حــوار : مراد شلي -
الشاعر والأديب عبدالرحمن مراد لـ«الميثاق»:
«الرحيــل» يعنـي عودة الاستبداد
هو واحد من جيل التسعينيات من الأدباء اشتغل مشروعه الثقافي على مفردة الوطن فكان الوطن معزوفته الأجمل.. جلّ إصداراته من مثل (قلبي على وطني) (وطني غائب كأبي) و(صورة الوطن في المنتج الشعري اليمني).. وهكذا دواليك.. تلقاه في الصحف الأهلية صارخاً ومتوجعاً وناقداً ومصارحاًً إنه الشاعر والناقد الأديب/ عبدالرحمن مراد، الذي كان له موقف من الأزمة السياسية الحالية مسجلاً انحيازه إلى الشرعية الدستورية بعد زمن من التأييد والمناصرة.. التقيناه وكان هذا الحوار:
توارد إلى أسماعنا أنكم انسحبتم من ساحات الاعتصام .. هل بإمكاننا معرفة مبررات ذلك؟
- أولاً أشكر تفاعلكم .. وثانياً أنا لم أنسحب من ساحات الاعتصام.. لأنني لم أكن موجوداً فيها فقد كان لي بعض التحفظات ولم أعلنها، ولكني عبرت عنها بطريقة أو بأخرى فيما كتبته في صحيفة «الديار»، في الآونة الأخيرة أو في الموقع الاجتماعي التفاعلي الفيس بوك .
مفهومي للمعتصم أنه ذلك الإنسان المرابط في ساحات التغيير أما أنا فلم أكن مرابطاً ولكني كنت مؤيداً ومناصراً وداعياً للتغيير، وقلت إن من حق الأجيال أن تأخذ فرصتها في مجرى الحياة وفي صناعة الحياة ورسم معالم المستقبل وتمنيت على جيل سبتمبر وأكتوبر أن يترك لنا فرصة الإسهام في صناعة التاريخ .
وتفاعلت مع ثورة الشباب من هذا المنطلق باعتبارها - أي الثورة - تجسيداً حضارياً مدنياً وسلمياً تأخذ بقيم السلم وتشتغل عليه في خطابها وسلوكها وأخلاقها وتجاذباتها , لكن ما حدث كان على النقيض تماماً لذلك وصلت إلى قناعة مفادها أن تغيير مسار التاريخ بات مستحيلاً إذا لم نتمكن من إحداث ثورة ثقافية تأخذ الناس إلى مربعات عصرية متغايرة عن الماضي وإشكالاته وصراعاته.
ثورة الماضي
هل تعني أن التاريخ لن يتغير إلا إذا تغيرت الثقافة؟
- معطيات الواقع لا تقفز على هذه الحقيقة لأن الذين طالبوا الإمام يحيى بنصيبهم من الثورة والسلطة وانتفضوا عليه هم ذاتهم الذين انقلبوا على السلال في 5 نوفمبر 67م, وهم من اغتالوا المقدم الحمدي في 11أكتوبر1977م وهم أنفسهم من يوجدون الآن في ساحات التغيير ويتحدثون باسم الثورة مانحين الجنسية اليمنية لمن أرادوا حسبما ورد في صحيفة «عكاظ» السعودية في حوار مع أحدهم .
ما يحدث الآن ليس ثورة شبابية تنشد الغد من بين ركام الماضي ولكنه الماضي أراد أن يعيد إنتاج نفسه حين شعر باختلال موازين القوى في الأفق السياسي الوطني.
