د. طارق المنصوب -
نشر منذ: يومين و 15 ساعة و 26 دقيقة
عن سبب تكرار أسماء «زيد» و»عمرو» في الأمثلة النحوية، يقول الدكتور (صابر رضا أبو السعود) في كتابه «في نقد النحو العربي» (ص: 9): «هذه أمثلة تعليمية يلجأ إليها النحاة المعلمون حتى لا يعددوا الأمثلة، ولا يكثروا من الاستشهاد حتى تتمثل القاعدة (النحوية) بارزة أمام المتلقي».
والمتلقي قد يكون تلميذاً في صفوف التعليم الأساسي أو الثانوي، أو طالباً جامعياً، أو قد يكون «عمراً» من الناس، يخشى أن تحرمه دهماء «المشترك» من حقه في مواصلة تلقي التعليم والدراسة في المدرسة أو الجامعة، أو أن يتعرض له الفتوة «زيد» وقبيله بالضرب، أو «بالسحل»، أو «بقطع الألسن» بعد أن «أدمن» حكاية ضرب الآخرين منذ طفولته، وتربى عليها منذ نعومة أظفاره، وترسخت في ذاكرته وذاكرتنا بسبب درس اللغة العربية، وإصرار أستاذنا – سامحه الله وغفر له - على مثال واحد لا يتغير: «ضرب زيدٌ عمراً».
فعندما كنا صغاراً نتعلم أول الدروس في قواعد النحو في الصف الرابع بالمدرسة، كثيراً ما سمعنا بالصراع الأزلي بين «زيد» و«عمرو»، حينها لم يدر ببال أحدنا أن يسأل عن سبب حصر أمثلة الأستاذ على «زيد» أو «عمرو» دون غيرهما من رجال العالمين، عند الإشارة إلى أي فعل أو عمل، «حسن» أو «ذميم» أو «قبيح».
وكنا نعد المسألة ترتبط حيناً، بتفضيلات الأستاذ من الأسماء، ربما لسهولة «لفظ» تلك الأسماء ... ذات المصدر الثلاثي، وحيناً آخر، اعتقدنا أن المسألة تتعلق بجانب شخصي بسبب عدم وجود تلميذ فينا يحمل أياً من الاسمين، عل أستاذنا يعيش بيننا في عيش هادىء آمنٍ «مستريح». ولم يدر في بال أحدنا أن ينسبها لسببٍ طائفي أو صراعٍ عرقي، ربما لأننا كنا صغاراً لا نعي وجود مثل هذا الانقسام أو الصراع، وربما لأننا لم نعش في مجتمعنا مثل هذا الصراع، أو أظننا لم نشعر أبداً بوجود ذلك الانقسام، وقبل هذا، وذاك لأننا لم نؤمن يوماً بوجود اختلاف عرقي أو طائفي، لأننا جميعاً ننتسب إلى «قحطان» أبو العرب. ولعلمنا أننا كلنا «لآدم، وآدم من تراب».
وهكذا، ظل المثال يتردد على مسامعنا كل صبيحة: «ضرب زيدٌ عمراً». وكنا نردد بكل براءة هذا «المثال»، ولسان حالنا يقول: ... مسكين «عمرو» هذا الذي يتلقى «علقة ساخنة كل صباحٍ بارد» ويُضرب في كل حصة لتعلم قواعد «اللغة العربية». وكأن شرح الدرس لم يكن ينفع بدون مثال «الضرب»، أو في غياب ضحية دائمة «لزيد»، «يشبع فيها لطماً وضرباً»، حتى «أدمن زيد ضرب عمرو». وأصبح زيد «رغم أنفه» «بلطجياً» بامتياز، أو «فتوة» بلغة الأشقاء المصريين. مع الفرق الشاسع بين الصورة «الإيجابية» «للفتوة» في الثقافة الشعبية المصرية، وصورته «السلبية» في المجتمع اليمني، كما تكونت من خلال المشاهد المتكررة في الأحداث الأخيرة.
لأن الأول، كما أظهرته السينما العربية الكلاسيكية، «شابٌ» قروي شجاع مفتول العضلات، قوي البنية، وغالباً كان يتم اختيار ممثل وسيم للعب تلك الشخصية (من أشهر من لعب الدور: الراحل فريد شوقي، وأحمد رمزي، ونور الشريف، وغيرهم).
