بقلم / احمد ماهر -
هل هناك حلول للمشاكل المؤلمة التي يواجهها العالم العربي، وبعضها، إن لم يكن كلها، مرتبط بمصالح أجنبية جاهلة أو شريرة، طامعة أو خادعة أو مخدوعة، ولكن في كل منها أيضا ما نحن سببه لأننا لا نعرف كيف نواجه الأزمات؟ هذا سؤال يجب أن نطرحه على أنفسنا وأن نبحث له عن حلول أو بدايات حلول تجنبنا الكثير مما نعاني، ونسد أبوابا لتدخلات وضربات نتلقاها، كأنها قدر محتوم، مع أن أغلبها انتهاز لضعفنا وتفرقنا وعجزنا عن التفكير الايجابي السليم.
لنأخذ مثلا الوضع في فلسطين، فليس من شك في أن فتح وحماس وكافة المنظمات الفلسطينية الاخرى، تشترك في هدف واحد هو إنشاء الكيان الفلسطيني حرا قويا على أرضه. وازاء هذا الهدف، لا بد أن تهون الأطماع وتتلاشى الضغائن، وتأخذ الايديولوجيات أجازة. لقد خسرت فتح الانتخابات التشريعية لأخطاء ارتكبتها في أسلوب الحكم، ولكن أيضا لأن الجانب الاسرائيلي أفشلها لأنه يعادي كل من يحاول أن يسترد منه ما اغتصبه من حقوق. فقد تماشت فتح والسلطة التي انبثقت عنها ـ سواء تحت الشهيد عرفات أو بقيادة أبومازن ـ مع متطلبات التسوية السياسية، فوقعت الاتفاقيات والتزمت بها ـ او على الأقل التزمت اكثر مما التزمت اسرائيل من جانبها ـ وقدمت التنازلات التي لم ترها ـ ولم نرها معا ـ تمس جوهر الهدف، ولكن اسرائيل بمساندة الولايات المتحدة في أغلب الأحوال ـ أفشلت كل الجهود فدخلت فتح الانتخابات تجر أذيال الفشل في تعبيد طريق التسوية، إضافة إلى أخطائها في إدارة شؤون الدولة الموعودة بالشفافية والاستقامة المطلوبة. ونجحت حماس لأن الشعب ضاق بجمود الاوضاع وتدهورها، ورأى أن يعطي الفرصة لمن رآهم أصلب عودا في مواجهة الرفض الاسرائيلي. وليس هناك من لا يعرف أن حركات التحرير حتى المتشددة منها لا تلبث اذا تولت الحكم أن تجد الأسلوب المناسب للمواءمة بين ما هو عملي من دون التفريط، ومثالي من دون التوريط. ولكن من يدركون ذلك حاولوا سد المنافذ اليه، ففرضوا شروطا مسبقة كان من الصعب قبولها، وفرضوا حصارا مؤلما وخلقوا أوضاعا تثير الاضطراب بين الفلسطينيين، يشجعون فريقا ضد آخر، ويستدعون ثورة الجياع ضد الشرعية الدستورية. وإزاء ذلك فان الواجب الوطني، يقضي توحيد الصفوف كوسيلة لتجاوز مشكلة الثنائية في مواجهة معسكر لا يتمنى الا الفرقة والتنابذ. والحق يقال ان حماس عرضت في البداية تشكيل حكومة وحدة وطنية، وكان المفروض ألا تسارع فتح بالرفض، وتحرم الحكومة الجديدة مما استطاعت فتح على مر السنين أن تبنيه من جسور مع العالم. ولم يكن المتصور أن يكون برنامج حكومة الوحدة الوطنية هو بالنص، برنامج أحد الطرفين، كما لم يكن متصورا ان يكون رضوخها كاملا لشروط مسبقة يراها كثير من الغربيين وبعض الاسرائيليين غير منطقية. وكان الواجب ان تدخل حماس وفتح في مناقشات تؤدي الى وضع برنامج مشترك، يمكن طرحه على العالم، ولو تم ذلك، لأمكن بالقطع التوصل الى صياغة مشتركة. وقد ظهر ان حماس على استعداد للاقرار بما تحقق من اتفاقيات ولقبول هدنة طويلة الأجل. أما مسألة