كتب/ جمال مجاهد - تشهد السوق اليمنية منذ فترة حالة من عدم الانضباط والعشوائية وضعف الرقابة إن لم يكن انعدامها، نتج عنها ارتفاع متصاعد لأسعار السلع والمنتجات وبشكل خاص المواد الأساسية كالقمح والدقيق واللحوم والدواجن والبيض. كما أدت هذه الحالة إلى احتكار بعض التجار والمستوردين للمواد الأساسية واستغلال ارتفاع الطلب عليها من أجل رفع أسعارها بنسبة كبيرة عن الأسعار العالمية المعروفة.
وعلى الرغم من توجيهات فخامة الأخ على عبد الله صالح رئيس الجمهورية بضبط الأسعار ومنع استغلال حاجة المواطنين والمستهلكين، وحثه الجهات المعنية على ممارسة دورها التمويني والرقابي، وعلى الرغم من الإجراءات التي أقرها مجلس الوزراء مؤخراً، والاجتماعات المتكررة بين الوزارات والجهات المسئولة والمعنية وبين التجار ورجال الأعمال إلاّ أن الأسعار لم تعد إلى طبيعتها بل تستمر في الارتفاع المبالغ فيه.
وحتى عندما شكلت وزارة الصناعة والتجارة جهازاً لحماية المنافسة ومنع الاحتكار ظل الأمر على حاله، وظهر أن المشاكل والصعوبات المزمنة التي يعيشها السوق تتطلب إجراءات حاسمة ورادعة ضد بعض التجار والمستوردين الكبار والصغار. كما يحتاج الأمر إلى معالجة جذرية للتحديات التي تواجه الأمن الغذائي.
تعزيز الرقابة
وكان تقرير لجنة التجارة والصناعة بمجلس النواب بشأن تقصي الحقائق حول أسباب شحة المعروض من السلع الأساسية في الأسواق وارتفاع أسعارها، قد أوصى ببناء صوامع ومطاحن حكومية للقمح لاستخدامها كمخزون استراتيجي وممارسة التدخل الحكومي كمستورد أو بائع وطاحن لمادتي القمح والدقيق في الأسواق المحلية. وتفعيل ودعم دور المؤسسة الاقتصادية اليمنية لاستيراد القمح والدقيق وتوفيرهما بأسعار منافسة في الأسواق. وتوفير مادة الدقيق للأفران بأسعار محددة وثابتة وتحديد أسعار ووزن الرغيف. وتعزيز الرقابة القانونية لحماية المستهلك والتدخل الحكومي المحدود لحفظ التوازن في المعروض السلعي من السلع الأساسية كالقمح عند الضرورة.
ودعا التقرير الذي حصلت عليه "الميثاق" إلى تشجيع الشركات المحلية والخارجية لتوريد القمح والدقيق إلى اليمن والبيع المباشر لتجار الجملة. وتعزيز قدرات الهيئة اليمنية للمواصفات والمقاييس وضبط الجودة وتفعليها من خلال تعزيز القدرات المخبرية والفنية والبشرية للهيئة وفتح فروع لها في كافة المنافذ وتوفير المختبرات فيها. وإيجاد آليات وضوابط لتنظيم حركة السلع والأسعار وتنظيم علاقة الأطراف الثلاثة المنتج والمستهلك وأجهزة الرقابة. وإلزام التجار والمصنعين بإشهار أسعارهم على السلع في محلات البيع للمستهلك، وتتم الرقابة على أساسها ومحاسبة كل من لا يشهر سعره. وكذلك إلزام التجار والمصنعين بتعبئة سلعهم في عبوات مناسبة ومدون عليها الكمية والمواصفات وفترة الصلاحية. وفتح المجال لاستيراد البيض والدواجن واللحوم ومراجعة كافة الرسوم والعوائد التي يتم تحصيلها من المستوردين.
ووفقاً للتقرير فإنه "على وزارة الصناعة والتجارة ومكاتبها بالمحافظات التنسيق مع مصلحة الجمارك وفروعها في الموانئ والمنافذ الجمركية لجمع المعلومات الإحصائية لمختلف السلع الغذائية والاستهلاكية التي تصل بلادنا أولاً بأول".
وشدد على إلزام الشركات المستوردة للسلع الغذائية وخاصة القمح والدقيق بالتقيد باشتراطات ومتطلبات المواصفات القياسية المعتمدة لتخزين وحفظ هذه السلع وحمايتها. وتشجيع قيام جمعيات تعاونية استهلاكية ولو عن طريق منحها قروض ميسرة تكفل بداية قوية وناجحة لها، كون هذا الأمر عاملاً أساسياً من عوامل خلق المنافسة ومنع الاحتكار، وهذا ما هو معمول به في كثير من الدول التي تبنت اقتصاديات السوق ومنها بعض الدول المجاورة.
