امين الوائلي -
جاءت الدولة- في اليمن تحديداً- من رحم الحاجة الحقيقية- للأوساط الشعبية إلى هذا الكيان أو الكائن النظامي الذي ظل مفرغاً من معناه ووظيفته الحقيقية طوال فترات مترامية في صحراء الزمن الأجدب عبر تاريخ ثقيل من حكم الأئمة ذي النزعة السلالية والاستحواذية المطلقة، تخللتها نزاعات وصراعات سلالية وأسرية مزقت كيان الدولة الجامعة وأحالته إلى مِزقٍ متباعدة وجزر متناثرة متنافرة.. تبعاً لتنازع الحكم والإمارة وسلطة السيادة المتقاتلة على نظرية »الأحقية« الوراثية لجهة الجذر السلالي.. زد على ذلك سلسلة من التدخلات والأطماع الخارجية، حيث ظلت اليمن مهوى قوى عدة ذات نفوذ توسعي دولي كان آخرها في التاريخ الحديث والأقرب الحكم العثماني من جهة والاستعمار البريطاني من جهة أخرى..
> كل ذلك، مضافاً إلى طبيعة حكم الأئمة وأمراء الداخل، لم يخدم مفهوم الدولة ولا أتاح حيزاً من الوقت والإمكان للتفكير في السيادة الجامعة والشكل النظامي الذي توفره النظرية السياسية المتحالفة مع قيمة ووظيفة ورسالة »الدولة« في مجتمع متجانس كاليمن.. كان هناك حكم ما.. ونعم كان لديه نفوذ وسيطرة يبسطها على مساحة واسعة- وصلت غالباً أو في كثير من الأحيان إلى حدود اليمن الطبيعي الكبير.
ولكن ظلت الدولة بمفهومها الحديث معطلة، حظر الحكم برمزيته الواحدية المغلقة والمنغلقة، وغابت الحكومة المدنية والدولة كنظام مؤسسي قادر على التعاطي مع إدارة شئون الحكم والمجتمع والعلاقات المختلفة في المستوى الداخلي أو على مستوى العلاقة مع دول العالم.
> قياساً إلى ذلك.. جسد مفهوم ونظام »الدولة« القائمة أبرز مكتسبات اليمن الجمهوري وجاء الكيان- الكائن المؤسسي المنتمي إلى مفهوم الدولة الحديثة ليسد فراغاً في عمق الحاجة الشعبية والوطنية إلى نظام حكم دستوري مختلف عن كل ما سبقه وجاء قبله من أشكال تحكُّمية عطلت فاعلية الشراكة الجماعية والمشاركة الواسعة في صناعة الحياة وإثرائها على الوجه الذي يوازي أو يطمح لمجاراة واللحوق بالنماذج الحديثة والسائدة في العالم من حولنا.
> عوائق جمة وصعوبات حقيقية اعترضت- ولاتزال- نمذجة المكتسب الوطني المتمثل في الشكل الحديث للدولة القادمة مع إشراقة فجر الثورة واليمن الجمهوري.
ما من شك فإن الدولة اليوم أقوى وأمتن وأنضج مما كانت عليه بالأمس، وهي بعد أربعة عقود ونيف من عمرها المديد قد قطعت أشواطاً واسعة وخطوات جسورة وهائلة في الطريق إلى النموذج الذي نستهدفه جميعاً وتنشده الحاجة الشعبية والوطنية.. أعني نموذج الدولة القوية المقتدرة صاحبة المنهج التشريعي والدستوري والقانوني، وصاحبة المؤسسات القائمة على إدارة التشريع والدستور والقانون، وبالإجمال فإنها دولتنا جميعاً، التي نريد ونحلم.
> مراكمة الجهد الوطني والجماعي ضرورة أولى وحاسمة لمراكمة مكتسبات دولة النظام والقانون والسيادة.. ولامعنى لكل ذلك بدون الاستقرار.. الشرط الحاسم والمفصلي في الحركة نحو الدولة.. الغاية: هي الاستقرار والأمن، ولن يتأتى ذلك من دون تكريس حازم وأولي لمبدأ سلطة وسيادة القانون والمؤسسات الشرعية وفرض هيبة المشروع الجماعي »الدولة«.. وبالتالي تعطيل فاعليات ماعدا الشرعية الواحدة والسلطة الجماعية الواحدة والدولة المؤسسية والدستورية، من كوابح ومعقوات لاتزال تنتصب في طريق المشروع الوطني الجامع.
> لايمكن أن تكون هناك دولة تحترم نفسها وشعبها وتؤمن برسالتها ووظيفتها المتكاملة من دون أن تجعل هذا الاحترام والإيمان سلوكاً عملياً ونشاطاً مؤسسياً يشمل جوانب الحياة والإدارة.. على أن الهدف والغاية من كل ذلك يبقى هو التنمية الشاملة في المجتمع وتحسين معيشة وظروف أبنائه وجماعة السكان عموماً.
