أفنى المكارم احيا العرق والنسابا
مثلت هذه القصيدة التي ادلى بها الشاعر في اليوم الأول للثورة تنبوءاً واعياً ومدركاً ما ستواجهه الثورة.
وما أكثر الشعراء الذين تغنوا بهذا الحدث العظيم ودافعوا عنه بارواحهم.
|