وطالب التقرير البرلماني بتفعيل القرار الجمهوري بالقانون رقم 19 لسنة 1999م بشأن تشجيع المنافسة ومنع الاحتكار والغش التجاري. والتشديد على ضرورة وجود الشهادة الصحية للسلع الغذائية وشهادة المنشأ لجميع السلع الواردة. وضرورة توفير البيانات والمعلومات وبالتالي دراسة السوق المستمرة والتي يبنى على أساسها تقديرات حقيقية لحاجتنا الفعلية من المواد الأساسية.
وأكد التقرير على ضرورة توفير كشوفات ترحيل الكميات إلى كل محافظة على حدة بنوع من الشفافية حتى تكون الجهات المعنية على علم بذلك أولاً بأول، تجنباً لاختفاء السلع في بعض المحافظات. ووضع ما يلزم من آليات للتنسيق والتعاون بين وزارة الصناعة والتجارة وسفارات بلادنا في الخارج تكفل قيام السفارات بالتحري عن الأسعار الحقيقية للمواد الغذائية الأساسية في الأسواق العالمية وتزويد الوزارة بالبيانات والمعلومات اللازمة في هذا الشأن.
ارتفاع الأسعار
واستنتج التقرير أن الارتفاع في أسعار مادتي القمح والدقيق في السوق المحلي بلغ مستويات عالية، وقد وجد متفاوتاً من محافظة إلى أخرى حيث تصل نسبة الارتفاع في أسعار سلعتي القمح والدقيق إلى 30٪، مما يتضح معه أن الأسعار ارتفعت بصورة لا تتناسب مع ما طرأ من ارتفاع في الأسعار العالمية. إضافة إلى التقليص الواضح لحجم مبيعات بعض المستوردين لسلعة القمح بل وأحياناً الإحجام عن البيع بالرغم من توافرها بكميات كبيرة في مخازنهم، رافق ذلك تخفيض كبير في إنتاج الدقيق في مطاحن أربع شركات. فضلاً عن التوقف الكلي للمطاحن الصغيرة لأنها لم تزود بمادة القمح، الأمر الذي أدى إلى ندرة واختفاء سلعتي القمح والدقيق من الأسواق، وهذا مؤشر واضح على أن هناك احتكاراً غير معلن يستدعي المعالجة السريعة.
وقال التقرير إن هناك "اختلالات وأوجه قصور ناجمة عن تسرع الحكومة في تحرير مادتي القمح والدقيق دون وجود ضمانات وضوابط تحمي المستهلك من انعكاسات هذا التحول على الأوضاع التموينية والسعرية لهذه السلع في الأسواق وخاصة القمح والدقيق. فقد ألغيت الوظيفة الأساسية والصلاحيات التي كانت تتمتع بها وزارة الصناعة والتجارة في مراقبة وضبط الأسعار بإلغاء النصوص القانونية التي كانت توفر للوزارة الغطاء القانوني في ممارسة العملية الرقابية والضبطية على الأوضاع التموينية والسعرية لهذه السلع. ومعها تم بيع الصوامع التابعة للمؤسسات الحكومية، وإنهاء دور بعض المؤسسات الحكومية المستوردة والمسوقة للمواد الاستهلاكية".
وخلص التقرير إلى أن هناك قصوراً في دور المؤسسات الحكومية التي يفترض دخولها إلى الأسواق المحلية كمستورد وطاحن وبائع لمادتي القمح والدقيق لمواجهة أي اختناقات تموينية ومنع الاحتكار وتعزيز المخزون الاستراتيجي كالمؤسسة الاقتصادية اليمنية التي تستورد القمح حالياً، ولكنها تفتقر إلى صوامع ومطاحن لتخزين وطحن ما تستورده من كميات وتضطر للقيام بذلك في صوامع ومطاحن القطاع الخاص وتتحمل ما يترتب على ذلك من تكاليف وإشكالات أخرى، في حين أن بمقدور المؤسسة إنشاء صوامع خاصة بها، وإيجاد مخزون استراتيجي من القمح لمواجهة مثل هذه الأزمة. وأظهرت هذه الأزمة غياب التنسيق والعمل المشترك بين الأجهزة والمؤسسات المعنية الحكومية والقطاع الخاص لوضع آليات عمل وضوابط لمواجهة هذه الأزمة بما فيها توفير السلع الغذائية الأساسية وضمان انسيابها في الأسواق بكميات تفي باحتياجات المواطنين من هذه السلع.