وهو يخوض – مجبراً – بنفسه أولى معاركه ضد أحد الفتوات الآخرين دفاعاً عن المظلوم، أو ذوداً عن نفسه، أو طمعاً في تبوؤه منصب «الفتوة». ويظل متمتعاً بسطوته، ونفوذه، وهيمنته على أبناء «الحارة» طالما احتفظ بقوته، وما لم ينازعه تلك السيطرة «فتوة» أو فتوات آخرون، لأنه بهذه المنافسة قد يفقد لقب «الفتوة»، ويطرد إلى خارج «الحارة»، ليحل محله «الفتوة» الجديد، ويبدأ بدوره مرحلة جديدة من البطولات والسيطرة، و... تستمر الحكاية.
أما الفتوة اليمني، كما أظهرته بعض المشاهد والأحداث الجارية في مجتمعنا، فهو على النقيض من ذلك تماماً؛ حيث يبدو «شيخاً» هرماً، ونحيل البنية هزيلاً، ومنظره كئيباً. شكله لا يسر الناظر ولا يريح، ولا أظنه لمنظره في المرآة هو نفسه قد «يستريح». وهو يجيد فعل «الكلام»، ولغة «التصريح»، ربما أكثر من قدرته على «الفعل الصريح». إما لأنه ظل «كامناً» يتفرج على الساحة السياسية مثل «الجريح»، منتظراً أن يتعافى من جراحه وثأراته «القديمة». وإما لاعتقاده أن سيحقق بعد طول صبر واحداً من أقدم «أحلامه»، أن يغدو الفتوة «الفصيح»، حاكماً بكثرة «صب الزيت» لإشعال الفتن والحرائق في وطننا، أو ربما بقوة نفخ «الريح».
لقد باتت جهود هذا الفتوة في «صب الزيت» مكشوفة ومفضوحة زيادة، بعد أن أسلم لحقده أو لحلمه القديم «قياده»، وغرس «لأركان حكمه القادم» بجهود بعض شبابنا أعمدته وأوتاده. أظنه اعتقد أنه سينجح في تقريب الحلم «بالزعامة والريادة» من خلال إشعال الحرائق، وإثارة الفتن، وتحريض «الشباب» على «احتلال» المواقع الهامة ووزارات «السيادة»، من أجل الاستيلاء على «خيراتها»، أو ربما «لحفظ» ما بداخلها من «خرائط هامة» و «وثائق تاريخية» قد تفيده عندما يحقق حلمه، أو عندما يتسلم – هيهات له – منفرداً أو مع بعض أعوانه دفة «القيادة».
ولأنه لم يعد يطيق صبراً لقطف الثمار، بعدما ظن أنها قد أينعت ونضجت وقد «حان موعد قطافها» بعد طول انتظار، تجده سليط اللسان ينعق مثل «البوم»، لا يكل أو يمل من كثرة الكر والفر، والحث في الهجوم على «الخصوم»، وهو يدفع «الآخرين» لخوض معاركه نيابة عنه، لأنه «مؤمن» بأن تلك «مهمتهم الوحيدة» لتقريب «اليوم المعلوم»، ولتحقيق حلمه «المرسوم»، أن يغدو ذات يوم «زعيماً» يعلو نجمه فوق جميع «النجوم»، ولأمثاله نقول: تلك «مشيئة الحي القيوم» و «لا راد لمشيئته تعالى»، ولذا «صح النوم»،.
اللهم يا حي يا قيوم ارحمنا وقومنا وأهلنا وشبابنا، من كيد فتوات صب «الزيت»، ومن أحلامهم المجنونة، وافرق بيننا وبين إخوتنا بالحق، ونجنا وإياهم من فكر الخصومات، وتراث الانتقام من «الخصوم»، وارحم بلادنا بعقلائنا، ولا تصبنا بما فعل السفهاء منا، واحفظ وطننا الغالي من كل مكروه مقدر و«محتوم»، وأغدق على أرضنا بفيض كرمك «خيرات الغيوم».
من قصيدة (لن تكون) للشاعر اليمني (محمد الشرفي):
قف حيث أنت لن تكون
واطرحه جانباً هاجسك الملعون
فقد سقطت مرة واحدة
ذات مساء عاصف مجنون
وانقشعت عن العيون
كل الهواجس والظنون
وعرف الذين كانوا يصفقون
والمشاهدون
أن الممثل المسكين
محترف مأفون.
(*)جامعة إب