احمد الحبيشي -
بوسع كل باحث يتسلح بالقراءة الموضوعية لخبرة الرئيس علي عبدالله صالح مع الآخر المغاير في مجرى إدارة شئون الحكم منذ توليه السلطة في السابع عشر من يوليو 1978م، التوصل إلى إستنتاجات ذات مغزى عميق..جاء الرئيس الشاب علي عبدالله صالح إلى الحكم في بلد مشطر إلى جزئين متنافرين.. ولأنه واحد من جيل الشباب الثوري الذي نشأ وعيه في واقع راكد حركته رياح الثورة اليمنية، فقد كان أبرز ما تميزت به تجربة الرئيس علي عبدالله صالح في الحكم هو إنطلاقها من مدرسة واقعية جديدة في التفكير تنتسب إلى الثورة في مشروعها الرامي إلى التغيير، بقدر ما تنتسب في الوقت نفسه إلى واقع متخلف فشلت في تغييره مشاريع سابقة لتيارات سياسية وفكرية شمولية، يفترض كل واحد منها تمثيل الحقيقة دون سواها، الأمر الذي قاد إلى هيمنة أنماط متصادمة للتفكير النظري والممارسة العملية لا يوحّدها سوى قاسم مشترك هو إيديولوجيا الإلغاء التي أفرزت صراعات وإنقسامات حادة داخل المجتمع، لم تنج منها النخب الثورية - نفسها- ما أدّى الى إصابتها بالتمزق والضعف والتناحر والتحلل.
عند وصوله إلى سدة الحكم تعامل الرئيس علي عبدالله صالح مع بيئة سياسية معاقة بالكوابح ومثقلة بالأمراض التي خلقتها مشاريع بآلية فشلت في صياغة مشروع وطني ديمقراطي قابل للتنفيذ والاستمرار، وعجزت في الوقت نفسه عن تقديم بديل حقيقي لثقافة الاستبداد التي كرستها الدولة الثيوقراطية قبل قيام الثورة والجمهورية.
وتبعاً لذلك كان الاستبداد المتدثر برداء الخطاب الثوري الجديد أكثر قسوة ومضاضة على المجتمع ، من الاستبداد المختبئ خلف الخطاب الديني للنظام الإمامي البائد، فيما كان حجم الجراح الموروثة عن أخطاء قوى الثورة أشد خطراً على الحرية والحقيقة من ثقافة الاستبداد نفسها.. بمعنى أن الرئيس علي عبدالله صالح وجد نفسه أمام مهمة تفكيك بنية الاستبداد وبنية التجزئة بعناصرها المتنوعة سواءً تلك الموروثة عن أمراض ما قبل الثورة، أو عن أخطاء قوى الثورة اليمنية.
من نافل القول أن تأسيس المؤتمر الشعبي العام ارتبط بالدور المتميز للرئيس علي عبدالله صالح في قيادة السلطة السياسية للدولة منذ وصوله إلى السلطة في ظروف متميزة أيضاً.. فالرئيس علي عبدالله صالح - كما هو معروف- وصل إلى السلطة باختيار مباشر من النخب السياسية التي تمثلت في مجلس الشعب التأسيسي عام 1979م، يوم كان الشطر الشمالي من اليمن يواجه خطر فراغ السلطة نتيجة عزوف الساسة عن التفكير في تحمل مسئوليات الحكم الذي أودى بحياة رئيسين قبله خلال فترة زمنية قصيرة.. بمعنى أن السلطة هي التي سعت إليه ولم يسع إليها، ناهيك عن انسداد الحياة السياسية طوال السنوات السابقة لتوليه مهام الحكم بفعل هيمنة القبضة الحديدية لأجهزة الدولة الأمنية، وغياب المجتمع المدني، وتحريم التعددية الحزبية ولجوء الأحزاب إلى العمل السري.
كان قبول الرئيس علي عبدالله صالح هذا التكليف ينطوي على استعداد لمواجهة مخاطر متوقعة على المدى القريب ما فتأ أن وجد نفسه أمامها بعد شهرين من تحمله مسئوليات الحكم، حيث وقع انقلاب عسكري فاشل في اكتوبر عام 1978م، ثم وجد نفسه بعد خمسة أشهر من ذلك الإنقلاب أمام مخاطر جديدة تمثلت في حرب فبراير 1979م بين الشطرين، التي نجح في إيقافها بواسطة الحوار السياسي الوطني مع قيادة الحزب الاشتراكي في الشطر الجنوبي من الوطن.