مصادرة
من خلال تفاعلك مع ما يحدث.. كيف تقرأ ما يحدث بين أطراف الأزمة السياسية الوطنية؟
- بغض النظر عن القوى التقليدية وتحالفات تلك القوى وتواجدها في ساحات التغيير لإعادة إنتاج نفسها في قادم الأيام , إلا أنني أدرك أن شيئاً يبزغ تحت سماء هذا الوطن لا يشبه الماضي ولن يكون تكراراً له لأن وعيه مدني وقائم على قيم السلم وهو يرفض صراعات الماضي وقيمه الانتهازية , هذا البازغ القادم في ظل معطيات الواقع ليس من مصلحته شعار “الرحيل” التي يصرُّ عليها لأسباب موضوعية وهي تعاضد القوى التقليدية التي ستعمل على وأده وإن ادعت خلاف ذلك ولن يكون المستقبل إلا وفق ما يتوافق ويتلاءم مع مصالحها , والسبب الآخر “الرحيل” لا يعني إلا الاستبداد الذي نشكو منه.. ومصادرة حق الآخر الموالي , لذلك فالحوار وإصلاح النظام هو الخيار الأسلم لخلق المناخات الملائمة للبازغ الجديد حتى يكتمل وتكتمل عوامل تشكله وتخلقه في البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية الوطنية, لذلك فأنا أنكر على المعارضة إصرارها على هذا الخيار كما أنكر عليها مفردات خطابها, ففي حين أجد لغة مبتذلة واستفزازية وبعيدة كل البعد عن ثقافتنا واعرافنا وتقاليدنا وعن المثل والقيم التي ننشدها.. أجد في المقابل لغة أكثر هدوءاً ولياقة لا تنتقص من قيمة أحد ولا تعادي أحداً وتدعو إلى الحوار والتسامح فمثلاً عندما نقرأ هذه المفردات “الغضب , الكرامة , الزحف , الرحيل , الثبات” نجدها تنتمي إلى حقل دلالي واحد وهو حقل الصراع والاستبداد ومثل ذلك يشكل مؤشراً خطيراً على المستقبل, ويقابل ذلك مفردات من مثل “التسامح” , “الإخاء “, “الوفاق”، والتي تنتمي إلى روح السلام والمدنية الحديثة ، هنا تصبح المعادلة واضحة النتائج.
الدخول إلى غرف النوم
كما أن اختلافنا مع الرئيس لا يعني مطلقاً الانتقاص من قيمته وتاريخه الوطني النضالي، لا أريد أن نقدم أنفسنا كنموذج أخلاقي سيئ.. وحين نتحدث عن ثورة لا بد أن نملك بدائل أفضل مما هو كائن , فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يتعامل مع مناوئيه من الجاهلين بنفس أخلاقياتهم التي درجوا عليها بل عاملهم بالبدائل الأخلاقية والإنسانية التي جاء بها وبشَّر بها.. بل الثابت في السيرة أنه قال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ولم يقل مطلقاً أنه سيدخل إلى غرفة نومه, ولم يقل فيه صفة سيئة واحدة , عندما أهدم مشروعاً قائماً لا بد أن أملك تصوراً متكاملاً عن بدائله وهذا أمر غائب , كون ما يحدث هدماً لا يقدم بدائل تجعلنا نطمئن على مستقبل هذا الوطن .
علي محسن بديلاً
برأيك ما الذي جعل الفرقاء يتَّحدون في هذه اللحظة .. وتتَّحد في ذات السياق مطالبهم؟
- هذا أمر يحتاج قدراً من التفكير ندرك تمام الإدراك أن قوى 5/نوفمبر1967م هي ذاتها من تتواجد الآن في ساحات التغيير وإن تغيرت الوجوه وكما توحَّدَ هدفهم بالأمس على السلال يتوحَّد الآن على الرئيس علي عبدالله صالح.
هناك من هذه القوى من وجد نفسه خارج المعادلة السياسية وأراد أن يستعيد دوره التاريخي كأبناء الشيخ عبد الله مثلاً الذين وجدوا أنفسهم في الصف الثاني بعد أن كانت أسرتهم في مقدمة الصفوف في حياة والدهم، ذلك أن والدهم ترك فراغاً لم يملؤوه وقد استغل هذا الفراغ اللواء على محسن فأعاد ترتيب أوراقه وبدائله مع الرئيس وقد شهدنا أثر ذلك في التداعيات الاجتماعية بعد انضمام علي محسن لساحة التغيير، ومثل ذلك لم نشهده حين تداعى أبناء الشيخ عبدالله إلى الساحة قد يبدو اللواء علي محسن ذكياً لأنه بعد عودته من ألمانيا إثر شعوره أن الرئيس يعمل جاهداً على إحلال الحرس الجمهوري بديلاً عن الفرقة تغلغل في النسيج الاجتماعي وصنع مجاميع مسلحة موالية له وظل يخضعها بإثارة ضغائنها التاريخية , أما أولاد الشيخ فقد شعروا أن تاريخ والدهم الوطني والنضالي ليس خياراً موضوعياً لبقائهم في المعادلة السياسية لذا تعددت خياراتهم بعين ليبيا وقطر والسعودية وربما كانت النتائج ليست بالقدر الذي كانوا يأملونه ولذلك كان خيارهم إعادة ترتيب أوراقهم في المعادلة السياسية الوطنية , وعزفهم على وتر الوحدة اليمنية ليس أكثر من مزايدة لأنهم لو كانوا صادقين لفعلوا كما فعل كهلان أبو شوارب, وأعادوا بيت علي سالم البيض والأراضي المنهوبة في الجنوب .