ولاحظت لجنة التجارة والصناعة بمجلس النواب خلال زيارتها الميدانية لموقع إحدى الشركات المستوردة لمادة القمح في ميناء الصليف أن الشركة تقوم بتخزين القمح المعبأ بداخل أكياس من مادة البولي بروبلين وبعشرات الآلاف من الأكياس في مساحات ترابية مكشوفة ومعرضة لأشعة الشمس في ساحة إحدى المدارس، وإن هذه الطريقة السيئة في التخزين تخالف اشتراطات ومتطلبات المواصفات القياسية اليمنية والاعتبارات العامة في حفظ الحبوب مما يؤثر على سلامة السلعة ويضر بصحة المستهلك.
وبالرغم من أن باب المنافسة في استيراد القمح مفتوح ولا توجد أي قيود من قبل الحكومة إلا أن هناك عوامل أثرت وتؤثر سلباً على مسألة دخول تجار منافسين من أهمها عدم وجود صوامع ومطاحن لتخزين وطحن القمح لدى الدولة بالإضافة إلى صعوبة وتكاليف إنشاء مثل هذه المشاريع من قبل القطاع الخاص.
كما أن الارتفاع في سلعتي الدجاج والبيض يعزوه الجميع إلى أن المشتغلين بالسلعتين قد تكبدوا خسائر كبيرة نتيجة إنفلونزا الطيور، وإن هذا الرفع من وجهة نظرهم للمساعدة في الاستمرار بالنشاط في هذا المجال.
وتوصلت اللجنة في تقريرها إلى أن وزارة الصناعة والتجارة تفتقر للمعلومات والبيانات اللازمة حول الكميات المستوردة والواصلة من السلع الغذائية وأسعارها، مما يجعل الوزارة عاجزة عن معرفة حجم الاستيراد وتحديد الاحتياجات المحلية ومتابعة الأسعار ومستوى الترحيل لهذه السلع إلى أسواق محافظات الجمهورية. كما تواجه وزارة الصناعة والتجارة ومكاتبها في المحافظات مشاكل ومعوقات فيما يخص مراقبة الوضع التمويني والسعري وضبط المخالفات، منها عدم وجود نصوص قانونية بتجريم المخالفات السعرية وصلاحيات ضبطها، وعدم قبول النيابات في أمانة العاصمة والمحافظات للمخالفات المرفوعة إليها من قبل الوزارة ومكاتبها في المحافظات لعدم وجود سند قانوني للتعامل مع تلك المخالفات حيث بلغ عدد هذه المخالفات حتى تاريخ 6 نوفمبر الماضي 2237 مخالفة.
وقالت اللجنة إن هذا الأمر "أوجد خللاً وعدم توازن في وظائف ومهام الوزارة وتعاطيها مع الأوضاع التموينية والسعرية في ظل العمل بآلية السوق، سواء فيما يخص حماية المستهلك أو تشجيع المنافسة ومنع الاحتكار". وأضافت بأن ارتفاع الأسعار في الأسواق المحلية لم يقتصر على مادتي القمح والدقيق وإنما شمل بعض السلع الغذائية.
صوامع ومطاحن معدودة
وتشير المعلومات إلى أن هناك سبع شركات معروفة ومشهورة في اليمن هي التي تستورد القمح، وهناك آخرون من التجار الصغار الذين يستوردون كميات قليلة من مادة الدقيق أو القمح من حين لآخر. ولا تقدم المعلومات الإحصائية للكميات المستوردة من القمح إلى وزارة الصناعة والتجارة من قبل المستوردين وأصحاب المطاحن، وإن ما تحصل عليه الوزارة من معلومات يأتي عبر مصلحة الجمارك.
وتقدر الاحتياجات السنوية لبلادنا من القمح ما بين مليونين و200 ألف إلى مليونين و300 ألف طن، ومن الدقيق ما بين 500 و700 ألف طن سنوياً. وبلغ إجمالي الكميات المستوردة من القمح خلال العام 2005 حوالي مليونين و640 ألفاً و233 طناً، ومن الدقيق 110 آلاف و617 طناً.
بينما بلغ إجمالي الكميات المستوردة من القمح خلال الفترة من يناير وحتى نهاية أكتوبر 2006 "مليون و685 ألفاً و768" طناً. أما الأنواع التي يتم استيرادها من القمح فهي الأسترالي والأمريكي والهندي والروسي والتركي والكندي والأوكراني والأوروبي بشكل عام. وبالنسبة لعدد الصوامع فقد أوضحت البيانات أن عدد الصوامع الموجودة حالياً في اليمن هو ثمان صوامع كبيرة منها خمس صوامع بالحديدة وصومعتان في عدن، بالإضافة إلى صوامع صغيرة في القلوعة بعدن تتبع المؤسسة الاقتصادية حالياً. وتتراوح السعة التخزينية الحالية لهذه الصوامع ما بين 550 و600 ألف طن، أما المطاحن فعددها سبع مطاحن موزعة بين الحديدة أربع مطاحن وعدن ثلاث مطاحن وواحدة منها صغيرة جداً. وتبلغ القدرة الإنتاجية لهذه المطاحن مجتمعة حوالي 3760 طناً في اليوم. وتقدر الكميات المستوردة الواصلة إلى موانئ الحديدة والصليف والمعلا خلال الفترة من الأول من يناير 2006 وحتى الخامس عشر من نوفمبر 2006 بحوالي مليونين و74 ألف و150 طناً.
