|
|
د. قائد عقلان - تابع الملايين من الناس باندهاش بالغ لحظة اعدام الزعيم العراقي صدام حسين، الذي بدأ كعادته رابط الجأش عالي الهامة، وهو يتقدم بخطى ثابتة صوب حبل المشنقة الذي توقعه منذ بدء محاكمته، وكان محقاً في توقعه الذي ايده كثير من المراقبين السياسيين والقانونيين لسبب بسيط لم يكن خافياً على أحد، وهو ان هذه المحاكمة كانت سياسية بامتياز، وعارية عن اية شرعية او سند قانوني، كونها قد تشكلت واديرت من قبل الولايات المتحدة الامريكية، التي قامت بغزو واحتلال العراق مسفهة كل الشرائع والقوانين الدولية والاخلاقية، تحت مبررات وذرائع واهية ولم يثبت صحتها، فلجأت الى تنصيب نفسها وكيلاً للشعب العراقي »للانتصار« له من »جلاده« تضليلاً والى جانبها بعضاً من فلول المرتزقة والتابعين الخائبين الذي تحركهم دوافع الحقد والانتقام الضيق.
فالرئيس العراقي صدام حسين الراحل الى ذمة الله، من دون شك انه مثله مثل كثير من رؤساء العالم، له سجله الخاص به، والذي ينطوي على ما هو جيد وما هو سيئ، لكن من المؤكد انه لم يعاقب على ما هو سيئ كما يظن البعض بسذاجة، وانما عوقب على ما هو جيد انطلاقاً مما يوصف بأنه سيئ.
ليحكم عليه في النهاية بالاعدام شنقاً، وهو أمر لم يكن مفاجئاً لأحد كنهاية لهذه المسرحية الهزلية لكن الأمر الذي صدم به الكثير هو ذلك التوقيت السيئ الذي جرى اختياره بحمق بمثابة الملاحظة الأخيرة في حياة أحد الزعماء العرب، وطريقة اخراجها التي هي أسوأ من التوقيت نفسه.
فبينما أخذ اكثر من مليار وثلاثمائة مليون مسلم موزعين على مختلف بقاع العالم يتهيئون في الصباح الباكر من يوم السبت الموافق ٠٣/٢١/٦٠٠٢م لاستقبال أول أيام عيد الأضحى المبارك مهللين ومكبرين الله على ما هداهم، متقربين اليه بذبح الأضاحي ومن بينهم ما يقارب الثلاثة مليون حاج في مكة المكرمة كانوا يتأهبون في يومهم الثاني من اداء مناسك الحج الأعظم لرجم جمرة العقبة الأولى »الجمرة الكبرى« كان هناك اعداد مسبق ليكون الرئيس صدام اضحية او قرباناً لحسابات سياسية النوع الرخيص تقدم عن قصد بالتزامن مع تلك المناسبة الاسلامية الأولى من حيث العظمة والقداسة.
أما من حيث الاخراج لمشهد الاعدام، فقد بدأ هزيلاً ومثيراً للسخرية، فبينما ظهر صدام شامخاً في وسط غرفة مهجورة وربما تحت الأرض ومن حوله فريق الاعدام الملثمين الذين لم يظهر عليهم انهم يعبرون عن ارادة حكومة قوية بعكس ارادة شعبية تؤهلها لتنفيذ حكم الاعدام في احدى الساحات العامة، وانما بدوا من خلال ذلك المشهد المثير للاشمئزاز أقرب الى فرق الموت التي امتهنت عملية القتل والاغتيال بحق الشرفاء من المقاومين والوطنيين من ابناء العراق.
رمزية التوقيت
ولعل التساؤل الجوهري الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا، هو ما رمزية ودلالات هذا التوقيت لتنفيذ حكم الاعدام، وابعاده على كلٍ من العراق والسياسة الأمريكية في المنطقة، والمنطقة العربية برمتها؟
اجابة على هذا السؤال، يمكن القول: ان اختيار مثل هذه المناسبة الاسلامية العظيمة بتوقيتها لتكون يوماً للتخلص من صدام حسين، يرمز الى نوعية ايديولوجيات القوى المسيطرة على العراق »الولايات المتحدة الامريكية، وايران« وهما ايديولوجيتان اصوليتان ضيقتان مع التباين في المنطلقات والحسابات.