> واستطراداً.. لن تصبح الدولة ومكتسباتها كذلك وعلى هذا المنوال، مالم يكن هناك اتفاق نهائى وباتّ حول مسلَّمات الشرعية والسيادة والأمن والاستقرار وسلطة القوانين ووظيفة الأجهزة والمؤسسات التنفيذية.. ولهذا لايحسن بنا- كمجتمع وجماعات- الانصراف عن خطأ وخطيئة السماح لأيٍّ كان، وتحت أي شعار أو مشروع فوضوي هدام، بأن يقوض- قليلاً أو كثيراً- من سلطة الدولة وسيادتها وقرارها على كامل أراضيها ومساحة خارطة البلاد.
> إذا كان الناس من حقهم أن يختلفوا في إطار التعددية وحول الآليات والوسائل، فليس عليهم أن يختلفوا في القواعد الأولى ولا في الغايات النهائىة.
من حقنا، بل من واجبنا، مساءلة المواقف ومناقشتها حول قضايا من هذا النوع.. تتعلق بالانتماء إلى الدولة والوطن واحترام القدر المتوافر حتى الآن من مكتسبات الدولة والنظام والقانون ومؤسسية الإرادة الوطنية والإدارة الحكومية، فحينما يتعلق الأمر باستقرار بلد وأمنه، واستقرار السيادة والإدارة المدنية وسلطة القانون.. أية مساحة تبقى للمناورة أو التملص من تسجيل موقف مبدئي يمتنع لديه اجتماع الشيء وضده أو الاستناد إلى حسابات أخرى لها تعلق بالقضايا الخلافية المشروعة، وتعميم حالتها وحكمها على غيرها من القضايا التي لاخلاف حولها.. باعتبار أنها من المسلَّمات التي يقرها الجميع.
> ويصعب علينا وأمثالنا في هذه الحالة أن نفهم شيئاً مما يقوله البعض في هذه المرحلة وهذا الظرف وهم يعلقون أو يعلنون رأيهم في مواجهة الضغوط الذاتية والموضوعية المتزايدة عليهم لتسجيل وإعلان موقف من أحداث عنف ومواجهات تفجرها حركة تخريب وإرهاب وتقويض كالتي تقودها وتنفذها مجموعة من العناصر الخارجة على الدولة في محافظة صعدة.
فإن البعض- وإن كنا نحترمه ونحفظ مقامه ولا نغمط تاريخه كما هو- ذهب إلى منطقة شائكة ولا موضوعية في الرأي قوامها اعتبار ما يحدث »لجوء إلى القوة في معالجة قضايا وخلافات سياسية«!!
ولا نعلم ما المقصود بذلك.. وهل صار التسلُّح وتكوين عصابات مسلحة خارج نظر القانون والدولة، وبالتالي الخروج والعصيان والتمرد ومقاومة السلطات الشرعية واستهداف موظفيها بالقتل و... و..، هل صار كل ذلك مجرد »خلاف سياسي« فقط؟!.
> ومتى كانت الخلافات السياسية تتضمن كل هذا القدر من العنف والتطرف والتنكر لسيادة الدولة والقانون؟ ثم ماهي القضايا السياسية التي يملكها ويقاتل عنها عناصر التخريب؟ لديهم كل شيء إلاَّ الفكرة أو المشروع والبرنامج السياسي.. وإلاَّ لقبلوا دعوة الدولة ومطالباتها المستمرة بأن يتحولوا إلى تنظيم أو حزب سياسي بحسب الدستور والقانون ويمارسوا نشاطهم السياسي وخلافهم مع الدولة أو غيرها عبر هذا الإطار المدني والقانوني.. فلماذا لم يفعلوا؟!
> الضرورة تقتضي تمييز الرأي والموقف تماماً.. هذه الضبابية والتواري خلف جمل وعبارات مطاطة ليست موقفاً ولايمكنها أن تصبح كذلك في يوم من الأيام.
> المسألة ليست صعبة- ولاهي سهلة أيضاً- ولكن لابد من الاعتراف بأن مايحدث فعلاً هو تخريب وعنف وإرهاب ضد الدولة وارتهان ضد مصلحة وأمن واستقرار البلد.
> والخلاصة: إن الذين يتفقون ويرددون بأن مصلحتنا جميعاً في دولة قوية ذات مؤسسات وسلطات وقوانين.. عليهم أن يوضحوا لنا ولأعضائهم كيف يمكن تحقيق ذلك، وخصوصاً في مواجهة مثل مايحدث الآن في صعدة.