وفيما كان الرئيس علي عبدالله صالح يراهن على فسحة من الوقت تمكنه من تضميد الجراح التي نجمت عن إنقلاب اكتوبر 1978م وحرب فبراير 1979م، ومعالجة المشاكل الموروثة عن سنوات الحرب الأهلية والصراع الداخلي منذ عام 1962م، وجد نفسه مرة أخرى في مواجهة اللعبة العمياء للصراع على السلطة باندلاع المعارك المسلحة في المناطق الوسطى، حيث شن الفرع الشمالي للحزب الاشتراكي اليمني حرباً منظمة بهدف تغيير الأوضاع وإسقاط السلطة بالقوة، استمرت خلال الفترة بين عامي 80 -1982م.
ومرة أخرى إرتبط نجاح الرئيس علي عبدالله صالح في إطفاء نار تلك المعارك بالحوار السياسي الوطني مع قيادة الحزب الاشتراكي اليمني إلى جانب الحوار الذي كان قد دشنه مع مختلف القوى السياسية والشخصيات الوطنية في اليمن منذ عام 1980م، حيث تم تشكيل لجنة للحوار الوطني ضمت نخبة كبيرة ومتميزة من الساسة والمفكرين والمثقفين الطليعيين من مختلف تيارات الفكر السياسي الوطني والقومي والاشتراكي والاسلامي، انبثق عنها الميثاق الوطني كوثيقة نظرية منهاجية تم استخلاصها من القواسم المشتركة بين جميع التيارات الناشطة في المجال السياسي، وصولاً إلى تأسيس المؤتمر الشعبي العام الذي مثًّل عند نشوئه إطاراً سياسياً لمفاعيل العمل الوطني السياسية والفكرية، على خلفية معقدة من موروث الصراعات الدامية والانقسامات الداخلية والحروب الشطرية والأهلية.
اللافت للنظر أن كلاً من دستوري الشطرين الشمالي والجنوبي من الوطن كانا يحرمان التعددية الحزبية، بيد أنهما - كحال دستور الوحدة- لم يصادرا حق المواطنين في تنظيم أنفسهم سياسياً ونقابياً.. وهنا يجب ألاّ نبخس الناس أشياءهم حين نقول أن الرئيس علي عبدالله صالح سلّم هذا الحق لأصحابه بعد أن ظل مهملاً منذ إقرار الدستور عام 1970م، وكان لافتاً للنظر أن عملية التسليم تمت على مستويين من المشاركة، مستوى الحوار بين النخب السياسية، ومستوى الجماهير التي شاركت في إقرار مخرجات هذا الحوار من خلال الاستفتاء على وثيقة الميثاق الوطني، وانتخاب المندوبين إلى المؤتمر التأسيسي للمؤتمر الشعبي العام، وكانت العملية في مجملها تشكل خطوة مهمة على طريق الخروج من أنفاق الشمولية والانتقال إلى تخوم الديمقراطية.
وقد أوجد قيام المؤتمر الشعبي العام حافزاً لحراك سياسي جديد داخل النخب الممثلة لمختلف التيارات السياسية والفكرية التي أنضوت فيه، ووصل هذا الحراك ذروته بعد قيام الوحدة اليمنية عبر عملية فرز وإعادة بناء أسفرت عن ولادة نخب جديدة أنفصلت عن النخب السياسية القديمة، وأنخرطت في إطار مشروع حزبي وسياسي جديد ومختلف عن المشاريع السابقة، حيث تم الإعلان هذه المرة عن تحول المؤتمر الشعبي العام إلى تنظيم سياسي برنامجي في إطار التعددية الحزبية، وهو ما سنأتي على مقاربته لاحقاً.
