عبدالرحمن مراد -
استوقفني صديق قديم بغضبٍ حاد قائلاً ماذا تريد بالضبط، كنا نشتاط غضباً وأنت تكتب نقداً لاذعاً وأحياناً جارحاً للنظام، والآن نقرأ لك كتابات لاذعة وجارحة بعد أن خرج الناس مطالبين بإسقاط النظام، ورأينا فيك نقيضاً مبهماً لم نستطع سبر غوره أو معرفة كنهه.. ومثل ذلك الصديق أصدقاء كثر حاصروني بذات الأسئلة الى درجة الاجهاد والإرهاق في التوضيح والتكرار.
وحقيق على أولئك الاصدقاء أن يقرأوا ما نكتب في سياقه التكاملي وأنْ لا يأتوا الاشياء من أطرافها فقط لأنهم حينها سيصلون الى جوهر الحقيقة التي مفادها أننا لا ننزع فيما نكتب من بعد عاطفي ولا خصومة لنا مع أحد وإنما قضيتنا قضية وطن ونحن نجتهد رأينا ولا نألو.. وقد يدرك المتابع لنا أن غايتنا إحداث ثورة حقيقية في البعد الثقافي والفلسفي تعيد تعريف إنسانية الانسان وتجدد في منظومة العلائق وفي فقه المعاملات بما يخرجنا من كبوتنا الحضارية التي اتسعت بنا ولم نتمكن من ردمها لكوننا مانزال محاصرين بمنظومة أفكار بالية وعتيقة تعمل على توجيه حياتنا فتغلق نوافذ المستقبل وتحد من فاعليتنا في البناء والنماء الحضاري المتجدد.. وسواءً أكانت تلك الافكار في أقصى اليمين أم أقصى اليسار أم فيما بينهما ذلك أن التغيير في منظومة الأفكار التي توجه حياتنا هو من يأتي بالثورة الحقيقية التي ننشد أما الثورة فإنها لن تأتي بالتغيير ولكنها قد تنسخ الماضي لتعيد لصقه في الحاضر من جديد وقديماً قال أحد الفلاسفة «يحسب الناس أن الثورة تأتي بالتغيير لكن العكس هو الصحيح» وقد كان اشتغالنا على هذا البعد واضحاً وبيّناً وهو ليس حديث العهد بنا ولكنه يقين يقرأه المتابع فيما صدر لنا من أعمال إبداعية خاصة مجموعتي «قراءة جديدة في سفر الأقيال» الصادرة عام 2005م عن اتحاد الأدباء، ومجموعتي «وطني غائب كأبي» الصادرة عام 2010م عن دار عبادي، وحين صرخت في الميثاق في أول حديث لي معها قائلاً إن أي متغير تاريخي لا يسبقه متغير ثقافي فهو ضرب من العبث، فقد كنت حينها أعبر تعبيراً صادقاً عن موقفي مما يحدث في الساحات والميادين العامة وأجدد في النظم والغايات والعلائق بما يتوافق مع التغيير الحقيقي الذي يقود الى الثورة الحقيقية، ولم أكن أصدر من عبث لأعيد إنتاجه من جديد ولكني- ومعي ثلة من المثقفين بحجة- كنا نملك قبساً نعي حقيقته وجوهره وقدرته على إضاءة أدغال الظلام التي وصل اليها الوطن بكل تفاعلاته وبكل مقدراته ولذلك حين رأينا أن ديناميكية الحياة قد توقفت وأن الأزمة قد تركت أثراً نفسياً وتشوهاً في بنية المجتمع وفي نسيجه العام وسلمه الاجتماعي وكشفت الغطاء عن افرازات اجتماعية وثقافية وسياسية هددت روح السلام والنماء وبعثت الوعي العصبوي المتطرف، ودمرت أسس البناء لدى أطراف الأزمة من سلطة ومعارضة وقوى اجتماعية، وعملت على تجزئة الهوية الوطنية الى مشاريع صغيرة، صراعية المنطق وعقيمة الثقافة والتفكير، شعرنا بخطورة المرحلة وآلينا على أنفسنا الانتصار للنماء والحق والخير والعدل، والاسهام في تفعيل دور العقل حتى يتمكن من السيطرة، ويعيد ترتيب الاشياء وتنشيط الوظائف الذهنية المهملة، وقد كنا- كما أسلفت- ثلة قليلة جمعنا الاحساس الواحد والهم الوطني المشترك، ولم يسعنا حينها إلا التداعي والتوافق، وتواضعنا على تسمية تلك الثلة بـ«جماعة الفكر والتنمية» منطلقين من رؤيتنا بأن النهضة الفكرية والتنموية تساهم في بناء الفرد والمجتمع، ومن فكرتنا القائلة بإعادة الاعتبار لدور العقل في التفكير والتأمل والنظر في قضايا الفكر والثقافة والتنمية والثوابت الانسانية، بعيداً عن إشكالات التحيزات الأيديولوجية والسياسية وأوجزنا رسالتنا في المحددات الموضوعية التالية:
- التركيز على المفاهيم الفكرية والتنموية في بعدها الحضاري.