فعلى مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، نجد ان سياستها الخارجية منذ مطلع الألفية الثالثة باتت تعكس بازدياد النزعة الاصولية الانجيلية بزعامة المحافظين الجدد المتصهينين اساساً، وهي اصولية مشبعة بروح الصراع والمواجهة، من منظور عقيدي ديني مقدس، سيما مع العالم الاسلامي، وقد عبرت عن نفسها منذ مدة بعناوين استراتيجية ذات نزعة ايديولوجية مثل: »صراع الحضارات، والحرب على الارهاب، محور الشر«.. الخ.
وبالتالي فإن اختيار مثل هذه المناسبة الاسلامية بالغة العظمة والقداسة لتكون لحظة النهاية والخلاص لأحد الزعامات العربية والاسلامية التي استطاعت جذب الاضواء والشعبية العربية والاسلامية لمدة بوصفها القيادة العربية التي تجاسرت لمدة على تحدي الغرب، وفي المقدمة الولايات المتحدة الأمريكية باسم العروبة والاسلام، وتمكنت بالفعل من تعدي الخطوط الأمريكية الحمراء في المنطقة ورشقت اسرائيل يوماً بعشرات الصواريخ، في عملية غير مسبوقة، تعد بمثابة احدى لحظات التنفيس لمثل هذه النزعة الايديولوجية الاصولية المشبعة بالعداء تجاه العالم الاسلامي سيما العربي منه وتجاه كل ما يرمز اليه من زعامات وقيم وثقافات، بوصفها قيم ومؤهلات الآخر »العدو« الذي يجب النيل منه على الدوام، فضلاً عن بعض الاعتبارات والتوظيفات السياسية التي سنتطرق اليها لاحقاً.
اما على مستوى الجانب الايراني: فنجد ان الثورة الاسلامية الايرانية التي برزت مع تولي الامام الخميني السلطة في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، وتجددها على يد الرئيس الايراني الحالي محمود احمد نجاد، الذي يعد من ابرز تلاميذ هذه الثورة، هي الاخرى ايديولوجيا ذات نزعة اصولية غارقة في المذهبية الضيقة والقومية الفارسية المتطرفة ومسكونة بالشياطين في رؤيتها للعالم الذي تقسمه الى شياطين صغار وشياطين كبار، انطلاقاً من معايير خاصة بها، وقد تمكنت هذه الاصولية الايرانية مؤخراً من ايجاد امتداد استراتيجي لها في العراق ممثلاً بحزب الدعوة الموالي لها والذي يقبض على زمام الامور في اطار حكومة الاحتلال، بعد سقوط نظام الرئيس العراقي صدام حسين على ايدي القوات الامريكية.
ولذا فإن اختيار مثل هذه المناسبة الاسلامية بتوقيتها المتزامن مع رجم الحجيج للجمرة الكبرى »جمرة العقبة« لتكون هي اللحظة ذاتها للتخلص من الرئيس صدام حسين، يعكس ايضاً بوضوح تام هذه النزعة الاصولية الضيقة بوصف الرئيس صدام حسين من وجهة نظر هذه الاصولية هو »الشيطان الأكبر« لكونه اول من تصدى لمثل هذه الايديولوجية وهي في بداية تمكينها السياسي على يد الأب الروحي المؤسس لها آية الله الخميني، الذي رأى ان تجرعه للسم اهون له من لحظة الموافقة على انهاء الحرب مع الرئيس صدام حسين التي استمرت قرابة العشر سنوات، فضلاً عما لاقاه قادة وانصار حزب الدعوة الشيعي الموالي لايران من محاربة في داخل العراق على ايدي نظام الرئيس صدام حسين.
اصوليات ضيقة
وهكذا نجد ان هذه الاصوليات الضيقة التي باتت قابضة على العراق اليوم، قد التقت معاً في اطار نوع من المساومات والمصالح المشتركة، ليكون يوم العيد الأكبر للمسلمين سيما العرب منهم هو اليوم الذي يكون فيه الزعيم العراقي صدام حسين اضحية سياسية او قراباناً يقدم على موائد السياسات الفاشلة.. ومع ان هذا العمل الدنيء قد نجح في اجتراح مشاعر ملايين من المسلمين وغير المسلمين، إلاّ ان من زاوية اخرى وهي الأهم قد فشل، ولم يزد الزعيم العراقي صدام حسين إلاّ شرفاً وكرامة لتكن مثل هذه المناسبة الربانية العظيمة هي اليوم ذاتها التي يلفظ فيها بالشهادتين.