في هذا السياق يمكن فهم أبعاد الخطوة التاريخية التي أقدم عليها الرئيس علي عبدالله صالح حين قرر الانفتاح على الفرع الشمالي للحزب الاشتراكي اليمني (حزب الوحدة الشعبية) الذي خاض مع السلطة مواجهة مسلحة دامت سنتين ونيف، بالإضافة إلى انفتاحه أيضاً على التيار الإسلامي الذي شارك في تلك المواجهات حين كان مهووساً بالبحث عن أي فرص سانحة للجهاد السلفي المسلح ضد أي عدو مفترض في الداخل والخارج.. وتوج الرئيس ذلك الانفتاح بتوقف المواجهات المسلحة والسماح لحزب الوحدة الشعبية المعارض بإصدار صحيفة ((الأمل)) الأسبوعية التي حلت محلها بعد الوحدة صحيفة ((المستقبل)) كما سمح للتيار الإسلامي بإصدار صحيفة ((الصحوة)) الأسبوعية التي مازالت تصدر بانتظام منذ تأسيسها قبل الوحدة.
و لا ريب في أن السماح بإصدار هاتين الصحيفتين المعبرتين عن تيارين فكريين رئيسيين ومتغايرين إلى جانب صحيفة ((الميثاق)) الناطقة بلسان المؤتمر الشعبي العام كان بمثابة الخطوة الأولى في مشروع تأسيس صحافة حزبية تعددية تساهم في تأهيل الحياة السياسية لاستيعاب قيم الحوار والقبول بالآخر والتخلص من ثقافة الإلغاء والإقصاء والإدعاء باحتكار الحقيقة.
جاءت انتخابات مجلس الشورى عام 1988م لتشكل جرعة جديدة إضافية على طريق التحول نحو الديمقراطية، وشهد الشطر الشمالي من اليمن بعد تلك الانتخابات موجةً من المؤتمرات والفعاليات الانتخابية التي عقدتها الاتحادات والنقابات الجماهيرية والمهنية ، سواءٌ تلك التي تأسست أو تم احياؤها بعد قيام المؤتمر الشعبي العام سنة 1982م.. ولا أبالغ حين أقول بأن ذلك الحراك جسّد بصورة ملموسة حيوية البيئة السياسية في الشطر الشمالي من اليمن وقدرتها على بلورة صيغة محلية للتفاعل الإيجابي مع المتغيرات الدولية وفي أساسها تحديات التحول نحو الديمقراطية التي أكتسبت في أواخر الثمانينات من القرن الماضي طابعاً كونياً على نحو ما اشرنا إليه في بداية هذه الورقة.
يقيناً أن خبرة تأسيس المؤتمر الشعبي العام تمت في إطار عملية وطنية استهدفت إعادة بناء المجال السياسي وإعادة صياغة الفكر السياسي في بلد عانى كثيراً من ويلات الاستبداد والشمولية، الأمر الذي ترك آثاره على خبرة المؤتمر الشعبي العام في انجاز الوحدة وبناء أول نظام سياسي تعددي، والانتقال من صيغة الانفراد في الحكم قبل الوحدة إلى صيغ المشاركة الائتلافية بعد الوحدة.
على هذا الطريق كانت مبادرة الرئيس علي عبدالله صالح بطرح مشروع الوحدة أثناء زيارته لعدن يوم 29 نوفمبر 1989، أحد أبرز الخيارات التي تتيح فرصاً أفضل لتشغيل ميكانيزمات إصلاح النظام السياسي في الشطر الشمالي من اليمن، باتجاه الاستجابة لتحديات التحول نحو الديمقراطية التي أضحت اتجاهاً كونياً لتطور عالم ٍ تتجه متغيراته نحو إطلاق مفاعيل التنافس السياسي والاقتصادي والثقافي ، في إطار نظام ٍ كوني جديد يتسم بالترابط والتكامل والاعتماد المتبادل بين جميع مكوناته.
كان واضحاً أن القيادة السياسية للمؤتمر الشعبي العام أدركت جيداً ضرورة بناء إطار وطني شامل للإصلاحات السياسية والاقتصادية المطلوبة في هذه الحقبة من تطور عصرنا، باتجاه إعادة تأهيل الوطن اليمني كله للإندماج بالنظام العالمي الجديد، والاستجابة لرياح التغيير الديمقراطي بعد تسارع ايقاعات العد التنازلي للحرب الباردة أواخر الثمانينات ، إيذاناً بانطلاق رياح الديمقراطية والتغيير في العالم.