نصر طه مصطفى -
عندما تعلن إيران باستمرار إصرارها على المضي في برنامجها النووي للأغراض السلمية في مواجهة الغرب كله تجد دائماً أن المسلمين في كل مكان يقفون معها بكل عواطفهم وجوارحهم بعيداً عن أي حسابات سياسية أو مذهبية، وهذا بالتأكيد هو أهم ما يجسد الوحدة الوجدانية والعقيدية بينهم، فيما تختلف الصورة تماماً عندما يحس المسلمون في أنحاء العالم بأن إيران يمكن أن ترجح عاطفتها المذهبية في قضية ذات بعد طائفي على انتمائها الإسلامي الأمر الذي يحسون معه بانكسار أكيد في مشاعرهم وآمالهم بأمة موحدة المواقف، وعلى ذلك فإن بلداً كبيراً ومهماً مثل إيران يرتكب خطأ فادحاً في مثل هذه الحالة لأن مستقبله مرهون بمساندة المسلمين جميعا له ومنهم بالتحديد جيرانه العرب الذين تتطلب مصالحهم ومستقبلهم واستقرارهم وجود علاقة جيدة ووثيقة معها، حاجة إيران نفسها لمثل هذه العلاقة لا تقل عن جيرانها العرب.
في الوقت ذاته ندرك أن هناك تاريخاً طويلاً من الخلافات لكنه لم يحل دون التعايش السلمي في أغلب الأوقات بين أتباع المذاهب المختلفة، فإذا كان الحال هكذا في تلك العصور التي كان حال الأمة فيها أفضل حالاً وأكثر التئاماً، فإنه ينبغي أن يكون أفضل وأفضل في عصرنا الحالي الذي تفرقت فيه أيدي سبأ ووصلت أوضاعنا فيه حد الانهيار الكامل لولا بصيص أمل يبزغ من هنا أو هناك يحافظ على كيان الأمة سواء من خلال زعامات تاريخية أو أحداث عظيمة أو متغيرات هائلة، وكلنا يتذكر جيدا كيف تعاطف العرب جميعا دون استثناء مع الثورة الإيرانية وقائدها الراحل الإمام الخميني وأيدوها دون قيد أو شرط إلى أن بدأ هذا التأييد يتراجع شيئا فشيئا بسبب إعلان الهوية المذهبية للجمهورية الإسلامية الوليدة ثم اندلاع الحرب العراقية الإيرانية وما أدت إليه من تأجيج طائفي ومذهبي غير مسبوق بين أبناء الأمة الواحدة أخذ يتراجع ويهدأ ويختفي بعد توقف تلك الحرب ودخول العرب جميعا في مرحلة جديدة ومختلفة تماما مع الاحتلال العراقي للكويت وما نجم عنه من تداعيات لم تنته إلا بسقوط بغداد في أيدي القوات الأمريكية عام 2003 وبدء العصر الذهبي الحقيقي لإيران في المنطقة كلها.
ومع مرور الوقت تقاسمت إيران مع الولايات المتحدة بشكل غير معلن إدارة شؤون الحكم في العراق، فطهران أصبحت لاعباً رئيسياً إن لم تكن في الحقيقة هي اللاعب الرئيسي وصاحبة القرار الأقوى في الشأن العراقي، ولولا هذا الدور الذي تمارسه في العراق لكانت ربما تعرضت لضربة عسكرية قاتلة من الولايات المتحدة الأمريكية وبعض حلفائها بحجة ضرب مفاعلها النووي، وبدلاً عن ذلك أصبحت (العدو المدلل) لواشنطن الذي تشن عليه من الحروب الكلامية ما يجعلك تعتقد أن نهاية هذا البلد أو هذا النظام قد أصبحت وشيكة، لكنك تدرك لاحقا أن المسألة ليست ولن تكون على المدى المنظور أكثر من ذلك.
في ضوء كل هذه المستجدات والمتغيرات التي تمتد ما بين الاتجاهات الدولية لتوقيع عقوبات اقتصادية على إيران بسبب مشروعها النووي، والدور الإقليمي الإيراني المتسع في المنطقة والمتهم بإذكاء النزعات المذهبية بحثاً عن تأثير سياسي في محيطها الإقليمي، في ضوء كل ذلك يمكن أن نقرأ زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد الأخيرة لكل من السودان والمملكة العربية السعودية. وبغض النظر عن كونها أول زيارة رسمية له للبلدين فإنها جاءت في هذا الظرف الدولي والإقليمي المعقد والصعب، إذ من المؤكد أن الحكومة الإيرانية أدركت بما لا يدع مجالا للشك أن استمرار التعبئة المذهبية ضدها في المنطقة سيؤدي إلى عزلتها فعلا خاصة إذا ما تم كذلك توقيع عقوبات اقتصادية دولية ضدها. فالسودان يمثل بالنسبة لطهران جسر عبور إلى الحركات الإسلامية السنية بالطبع في المنطقة باعتبار الجذور الحركية الإسلامية للنظام السوداني الذي لا يزال يحتفظ بعلاقات وثيقة مع هذه الحركات وبالذات التي لا تنتهج العنف أسلوبا لها في العمل السياسي. ومن المؤكد أن طهران تفهم جيداً دور الحركات الإسلامية العربية في إمكانية رسم صورة إيجابية أو سلبية للحكم الإيراني لدى الشارع العربي، وهي بلاشك تحتاج للصورة الإيجابية بعد اهتزازها في مواقع عدة.
في الجانب الآخر تعتبر السعودية جسر عبور لطهران باتجاه التفاهم مع الأنظمة العربية وتخفيف حدة القلق العربي الرسمي من السياسات الإيرانية الجديدة في المنطقة. فرغم تأييد المملكة حق إيران في الحصول على التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية، إلا أن هناك قلقاً طبيعياً من توظيف طهران قوتها النووية على افتراض امتلاكها لها لمصلحة مشروعات لا تخدم استقرار المنطقة والتعايش السلمي بين أبنائها، إلا أن الرئيس نجاد حرص على طمأنة العاهل السعودي قبل انعقاد القمة العربية في الرياض أواخر الشهر الحالي بخصوص النوايا الإيرانية والحرص على التقارب السياسي وتخفيف حدة الاحتقان المذهبي ودعم الجهود السعودية لحل الخلافات بين الأطراف اللبنانية.
إذا اعتبرنا زيارة الرئيس الإيراني للسودان والسعودية ناجحتين فإن إيران تكون بذلك قطعت خطوة جادة في التقارب بينها وبين جيرانها العرب ونزعت فتائل الألغام المذهبية والطائفية التي ستمتد تأثيراتها بلاشك إلى داخل إيران ولن تقتصر على المنطقة العربية.
نقلاً عن الخليج