أسباب وعوامل
وبحسب وزارة الصناعة والتجارة ومكاتبها في المحافظات فإن السعر العالمي التقريبي للطن الواحد من القمح الأمريكي كان يتراوح ما بين 150 - 190 دولاراً للطن الواصل إلى الموانئ اليمنية، وتختلف أسعار هذه الأقماح بحسب المواسم ونوعية ومواصفات القمح ومناشئه. أما أسعار القمح الهندي فيقل ما بين 25 - 35 دولاراً للطن أي 125 - 155 دولاراً. وحالياً يتراوح السعر العالمي للقمح الأمريكي ما بين 210 - 235 دولاراً للطن ويزيد سعر القمح الأسترالي عن الأمريكي ما بين 7 - 15 دولاراً للطن الواصل إلى الموانئ اليمنية، وتختلف هذه الأسعار باختلاف نوعية ومواصفات القمح ومواسم الشراء والمناشئ.
وتعود الأسباب والعوامل المؤثرة على ارتفاع الأسعار إلى قلة المعروض من السلعة في الأسواق العالمية لأسباب مختلفة، وارتفاع أجور الشحن البحري، وارتفاع أسعار التأمين على البواخر، وعدم وجود منافسة حقيقية بين تجار الاستيراد، فبالرغم من حرية الاستيراد إلا أن السلعة يتم استيرادها من قبل عدد معروف ومحدود من التجار.
وقال ممثلو القطاع الخاص "التجار المستوردون لمادة القمح" حول أسباب شحة المعروض وارتفاع أسعار مادتي القمح والدقيق، إنه وبسبب الانخفاض في كميات القمح عالمياً فمن المتوقع أن ترتفع الأسعار بأرقام قياسية خلال الأشهر الستة القادمة، وأن السبب الرئيسي لذلك هو انخفاض المحاصيل في أستراليا وأوكرانيا والولايات المتحدة بسبب الجفاف مما رفع الأسعار حتى الآن بنسبة 50٪ عما كانت عليه في شهر يونيو 2006. وأوضحوا أن زيادة أسعار الوقود عالمياً أدى إلى زيادة أسعار الشحن وسبب ارتفاعاً في تكاليف إنتاج المواد الغذائية عالمياً، حيث ارتفعت تكلفة إنتاج الدقيق بنسبة 35٪ في كندا وحدها ناهيك عن الدول الأخرى. كما أن المخزون العالمي الحالي من القمح يعتبر الأقل منذ عام 1982.
وقد ارتفع سعر الطن من القمح الأحمر اللين الأمريكي من 152 دولاراً في فبراير الماضي إلى 185 دولاراً في سبتمبر الماضي وإلى 210 دولارات في أكتوبر الماضي. كما ارتفع سعر الطن من القمح الأبيض اللين الأمريكي من 143 دولاراً إلى 179 دولاراً، وإلى 192 دولاراً خلال نفس الفترة. ومن المعروف أن أسعار جميع أنواع القمح في العالم تتأثر بالسوق الأمريكي وينعكس عليها ما يطرأ من متغيرات في السوق الأمريكي صعوداً وهبوطاً.
وتسعى الحكومة إلى توفير الأمن الغذائي من كافة المنتجات الزراعية. ويأتي في مقدمة ذلك الإنتاج النباتي بوجه عام وإنتاج الحبوب التي يعتاش منها ويعيش عليها الفقراء بوجه خاص، ناهيك عن الأهمية الاستراتيجية للاكتفاء الذاتي من الحبوب من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية.
وتستهدف الحكومة خلال سنوات خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الثالثة للتخفيف من الفقر 2006 - 2010م زيادة إنتاج الحبوب بمتوسط 3.5٪.. ويتصف الإنتاج النباتي بضعف الغلة لوحدة المساحة خاصة في الوديان والمرتفعات حيث تسود الزراعة المطرية، في حين ترتفع نسبياً غلة المحصول المروي. كما أن الزراعة المطرية لا تساعد على التكثيف المحصولي أو على الزراعة المستديمة، بالإضافة إلى استمرار أساليب الزراعة التقليدية. وتأتي فجوة القمح وفجوة الذرة الشامية في مقدمة التحديات لبلوغهما نسبة 90٪ فيما بين الإنتاج المحلي والاستيراد.
|