-
مشكلة أحزاب المشترك لم تعد تتوقف عند حدود الجهل بثقافة الديمقراطية التعددية، وقواعد الممارسة السياسية، وأخلاقيات الاختلاف مع الآخر، أو عند إخفاقها في التعلم من تجارب أحزاب المعارضة في البلدان الديمقراطية، الناشئة منها أو العريقة، والاسترشاد بالكيفية التي تتعامل بها، والدور الذي تؤديه، والأسس الضابطة لعملها، والأرضية التي تقف عليها وأين تقف وكيف تسير. بل أن معضلة هذه الأحزاب ومن لف لفها من القوى المصلحية أو النفعية المعروفة بسجلها غير النظيف تكمن في أن تلك الأحزاب والقوى صارت تعاني من مرض عضال اسمه نزعة التطرف، وهي النزعة التي تقود صاحبها إلى التطرف في كل شيء، التطرف في الأفعال، والتطرف في الممارسات، والتطرف في الأقوال والتطرف في المواقف، والتطرف في المسلك والتعامل مع الآخر والمجتمع والوطن الذي تنتمي إليه.
وبفعل استفحال نزعة التطرف هذه لدى هؤلاء وتضخمها فإنهم قد فقدوا حاسة التمييز بين الحق والباطل وبين المنطق والشطط، وبين الخاص والعام، وبين الممكن وغير الممكن، والجائز وغير الجائز، وبين الاختلاف مع الآخر والخلاف مع الوطن، وبين المقدس والمدنس، ونتاجاً لاختلاط المفاهيم لدى هذه الأحزاب فقد ابتعدت عن الأدوار المناطة بها كشريك فاعل ورئيسي في الحياة السياسية وبناء الوطن والارتقاء به والنهوض باقتصاده، وإعلاء شأنه، لتستبدل هذا الدور الوطني بالإمعان في إشعال الحرائق وافتعال الأزمات وتبني التوجهات التدميرية والتخريبية، والتماهي مع العناصر المتطرفة والتخريبية والانفصالية والعنصرية والمناطقية إلى جانب احتضانها لكل ذي فكر متطرف حاقد على هذا الوطن وأبنائه، وكأن هذه الأحزاب اقتحمت العمل السياسي من أجل تكريس ثقافة التطرف والأحقاد والضغائن والكراهية وتبني كل من يروج لها اعتقاداً بأن خلق حالة من الفوضى والاضطراب سيسمح لها بتعميم تلك النزعة المتطرفة وإحلالها على أرض الواقع، هو من سيوصلها إلى كراسي الحكم، والاستيلاء على السلطة. ولا ندري كيف ستحكم هذه المعارضة ومن ستحكم إذا ما أحاقت بهذا الوطن - لا سمح الله- تلك الكارثة التي لن تخلف وراءها سوى الدمار والخراب والدماء والأشلاء.
بل وكيف سينجو هؤلاء بأنفسهم إذا ما حلت الفوضى التي يتمنونها لهذا الوطن، وكيف سيكونون البديل وهم يعلمون أن أية عاصفة من هذا النوع إنما هي التي ستقتلعهم قبل غيرهم، وأنهم أول من سيكتوي بشررها المتطاير، إن لم يكونوا في صدارة من سيهلكون ويغرقون في ذلك الطوفان الجارف.
ولأن هؤلاء صاروا أكثر بعداً عن العقل والمنطق، وأقرب إلى الجنون والانتحار فلم يعد هناك من سبيل لإخراجهم من الحفرة التي أوقعوا أنفسهم فيها سوى مخاطبة من بقي من العقلاء في "أحزاب المشترك" ومطالبتهم بالإسراع في تدارك أمر أولئك الحزبيين والسياسيين الذين استبدت بهم نزعة التطرف وصاروا يجرون أحزابهم إلى تحالفات مشبوهة ستؤدي بها إلى منزلقات خطيرة.
إذ أن من غير الواقعية أن يترك العقلاء الحبل على الغارب لمجموعة من المغامرين والمقامرين للانقلاب على كيانات حزبية وتحوير منهجيتها وأيديولوجياتها واستنساخها في قوالب جديدة تتفق وتتوافق مع فكر وثقافة أولئك الماضويين من بقايا الإمامة والاستعمار وعهود التشظي الذين ما زالوا يحلمون بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء ويتوهمون أن بوسعهم بعث روح ذلك الماضي البغيض بشكل جديد تحت مظلة الحزبية.
وهل من مصلحة أولئك العقلاء الذين مالوا إلى السلبية أن يتركوا الأمر لمجموعة متطرفة ونفر يلهثون وراء مصالحهم الأنانية الضيقة لكي يعبثوا بتلك الأحزاب ويحولونها إلى منابت للمشاريع الصغيرة والأفكار المتطرفة والنزعات المناطقية والانفصالية الخبيثة، خاصة بعد أن أظهرت كل المؤشرات، أن المستهدف في هذا الجموح المتطرف إلى جانب تلك الأحزاب هو الوطن والديمقراطية والتعددية السياسية، واليمن أرضاً وشعباً وتاريخاً ووجوداً وحضارة. حيث وأن من يسعى إلى هدم المعبد على رؤوس كل من فيه هو أقرب إلى الجنون منه إلى العقل، وإلى الانتحار منه إلى الحياة وإلى السقوط منه إلى النجاة.
وصدق من قال: لكل داء دواء يستطب به إلاّ الحماقة أعيت من يداويها.!!
إفتتاحية الثورة