استهداف الرئيس
هم يقولون إنهم خرجوا حتى يضمنوا مستقبلاً آمناً لهذا الوطن ورخاءً وازدهاراً ؟
- يقولون ذلك طبعاً ولو كانوا صادقين لخاطبونا بنقاء الثوار الأحرار وأعلنوا تطهرهم وإدانتهم لكل أخطاء الماضي وأعادوا الحقوق إلى أهلها ومن ضمنها بيت نائب الرئيس السابق علي سالم البيض .
لكننا حتى الآن لم نجد مفردة الوطن حاضرة في جل الخطاب السياسي ما يحضر هو مفردات عداء مشخصنة وموجهة إلى شخص الرئيس ,واختزلوا مشروعهم في الرئيس وفي رحيل الرئيس .. ومثل ذلك أمر يثير الريبة ذلك أن الموضوع يغيب في مقابل تمظهر الذات ونرجسيتها وعدائيتها ..
الطريق إلى المستقبل لن يكون إلا بالحوار وبالتوافق إما الإلغاء والابعاد والإقصاء إنما هو إعادة واعية لإنتاج قيم الاستبداد , لا يمكن القفز على معطيات الواقع ووجود الآخر أو القفز على خياراته .. هذا امر مستحيل ولا يتوافق مع روح المدنية والسلام التي ننشدها .
مستقبل اليمن
هل تقول إن هذا يُعد تحولاً في موقفكم خاصة ونحن نقرأ لكم نقداً دائماً للسلطة سواءً في نتاجكم الإبداعي أو مقالاتكم في الصحف؟
- هو ليس تحولاً بالمعنى الدقيق للعبارة , لكون الغاية هي الوطن من كل ذلك.. قد تكون مصلحة الوطن في الظرف الراهن في بقاء الرئيس خوف الصراع الدامي واجترار الماضي شريطة أن يرعى الرئيس قيم التحول الحضاري ويرسم معالم المستقبل من خلال صياغة دستور جديد كما اعلن يلبي حاجات الناس ويعبر عن طموحات الأجيال ويعمل مع الفرقاء في الساحة الوطنية على إحداث هذا التحول بشكل آمن وسلس بعيداً عن القلق الأمني والصراع السياسي الدامي , لكني في انتخابات 2006م لم أكن مع هذا الخيار ولذلك لم أنتخب الرئيس , لأنني كنت أعتقد أنه ليس رجل المرحلة القادمة , وقد عبرت عن موقفي هذا من خلال نص شعري نشرته صحيفة «الصحوة» حينها وتضمنه ديواني “وطني غائب كأبي” الصادر عن دار عبادي للدراسات والنشر بصنعاء قبل عام تقريباً.
نسبية
البعض ينظر إلى موقفك هذا في كونه تفريطاً في قناعاتك التي ما تفتأ تعبر عنها؟
- أنا لا أعمل ضمن أجندة معينة، وليس لي أي انتماء سياسي، ولست تعبيراً إلا عن ذاتي ولذلك أقول ما أراه صائباً وقديماً قال أحد الفقهاء: «كلٌ يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر» وكان يقصد الرسول عليه الصلاة والسلام، والعاقل يستنتج النتائج من المقدمات التي يفرزها الواقع وأحداث التاريخ بين ثابت ومتغير وتأتي المواقف تبعاً لها وتظل القضية نسبية إذ لا ثابت مطلق ولا متغير مطلق .
الأسوأ في النظام!!