الاعتراف بإسرائيل فلعله كان من الممكن التوصل الى صياغة تجمع بين المبادرة العربية الاجتماعية واعتراف اسرائيل بالدولة الفلسطينية فورا، في مقابل اعتراف فلسطين بإسرائيل، على ان يكون ذلك مشروطا بالتوصل الى تسوية بشأن المشاكل الاساسية، مثل ازالة المستوطنات وحق العودة، واسلوب تنفيذه، والقدس ـ كمدينتين كل منهما عاصمة لدولة أو حتى كمدينة واحدة عاصمة لدولتين مع ترتيب خاص للأماكن المقدسة. ولا أعتقد انه كان من المستحيل التوصل الى مثل هذه الصياغة، بل لا أعتقد أنه من المستحيل الاتفاق على ما يشابهها في الوقت الحالي، بدلا من الاستمرار في الحديث عن حكومة كفاءات أو حكومة مؤقتة، او ما الى ذلك من الصيغ. واعتقد ان مثل هذه الصياغة، قد تفتح الباب أمام اتصالات مع الرباعية، للتوصل الى الاسلوب المناسب لبدء ـ ولا أقول استئناف ـ عملية سلام حقيقية تحترم الديمقراطية والشرعية، وتؤكد الرغبة ـ اذا كانت موجودة لدى اسرائيل (رغم ما عززه من شكوك انضمام متطرفي ومهووسي حزب «اسرائيل بيتنا» الى حزب العمل الذي أثبت رئيسه انه حمامة سلام مزعومة) في التوصل الى حل حقيقي.
هذا اجتهاد ضمن اجتهادات اخرى، قد تكون موجودة، والمهم هو ان نعمل جميعا على ان يخرج الفلسطينيون من الموقف الصعب الحالي، من دون ان تسيل الدماء.
اما بالنسبة للعراق، فليس من شك في ان الأميركيين، فشلوا في كل ما ادعوا انه هدفهم، ما عدا اقصاء صدام حسين.
ولا أعتقد ان نجاح الديمقراطيين في السيطرة الكاملة او الجزئية على الكونغرس الأميركى بعد انتخابات التجديد النصفي أو استمرار الأغلبية الجمهورية، سوف يكون له تأثير جذري على السياسة الأميركية في العراق. فالورطة هناك لها وجهان، أولهما استحالة الابقاء على القوات الأميركية، والآخر استحالة الانسحاب، وفي نفس الوقت، فان العراقيين ستكون بينهم أقلية ترحب ببقاء القوات الأميركية، والبعض سوف يرحبون ببقاء قواعد أميركية، اما الغالبية فلا شك يريدون ان تنسحب القوات الأميركية في ظروف، تسمح لهم ببناء بلادهم من جديد.
وأعتقد انه من الضروري أن تجري مصالحة بين جميع العراقيين، وهذا يقضي مساعدتهم على ان يتجاوزوا خلافاتهم الطائفية وتطلعات البعض الانفصالية، لأن هذه التطلعات هي التي تملي عليهم المطالبة باستمرار الاحتلال. وهذه المصالحة يمكن ان تقوم بها الجامعة العربية، استكمالا لجهود سابقة حققت بعض التقدم، قبل ان تتوقف لأسباب غير واضحة، بحجة انه تم تشكيل حكومة ائتلافية، مع ان تلك الحكومة لم تثبت فعاليتها في اي مجال. وقد يكون من الممكن أن يتم التفاهم مع دول الجوار غير العربية، اي ايران وتركيا، رغم اختلاف مواقفهما. فتركيا لا تريد انفصال الأكراد ولا تملك نفوذا عليهم، بينما ايران لها صلات بالشيعة وإن لم تكن علاقات تبعية او سيطرة كما أثبت موقف شيعة العراق ابان الحرب الايرانية العراقية، حين انحازوا لوطنهم ولم ينحازوا الى ابناء طائفتهم عبر الحدود. ومن الضروري ان يتم هذا التفاهم عن طريق إعطاء كل ذي حق حقه، وقد يساهم أيضا في تخفيف التوتر المحيط بإيران.
