د. طارق أحمد المنصوب -
لم يسبق لمجتمعاتنا العربية أن عاشت أحداثاً مشابهة بنفس القدر من الكثافة والتتابع، ولا بنفس المستوى من السرعة، ولا بذات القدر من التغير والتنوع، ولا يعلم إلا الله متى يتوقف، وأين سيتوقف كل هذا؟ وما النتائج التي ستسفر عنها هذه الأحداث، بالنظر إلى عدم اتضاح حجم المكاسب والتغييرات التي أحدثتها ثورتا تونس ومصر حتى الآن، ربما باستثناء إسقاط رأس النظام، ومحاكمة بعض الوزراء والمقربين بتهم الفساد، واستغلال النفوذ، والإثراء غير المشروع، وهي التهم التي كان يمكن لمؤسسات القضاء وأجهزة الرقابة الرسمية والشعبية أن تقوم بها في تلك البلدان، لو أنها قامت بدورها كاملاً وفقاً لقوانين الرقابة والمحاسبة، بينما بقي معظم رموز النظامين القديمين دون تغيير أو محاسبة حتى إشعار آخر.. وهذه الحقيقة دفعت الشعبين التونسي والمصري للخروج مجدداً للشارع لتجديد الضغوط والمطالبة سلمياً باستقالة الحكومة في البلدين، والدعوة إلى تشكيل هيئة تأسيسية لصياغة دستور تونسي جديد، ومؤكد أنها ستعاود الخروج مراتٍ تلو المرات، ولن تعدم الحجة في كل مرة لتبرير أسباب الخروج.
لقد عشنا خلال الأسابيع والأيام الماضية على وقع مصطلحات وشعارات متداخلة ومتصارعة، لأطراف وطنية عدة تباينت بين دعوات الإصلاح والتغيير، أو إسقاط النظام، وغيرها من الشعارات المقتبسة من هنا أو هناك.. لكن الملاحظ هذه الأيام أن العقل أخذ في كثير من مجتمعاتنا إجازة إجبارية، ودخلت ضمائر كثير من أبناء هذه الأمة وعلمائها ومثقفيها في منفى اختياري، أو اضطراري.. وعلى الرغم من أننا في مجتمعاتنا الإسلامية نؤمن بضرورة استمرار الدعوة إلى الوسطية والاعتدال، والتوازن في الطرح، فإن أعجب الأمور هي عدم قدرة - وربما عدم رغبة - كثير منا على سماع رأي مخالف أو رأي آخر مغاير، حتى إن لم يكن صواباً ومن باب إعطاء الفرصة للآخر للتعبير عن رأيه، ولذا نجد كثيراً منهم يضعون أياديهم في آذانهم خشية أن يتسلل أي حديث أو رأي مخالف إلى مسامعهم فيبدل قناعاتهم، أو يغير مواقفهم، أو يحرفهم عن مسارهم، وكأن المراجعة أو المحاورة، أو المشاورة باتت تهمة تضع صاحبها مع أو ضد هذا الطرف أو ذاك، ولا مجال للتراجع، أو إعادة التفكير، أو النظر في الأمر من كافة جوانبه، لتحكيم العقل والمنطق، وحقناً لدماء أبناء الشعب الواحد من المدنيين والعسكريين، مما يضع علامات استفهام كثيرة حول ما يجري، وحقيقة دور ونوايا كثير من محركي الأحداث في مجتمعاتنا، مع ملاحظة أن كثيراً منهم لا يقبلون من أحد مجرد التساؤل عن أسباب ومصير تلك المسيرات ومآلها، وما البرنامج الذي يجب أن تسير على هديه، وما الأهداف التي تنوي تحقيقها؟ ناهيك عن مواقفهم المتناقضة مما يجري على الساحة الوطنية.
