الدكتور/ علي مطهر العثربي -
< لئن كنت قد أشرت الى موضوع العقل المتزن في السياسة الخارجية في العدد الماضي، فإن تلك الاشارة العلمية لم تأتِ من فراغ، بل من اهتمام ومتابعة وشعور بالقلق إزاء المستقبل الذي تخيم في سمائه سحابة يشوبها بعض السواد جراء تلك السياسات العرجاء التي تنتهجها بعض الدول التي يؤمن صنَّاع القرار فيها بالهيمنة والسيطرة والسطو على الآخرين ونهب ممتلكاتهم، ومصادرة حرياتهم وحقوقهم باسم حماية الديمقراطية أو جلبها، ولذلك فإن الموضوع -من وجهة نظري- مازال بحاجة الى التمعن وإعمال الفكر في هذا الجانب بهدف تقديم »جلب المنافع العامة على جلب المصائب« التي يحاول البعض ترسيخ ثقافة الاستقواء والاستعداء في مجتمعنا اليمني، الذي يتمتع بعبقرية الحكمة والايمان، ولا يقبل الا بما هو نافع ومفيد للانسان بدرجة أساسية والانسانية جمعاء، لأن اليمن منذ فجر الثورة انتهجت سياسة خارجية متزنة مكنته من تجاوز كل التحديات والعقبات التي كانت تقف في طريق التحديث والتطوير.
لا أبالغ إن قلت إن الجمهورية اليمنية التزمت الحكمة في التعامل المتزن في السياسة الخارجية، ولعل المؤشرات العملية تؤكد ذلك، فقد كان الهم الأساسي لليمن بعد تثبيت النظام الجمهوري العمل من أجل إعادة وحدة شطري اليمن، وانتهج كل الوسائل المتاحة لإنجاز ذلك المشروع النهضوي الأعظم، ولم يكن يقبل استغلال الظروف في أحد الشطرين من أجل أن ينقض أحدهم على الآخر، ولو كان الأمر كذلك لحدث ذلك عقب أحداث 13 يناير 1986م الدموية بين الرفاق، ولكن الحكمة اليمانية كانت تدرك أن إعادة وحدة الشطرين ينبغي أن تأتي في ظروف مناسبة وبالطرق السلمية التي تكفل البقاء والديمومة.
ولذلك ناضل اليمنيون حتى تحقق لهم ذلك في 22مايو 1990م، وعقب ذلك الانجاز الاعظم كان لابد من إعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية والداخلية بما يحقق الشأن الأعظم لليمن في العلاقات الدولية، ولذلك فقد برزت في هذا الاتجاه جملة من التحديات في ساحة الفعل السياسي المباشر عقب الوحدة ابتداءً من مولد التعددية الحزبية كوليد اقترن بإعادة وحدة اليمن لكن برز الارهاب الذي كان اليمن من أولى دول العالم الذي عانا منه وقد تمكن اليمن خلال المرحلة الماضية من إيجاد المواءمة والموازنة العقلانية بين الديمقراطية ومواجهة الارهاب، وحظي بتأييد دولي متميز، بل ان السياسة اليمنية في هذا الاتجاه كانت النموذج الذي استفاد منه الآخرون.
إن الجمهورية اليمنية لم تكن في وضع يحسد عليه، لأنها عقب إعادة الوحدة الى جانب حاجتها الداخلية لمعالجة مخلفات التشطير وتسيير الشأن الداخلي كما ينبغي، كانت في أمسِّ الحاجة في سياستها الخارجية لأن تبرهن للجيران بأن الوحدة اليمنية عامل أمن واستقرار للمنطقة بأسرها وللأسرة الدولية كاملة بحكم أهمية الموقع الجغرافي لليمن الذي يطل على البحر الأحمر، ويشرف على مضيق باب المندب أهم الممرات الدولية للملاحة البحرية وإطلاله على خليج عدن والبحر العربي، وقد حققت اليمن نجاحاً متميزاً في هذا الجانب وأنهت موضوع الحدود مع سلطنة عمان في 1992م، وتمكنت مع المملكة العربية السعودية من حل مشكلة حدودية ملتهبة عام 2000م، وبذلك تكون الجمهورية اليمنية قد تمكنت من تسوير حدودها مع الجيران ولعل أبرز قضية حدودية لجأت فيها اليمن الى التحكيم كانت مع دولة اريتريا عقب حادثة جزيرة حنيش، وقد جاء التحكيم الدولي ليؤكد السيادة اليمنية على أرخبيل حنيش بالاجماع، كما أولت السياسة الخارجية للجمهورية اليمنية عناية غير عادية للقرن الأفريقي.. ويتضح ذلك من خلال تجمع صنعاء المفتوح، الذي يضم اليمن والسودان وأثيوبيا والصومال، وسنتناول ما تبقى من عبقرية السياسة الخارجية في العدد القادم - بإذن الله.{