هذا أيضا اجتهاد، قد يساعد على تحرير الاراضي العراقية من كل وجود أجنبي، واقامة نظام ديمقراطي حقيقي، وليس المسخ الذي تدعي واشنطن انه كان هدفها، وانها في طريقها الى إرساء قواعده بتحقيق انتصار مزعوم.
أما اذا تحدثنا عن السودان، وخاصة مشكلة دارفور، فإني أود، ان أبرز سوء تقديرات من جانب الحكومة السودانية. وأنا شخصيا اذكر أن مسؤولا سودانيا، عندما اثرت معه الموضوع، في بداية الأزمة، قلل من شأنها وذكر أن الأمر لا يعدو كونه نزاعا بسيطا بين قبائل، وانه في سبيله الى التسوية. ولم يكن هذا التقدير سليما، وتدهورت الأوضاع ربما بسبب تدخلات أجنبية، ولكن أيضا بسبب اسلوب معالجة الخرطوم للنزاع، حتى لو كان في بدايته فعلا نزاعا قبليا بسيطا، والنتيجة ان المجتمع الدولي تدخل مرة، في شكل قوات افريقية كان المأمول ان تؤدي الى تسوية، ثم عندما لم تهدأ الأمور تدخلت الامم المتحدة بقرار مجلس الأمن، بإرسال قوات دولية. وتقديري أن الخرطوم من مصلحتها سرعة تسوية المشكلة حتى لا تتفاقم، وتؤدي الى تنفيذ مخططات موجودة لتقسيم السودان. كما أن تقديري أن السودان يجب ان يتجنب، تفاقم النزاع مع الامم المتحدة حتى لا يصل الى صدام يزيد الموقف تعقيدا.
وما دام السودان قبل قوات افريقية فإنه من الممكن التفكير في ان تصبح تلك القوات جزءا من قوات دولية، تكون قيادتها مشتركة بين الاتحاد الافريقي والامم المتحدة، وان يكون للسودان الحق ـ كما في حالات انشاء قوات طوارئ او قوات حفظ سلام، وهو ما حدث مع مصر بعد عدوان 1956 ـ في ان يعترض على مشاركة قوات دول معينة، لأن هذا حق من حقوق السيادة، لا يمكن التنازل عنه. وقد يكون هذا الاجتهاد منطقيا، وقد يكون ممكنا، وعلى أية حال، فإنه ينطلق من حب للسودان وقلق عليه، ورغبة في تجنيبه مزيدا من المآسي، على ان يقترن وجود القوات المشار اليها بضغوط حقيقية على المتمردين، لكي يقبلوا بدورهم المشاركة في عملية تسوية تضمن حقوق الجميع، وعلى رأسها حق السودان في ان يكون بلدا موحدا وآمنا ومستقرا، ينعم فيه كل شعبه بخيراته.
وإذا عرجنا على لبنان، فانه مما يريح أن الدعوة إلى استئناف الحوار الوطني قد لقيت استجابة، ولعل الجميع يتفقون على أن استمرار التوتر والتنابذ لن يفيد أي فريق، وان الدور اللبناني الفريد يحتاج لكي يتم استرجاعه الى تضافر جميع أبنائه.
وفي كل هذا، فان الدول العربية كلها، مطالبة بأن تتفق على أسس علاقاتها بالدول المجاورة، وبالذات ايران التي من الضروري ان يتاح لها دور ايجابي قائم على التعاون للصالح العام وليس لمصالح ضيقة تخلق مشاكل يجب تجنبها.
وفي النهاية أقول، ألا تستحق كل هذه الموضوعات قمة عربية غير تقليدية، لا تكتفي بأن تكون قمة التصارح والتصالح، بل تكون حقا قمة العمل المشترك الحقيقي، حتى اذا اقتضى الأمر توزيع الأدوار ما دام الهدف واحدا والنيات قد صفت
الشرق الأوسط