محمد شنيف -
< لعل أفلاطون، لن يكون أول من استخدم هذا التشبيه للإنسان بسجناء الكهوف، وهو تشبيه أورده في محاورة «الجمهورية» ليبين للناس علة جهلهم بالحقيقة الموضوعية الخارجية، فهم كمن سكنوا كهفاً، وللكهف فتحة على الطريق العام، يدخل منها ضوء «الشمس»، لكن سكان الكهف جلسوا فيه مشدودين بسلاسل، بحيث تكون وجوههم نحو الحائط الخلفي، وظهورهم نحو فتحة الكهف على الطريق الخارجي، فإذا ما مرت كائنات من بشر أو حيوان، أو مرت عربات، ألقت بظلالها على الحائط الخلفي الذي تتجه إليه أنظار سجناء الكهف، ولما كانت تلك الظلال هي كل ما يرونه طوال حياتهم في جوف الكهف، ظنوا أنها هي كل ما هنالك من كائنات الوجود.. وإنك لتجهد نفسك عبثاً إذا أنت حاولت أن تبين لهم أن ما رأوه إنما هو ظلال للحقائق، خارج كهفهم، طرحت ظلالها أمامهم بفعل أشعة الشمس الساقطة عليهم من وراء ظهورهم، تجهد نفسك عبثاً لو حاولت ذلك، إذ إنه محال عندهم أن يصدقوا ما يقال عن أشياء لم يرها منهم أحد ولم يسمع.. وهكذا الحال بالنسبة لكل إنسان يقع- كما يقول الفيلسوف زكي نجيب محمود- أسيراً لما بث في أنفسهم من مخزونات فكره وشعوره، إلاّ من أراد له الله علماً يخرجه من أسره، ليرى حقائق الأمور كما هي واقعة، فيمحو من مخزونه كل ما يتناقض مع تلك الحقائق التي اهتدى إليها بعدئذ عن طريق معرفة كسبها وهو على وعي بما كسب..
ويواصل المفكر العربي الدكتور زكي نجيب محمود مسيرته العقلية في كتابه المعنون بـ«أفكار ومواقف» قائلاً: «لا .. لا عيب في أن يصدر المرء عن وجدانه فيما يقول، شريطة أن يكون على وعي بذلك، وأن نكون نحن على وعي به معه، حتى لا يختلط عندنا تصاوير الخيال بأحداث العالم، (تونس مثالاً)، ولكن العيب كل العيب هو فيمن يتصدى لتقرير الحقائق كما تجري، فيدس في قوله خيوطاً من تهاويف الحالمين، قد يرضي بها وجدانه، لكنها لا تصور من واقع الأمر شيئاً.. فلئن كانت النظرة الذاتية مطلوبة لمن أراد أن يخرج للناس مكنون نفسه، فالنظرة «الموضوعية» للحقائق واجبة على من يتصدى لتلك الحقائق بالعرض الصادق..».
تلك الرؤية الفلسفية للدكتور زكي نجيب محمود التي أوردتُها «طبق الأصل» وتضمنها كتابه المنشور في العام 1983م «أفكار ومواقف».. تظل اليوم وغداً رؤية موضوعية للساسة والمثقفين، التواقين للخروج من سجون كهوفهم الفكرية.. لكن السؤال: متى.. وكيف؟.. بعد أن وصل الحال إلى شبه المحال لدى أمثال من هم محسوبون على ساسة ومثقفي الوطن، وهم محبوسون في «الذات» التي تؤثر سلباً على الرأي الجمعي، على حساب الصالح العام، مهما كانت نسبة التأثير.. وأين الدور الايجابي للحكماء من ساسة ومثقفي البلد في السلطة والمعارضة الذين تركوا الساحة متاحة للوصول إلى المجهول؟!