فنجدهم تارة يفرحون عندما تخرج مظاهرات حاشدة معارضة للنظام، وحينما يتداعى الناس عبر شبكة الانترنت أو بأوامر حزبية للاعتصام لأيام وأسابيع في ساحات «الحرية»، وحيثما تردد الجماهير المجتمعة شعارات تنادي بإسقاط النظام، ويعدون هذا حقاً دستورياً، وليس في هذا عيب أو حرج، طالما بقيت الأمور في الإطار السلمي والديمقراطي الذي ارتضاه الشعب اليمني لنفسه، ومادام أنها بقيت في إطار احترام القانون والدستور؛ من أجل صون وحدتنا وثوابتنا الوطنية، وطالما سعت للحفاظ على مقدراتنا ومنشآتنا الوطنية التي هي ملك لكل أفراد الشعب اليمني.. ولن يستغرب أحدهم عندما تواصل القنوات ووسائل الإعلام النقل المباشر لتلك الأحداث وتصويرها من زوايا مختلفة، ونقل تصريحات المواطنين من الساحات، وإعادتها في مشهد يومي بات مألوفاً، وليس في هذا عيب طالما بقي في إطار حرية الفكر والتعبير عن الرأي، بعيداً عن التعصب والتحريض والتعبئة الخاطئة لإثارة الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، واللعب على أوتار التناقضات، ونبش الماضي، ونكء الجراح، وصب الزيت على النار لإشعال الحرائق، والتدمير المقصود لممتلكات الشعب اليمني، وتشكيل طوابير خفية لإشعال الفتنة بين المتظاهرين سلمياً، وقتل الأبرياء بغير ذنب.
وفي المقابل سنجد كثيراً منهم يرفضون الاعتراف بحق الآخرين في أن يخرجوا بمظاهرات مضادة، أو أن يرفعوا شعارات مغايرة تنادي بالحفاظ على الأمن والاستقرار، وترفض الفوضى والتخريب، وترى ضرورة الحفاظ على مقدرات الوطن، وحماية الوحدة، وصيانة المؤسسات، ففي هذا كل العيب، وأمر منكر لا يجوز أن يقوم به مواطن يمني، إلا إن كان مأجوراً أو مجبراً، أو غبياً، أو خائفاً من بطش النظام.. وفي مواقفهم تناقض واضح مع مبادئ الثورات الشعبية العربية نفسها، التي حملت شعارات تدعو إلى الحرية والمساواة، وإقرار الديمقراطية الحقة، وتداول السلطة سلمياً، ومحاربة الفساد في مؤسسات الدولة، وحق المواطن في الاختيار وممارسة دوره في السيادة الشعبية، وغيرها من المبادئ التي سبقتنا إليها الأمم وشعوب الدول الأخرى، وهذا يجعلنا نضع أكثر من تساؤل حول حقيقة ما يدور في مجتمعنا.
أيها الإخوة، في ربوع الوطن اليمني الكبير وخارجه، قد نكون جميعاً متفقين على كثير من الأمور، ومجمعين على كثير من المطالب المشروعة حتى إن اختلفت الشعارات المرفوعة هنا وهناك، والمواقع التي يتخذها كل طرف لجهة التأييد أو الرفض، والمرجعيات التي يعتمدها كل شخص في اختيار موقعه، والأعمار التي يبلغها كل واحد، والمناطق التي ينتمي لها كل فرد منا، والأساليب التي يتبعها كل فرد منا للوصول إلى تحقيق نفس الغايات..
ولذا نعتقد أن الاختلاف بيننا، إن وُجد فهو يكمن في: أن بعضنا - ولا نجزم أن هذا حال الأقلية أو الأكثرية لأن الواضح أن أغلب الشعب اليمني لم يعبر بعد عن موقفه صراحة - قد يكون قادراً على مراجعة نفسه، والعدول عن موقفه إلى غيره، والاعتذار عما يكون قد صدر عنه من تصرفات وأفعال وقرارات، إذا تبين له عدم صواب موقفه، وخطأ رأيه، وضعف حججه، وليس هذا عيباً أو نقصاً.. في حين قد يجد بعضنا الآخر صعوبة في التفكير بإمكانية العدول عن رأيه إلى غيره، أو مراجعة قراراته حتى إن تأكد له بالدليل الواضح عدم صوابه، وتهافت حجته، ويبدو كأن بينه وبين الآخرين ثأراً تاريخياً، فلا يجد نفسه إلا في موقع المعارض لكل شيء، والرافض لكل أمر، والمشكك في كل قرار، والمحرض على كل قبيح، والمتعصب الذي يرفض التراجع والعدول عن رأيه، أو تغيير موقفه.. وهذا المنطق الأخير لا يقيم دولة، ولا يحقن دماً، ولا يحقق تغييراً، ولا يحقق عدلاً، ولا يحترم رأياً، ولا يقبل تعددية، ولا يحمي حقوقاً.. ولكم أن تختاروا.