ذلك كان من حيث رمزية التوقيت، أما من حيث دلالته وانعكاساته، يمكن القول: بالنسبة لدلالة مثل هذا التوقيت إن دل على شيء فإنما يدل على مستوى الوهن العربي ودرجة انكشاف أمنه القومي، التي وصلت إلى أدنى مستوياتها، على نحو بات العرب لا مقدس لهم ولا حرمة، بل ولا مأمن لأحد، فالعجلة دائرة وان بدأت في عاصمة العروبة بغداد، إلاّ أنها دائرة وليس من شأنها طمأنة أحد في ظل الوضع العربي المتخاذل بغباء عما يجري في العراق من محاولات شتى لطمس هويته العربية أرضاً وإنساناً، وبالتالي تحويله إلي قوة أو سهم إضافي في جعبة محاربي العرب، وهي قوة لايستهان بها مطلقاً.
أما من حيث انعكاسات مثل هذا الحديث بتوقيته سيئ الصيت والسمعة، فستكون على ضروب عدة، على المستوى العراقي الداخلي، وعلى مستوى السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العراق والمنطقة العربية عموماً.
فعلى مستوى الساحة العراقية، فمن المعلوم ان العراق منذ اسقاطه على أيدي القوات الأمريكية في نيسان إبريل 2003م، تحول إلى دولة منهارة نضاماً ومجتمعاً، بل ومرتعاً خصباً لفرق الموت، وعصابات الإجرام والنهب المنظم، والسيارات المفخخة، وان الحكومة الصورية الحالية العاجزة عن حماية ذاتها والمحكوم عليها بالإقامة الجبرية في المنطقة الخضراء، على ما يبدو أنها غير مؤهلة تماماً لإدارة الشأن العراقي الداخلي وتحقيق المصالحة الوطنية التي عادة ما تتحدث عنها، بل على العكس من ذلك فكل المؤشرات تؤكد انها حكومة طائفية مدفوعة بدوافع الثأر والانتقام وغير ذلك من الأحقاد الطائفية والمذهبية، وهذا ما بدأ واضحاً من خلال الشعارات والهتافات التي كان يرددها فريق الإعدام، الأمر الذي يتعارض مع فكرة حكومة الوحدة الوطنية التي تمثلها ومع فكرة المصالحة، بل ان انخراط الحكومة في تنفيذ حكم الإعدام بحق الرئىس صدام حسين بمثل هذا التوقيت وهذه الطريقة سيعمل على تأجيج مشاعر السخط والاقتتال الطائفي، وسيزيد الوضع أكثر تعقيداً، كان بالإمكان تجنبه لو كانت هذه الحكومة تعبر عن حكومة وحدة وطنية مستقبلة.
عهد جديد!!
أما فيما يخص انعكاسات مثل هذا الحدث بتوقيته على السياسة الأمريكية في العراق خصوصاً والمنطقة العربية عموماً، فمن المرجح انها ستكون من السيئ إلى الأسوأ، فالفشل الذي منيت به هذه السياسة على مدى السنوات الثلاث الماضية بحاجة إلى تسويق جديد، يحفظ لها ماء الوجه، فبالإضافة إلى ما سبق ما أشرنا إليه من نزعة ايديولوجية أصولية، يذكر عمرو حمزاوي كبير الباحثين لدى معهد كارنيجي للسلام ان الإدارة الأمريكية قد عمدت لتوظيف عملية الإعدام من أجل تحقيق هدفين الأول: خلق انطباع لدى الرأي العام الأمريكي والغربي على نحو أقل، أن هناك نهاية لعهد قديم وبداية عهد جديد في تاريخ العراق، وهذا ما عكسه تصريح الرئىس الأمريكي جورج دبليو بوش بالقول: »بأن إعدام صدام حسين يمثل نقطة تحول في تاريخ العراق«.. وكذلك تغطية الصحافة الأمريكية للحدث.