- الانطلاق من المسلَّمات العقلية والمشترك الانساني.
- نقد الاشكالات السياسية بصورتها ومظاهرها العامة.
- إعادة الاعتبار لمفاهيم الحرية والحوار والبناء الحضاري.
كما حددنا لنا أهدافاً تلخصت في النقاط التالية:
- توعية المجتمع بقضايا الفكر والتنمية البشرية والمهارات الحياتية المختلفة.
- نشر ثقافة الحوار وفق أسس ومسلمات عقلية.
- تبسيط وإشاعة المفاهيم الفكرية والتنموية وإعادة الاعتبار لها.
- إحياء الدور الرسالي للعقل وتدعيم مكانته حرصاً على توازن لحظات التطور من الوجود المحض الى الجوهر وصولاً الى المفهوم.
ولعل القارئ المتأمل لما كتبناه في سياقه التكاملي يدرك أننا أكدنا وبصورة مكثفة على القول إن الحوار تصحيح مستمر لتصوراتنا وهو تدافع عقلي يمنع تحجر النظام الاجتماعي وقد يصبح أحد عناصر تجديد الابتكار والإبداع للقوى المبدعة والمنتجة في المجتمع، وقلنا بحتمية الصراع كفطرة تدافعية بين الثقافات المجتمعية وأكدنا على القول بالقدرة على التخفيف من حدته من خلال الاصلاحات المستمرة والتطوير وليس من خلال الهدم والتدمير.
وكان اشتغالنا مركزاً على فكرة أن الحرب لن تترك الا أثراً مدمراً في النسيج الاجتماعي والثقافي والأخلاقي والتباساً في المفهوم وتراجعاً مذهلاً في مؤشر التطور، فضلاً عن التشوه والجرح النفسي العميق.. ورأينا أن السلام رسالة الله للبشر وقلنا ان الاشتغال على مفاهيمه وأبعاده النفسية والاجتماعية والثقافية من مقاصد الله والقرآن..
كما أننا انتقدنا انفراط التوازن الذي أحدثه المؤتمر «كحزب حاكم» بين دوائر تطور الروح المطلق والتي قسمها هيغل الى ثلاث دوائر رئيسة هي: «الفن» «الدين» «الفلسفة» باعتبار تلك الدوائر كما يرى هيغل لحظات تطورية من الوجود المحض، الى الجوهر، وصولاً الى المفهوم.. وقلنا إن التوتر بين تلك الدوائر أنتج معرفة غير مستقرة «التناقض في الخطاب والموقف الديني» ومتصادمة «الاصوليات» وغير نامية أو متطورة لغياب دائرتي «الفن» و«الفلسفة» وهذا الغياب بدأ من النظام العام للتعليم وانتهى بوسائل الاعلام المختلفة، فلا تكاد تجد تأصيلاً فكرياً أو حواراً فكرياً أو مقالاً ذا نزعة فكرية.
وقد يدرك كل متابع حصيف أننا قلنا بنفي ثورة المترفين قبل أن تأتي «ساندرا إيفانس» لتستغرب منها وتنفيها، وقلنا إن نزعة الاستبداد لن تنتج الا أصوليات متناحرة ومتصادمة وهو ما يؤكده واقعنا المعيش «صراع الاخوان والسلفية مع الحوثية» وعملنا ما وسعنا الجهد على تفكيك منظومة القوى التقليدية المعيقة لعملية التطور والنماء أملاً في إعادة السيطرة عليها وتجديد توجهها بما يتواكب والدولة المدنية المنشودة التي أصبحت خياراً وطنياً جامعاً لكل فئات وشرائح المجتمع المختلفة.
وتحدثنا عن ملامح الغد الذي قلنا إننا نتمناه خالياً من عوامل الصراع ومتصالحاً مع التاريخ ونافياً له في ذات اللحظة التي يشكل فيها لحظته الفاصلة التي افترضنا أن يبدأها دون محمولات تاريخية أو نزعات عدائية لأحد، ومثل ذلك يضعنا أمام واقع جديد يتطلب قيماً وأخلاقاً جديدة في التعامل معه مرجعيتها قيم الحق والعدل والإنصاف دون مصادرة أو نفي أو إلغاء، إذْ لا بد لنا من توطين أنفسنا على التعامل الموضوعي مع كل القضايا والاعتراف لكل ذي فضلٍ بفضله، وأن نتجاوز عقدتنا التاريخية في نفي الآخر وطمس تاريخه.