هل يمكننا الوصول إلى نتائج أفضل من خلال ما نشاهده من مقدمات الواقع وإفرازاته التي نلحظها في ساحات التغيير؟
- دعنا نكون أكثر إنصافاً ونسأل : من هم الفاعلون الآن في ساحات التغيير ؟ أليسوا أولئك الذين كانوا لبنة أساسية في جدار نظام علي عبدالله صالح ؟ وهنا تحضرني عبارة لأحمد الحبيشي أنهم أسوأ من في نظام علي عبدالله صالح، فساداً واستبداداً وأخذاً لحقوق الناس واستيلاء على مقدرات الوطن.. كل أولئك تداعوا إلى ساحات التغيير ليحجزوا مكاناً لهم في النهب القادم- حسب تعبير عبدالكريم الرازحي، ومثل ذلك قد يجرنا إلى نتيجة منطقية تقول إن من تبقى في النظام أطهر من أولئك الذي تساقطوا على ساحات الاعتصام.. نريد نقاءً ثورياً وطهراً.. لا تاريخاً عامراً بالفساد.. لقد أفسد أولئك المتداعون ثورة الشباب ونقاءها وطهرها وحلمها بغد أكثر إشراقاً ومدنية وسلاماً ورخاءً .
ثورة.. وزيف وتضليل
في إطار الثابت والمتغير ألا ترى أن ثمة متغيراً في فكر بعض الجماعات وفي سلوكها ونهجها الأخلاقي؟
- لقد كشفت الثورة عن انتهازية مفرطة ومبكرة ما كنا نتوقعها ومتغير في فكر وسلوك جماعات حتى أولئك الذي قالوا بوجوب السمع والطاعة لولي الأمر حتى ولو جلد ظهرك بالسياط, بمعنى جرَّموا وحرَّموا الخروج على الحاكم عملوا تخريجاً وقالوا إن ما يحدث نهي عن منكر وهو جائز شرعاً ما دام في إطاره السلمي.. جلّ المشكلة التي عابت الثورة في الإعلام الذي أفسد.. القيم الأخلاقية بانتهاجه مبدأ الزيف والتضليل والكذب.. اعتقد أن الحيادية والموضوعية والمهنية في ظروف كهذه تصنع رأياً عاماً والتفافاً جماهيرياً واعياً ومدركاً لمجريات الحدث .كان الأجدر بكل الفرقاء أن يستفيدوا من تجربة حزب الله في لبنان ومصداقية حسن نصر الله ذلك القيادي المسلم الذي لو قال الآن سأضرب حيفا لم يبق فيها من أحد من اليهود لأنهم عهدوا فيه الصدق , والحكمة ضالة المسلم أينما وجدها التقطها وليس بالضرورة أن لا ألتقط شيئاً إلا ممن كان متوافقاً معي فكراً ومعتقداً .
استجرار الماضي!!
هناك حملة إساءة تنال من الرئيس في هذه الأيام.. كيف يمكنك توصيف مثل هذا الفعل اللا اخلاقي؟
- أشرت سابقاً أن الثورات الحقيقية حملت بدائل لما هو كائن ولم تستجرّ الماضي , وأعظم ثورة في تاريخنا العربي هي الثورة الإسلامية التي حمل مشعلها الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام والثابت أنه في فتح مكة لم يتعامل بقيم الجاهلية بل بالقيم البديلة “لا تثريب إذهبوا فأنتم الطلقاء” لم يهدد أحداً بالمحاكمة ولا بالسجن ولا بالانتقام.., وحفظ لأكبر مناوئيه مكانته وقيمته, ولم يسقط من تلك المكانة شيئاً لا قولاً ولا فعلاً ولا تشويهاً . ما يحدث اليوم من بعض الجماعات خدشاً جارحاً في النظرية الأخلاقية العربية في بعدها العرفي والإسلامي في بعدها النظري إن علي عبدالله صالح يظل رمزاً وطنياً شئنا أم أبينا.. لقد صنع مجداً وتاريخاً نتفق فيه معه ونختلف وخصومتنا السياسية لا تجيز لنا النيل من مكانته ومن تاريخه ومن قيمته , وما يحدث لا أظنه فعلاً أخلاقياً سليماً وأتمنى على أولئك الذين يقترفون مثل تلك الأفعال أن يراجعوا أنفسهم وينتصروا للقيم النبيلة في ذواتهم الإنسانية الراقية.
العقل..
كلمة أخيرة تود قولها في ختام هذا الحوار؟
- أظن أنه ليس من العدل الانجرار وراء العاطفة ومن حق العقل أن يأخذ فرصته في التعامل مع مفردات الأزمة السياسية الوطنية .. وأتمنى أن يحضر الوطن في أجندة الفرقاء وتغيب الذات ولو بقدر معقول، وأسأل الله أن يجنب هذا الوطن الفتن ..