أما الهدف الثاني فهو أن عملية الإعدام في مثل هذا التوقيت وبتلك الطريقة ستعمل على تأجيج أعمال العنف والاقتتال الطائفي في الداخل العراقي، الأمر الذي من شأنه إيجاد مبرر أو مسوغ للإدارة الأمريكية لتسويق زيادة القوات الأمريكية المتواجدة في العراق في الداخل الأمريكي، بوصفها أمام لحظة حاسمة لحسم التمرد وصولاً إلى حالة (العراق المستقر)..
وهذا يدل على أن السياسة الأمريكية في العراق مقبلة على مزيد من التخبط، وبالتالي مزيد من الفرق في المستنقع العراقي الذي هي أوجدته بنفسها، بل ان مثل هذه الخطوة غير العقلانية تعد بمثابة اطلاق رصاصة الرحمة على »تقرير لجنة بيكر- هاملتون« الذي لم ير النور بعد، كونها تتقاطع مع فكرة هذا التقرير، الذي يرمي إلى معالجة بعض أخطاء السياسة الأمريكية في العراق، ويمهد لفكرة إجراء مصالحة وطنية بين مختلف القوى العراقية، بل على العكس من ذلك سيزداد الأمر أكثر تعقيداً في هذا الجانب، وهذا يؤكد ان فكرة المصالحة الوطنية في العراق هي أمر غير وارد في السياسة الأمريكية، بل على العكس من ذلك، فالاسراع في اشعال نيران الحرب الأهلية في العراق تمهيداً لتقسيم العراق كأمر واقع هو المشهد المقروء بوضوح منذ بدء عملية الاحتلال.
أما فيما يخص المنطقة العربية، فمع الأسف الشديد، فينطبق عليها الوصف بأنها: الحاضر الغائب في العراق، فعلى الرغم من أن كل ما يجري في العراق منذ مدة يستهدف كل العرب دون استثناء، إلاّ أنه لايوجد ما يمكن وصفه بالسياسة العربية تجاه ما يجري بالعراق، سواءً على المستوى الفردي أو الجمعي، وإنما نحن أمام سياسات عربية تنطلق في أفضل الأحوال من وحي ان تكون كل واحدة منها هي آخر من يأكله التمساح إن هي سارعت باطعامه، وبالتالي ان استمرت الأمور تجري على هذا المنوال ستكون نهاية الجميع على مراحل في فك التسماح الذي لايعرف حداً للشبع.
إذ لايكفي بالتعبيرات الاحتجاجية بأن أمريكا قد احتلت العراق وحالياً تسلمه لإيران، وهو كلام صحيح في طرح الزعماء العرب، لكنهم لايرغبون في مواجهة أنفسهم بالسؤال المهم وهو: لماذا فعلت أمريكا ذلك؟ لأن الإجابة عليه تنطوي على إدانة واضحة لهم بوصفهم غير موجودين!.
وهكذا أسدل ستار عام 2006م على أسوأ مشهد من مشاهد التاريخ العربي المعاصر والمتجسد بالتوقيت والطريقة، والأهم من ذلك أسباب إعدام أحد الزعامات العربية الرئىس العراقي صدام حسين الذي كان الزعماء العرب أو بعظهم يستطيعون رصد مثالبه وأخطائه، لكنهم لم يكن في مقدورهم إدراك مدى أهمية بقائه، وحيلولته دون حصول ما هو أسوأ من أفعاله، لكن من المرجح أنهم اليوم باتوا يدركون ذلك جيداً، ولكن مع الأسف قد رحل صدام إلى مثواه الأخير بلا رجعة بما له ومن عليه، لكنه ما المؤكد سيبقى بطلاً شهيداً خالداً في ذاكرة الكثير من أبناء الأمة العربية والإسلامية، مثله مثل الشهيد البطل الشيخ عمر المختار من قبله، تاركاً الزعماء العرب أمام تحدٍ تاريخي، وهو ما عساكم فاعلين أمام سقوط بغداد؟ وهل بمقدوركم استردادها؟.. اعتقد ان الإجابة على مثل هذا التساؤل تبدأ بالاتفاق على ان المقاومة هي المدخل الأنسب في هذا الطريق.
|
|
|
|
|
|
|
|
|
تعليق |
إرسل الخبر |
إطبع الخبر |
معجب بهذا الخبر |
انشر في فيسبوك |
انشر في تويتر |
|
|
|
|