كما تحدثنا عن غياب المشروع وقلنا إن الذين يقولون بالمشروع المؤجل هم في الأصل لا يملكون مشروعاً، وشددنا على القول إن قضيتنا ليست قضية «استبدال» ولكنها قضية «انتقال» وأوضحنا ماذا نعني بـ«الاستبدال» وماذا نعني بـ«الانتقال»، كل ذلك وغيره مما لا يتسع المجال للتذكير به كان ديدننا على مدى الزمن الذي مضى.. ويتضح لكل ممعن حصيف أننا «لسنا ضد ثورة الجمهور ولكننا بالتأكيد ضد فكرة الجمهور عن الثورة» (العبارة لسقراط صرخها بالأمس وها نحن نصرخ بها من بعده..).
نحن والميثاق
أما أولئك الذين أجهدوا أنفسهم في لومنا وعتابنا وكالوا لنا التهم أرتالاً وأرطالاً وجل نقمتهم علينا سببها الكتابة في صحيفة «الميثاق» فقط فنقول لهم إن «الميثاق» صحيفة وطنية وسعتنا حين ضاق بنا غيرها واستوعبتنا حين هجرنا البراجماتيون وفتحت لنا أفقاً حُرّاً ضاق ذرعاً عن مثله غيرها ولو لم يكن من خصائصها إلا نكهة البن لكفى وهي تعبير عن خصوصية يمنية وتمثل تياراً وطنياً محضاً ليس له امتدادات خارجية ولذلك اخترناها واختارتنا على مذهب جدنا أمرئ القيس «كل غريب للغريب نسيبُ» ولا نعني هنا الغربة المكانية بل الغربة الروحية والفكرية، ولا أظن أننا اقترفنا ذنباً حين توافقنا مع «الميثاق» على تعزيز حضورنا الوطني وتأكيد هويتنا الوطنية بعيداً عن مزالق «اليزنيين» الجدد الذين ما فتئوا يزنون الأمور بذات الموازين التي تعامل بها أجدادهم وهي البحث عن البدائل التي تتناسب مع الجوانب النفسية والتصورات الذهنية رغم تأكيد النصوص المتواترة أن الاشكال لا قيمة لها إنما القيمة المثلى في الجوهر والمضمون، فخذ منه ودع.
أما الناقمون على الرئيس علي عبدالله صالح فقد سقطوا في وحل اللحظة ووحل التاريخ بما قالوه وبما نقموه عليه، وللذين نقموا علينا بشأنه نقول: إن نقدنا للرئيس كان من باب إصلاح الاعوجاج ولم يكن بحثاً عن ذات، ومدحنا له كان تمجيداً لصفات أحببناها ولم يكن طمعاً في نوال.. لقد عزفنا حين تهافت غيرنا ولم تشهد لحظاتنا وقوفاً لنا على باب أحد ولم نتكسب بما وهبنا الله من أحد، لقد جعلنا قلوبنا وعقولنا واحاتٍ للحب والسلام فعمرها الحب والسلام ولذلك ليس بمستغرب أن يسع الرئيس منهما مايسع غيره بل تكاد تكون له الزيادة لارتباطه الوجداني بمراحل التكوين والتشكل الاولى.
فالرئيس أصبح جزءاً مهماً من أشيائنا وتاريخنا ولا يمكننا الا الانتصار للحقيقة إذا شابها ما يشوهها.
ولبّ الموضوع وجوهره أن الوطن هو قاسمنا المشترك الذي نختلف عليه ونتفق فيه، والفرق الذي بيننا وبين الآخرين أنهم ينظرون اليه نظرة براجماتية نفعية ذاتية، أما نحن فننظر اليه نظرة نماء وعدل وحق وتطور وازدهار ولا نرجو أكثر مما يسع الآخرين على وجه العموم منه، فالذين يظنون أن في انفسنا رماد مبادئهم وقيمهم فنقول لهم لقد قلتم ما يشاكل انفسكم ونضحتمونا بما فيها من رماد المبادئ وحطام القيم لأننا لا نقول إلا ما نظنه صواباً ولم نكتب إلا لله، وللتاريخ وللوطن.
للتأمل:
ثرتم وثرنا، فلما نلتمُ وطراً
هدأتم، وسهونا نحن ثوارا
أردتم أن تناموا مرتوين كما
شئنا نبيتُ عطاشى نرضع النارا
(البردوني)