أحمد مهدي سالم -
المبادرة.. حدث تاريخي مهم في هذا الزمان الأصم، وهي حصيلة عقولٍ رشيدة، وثمار أفكارٍ سديدة، وخلاصة رؤى سياسية رزينة، وقد فتحت كوة ضوء في النفق المظلم الذي صنع جدرانه وأسواره ومتاهاته اللاعبون الفاعلون في المشهد السياسي اليمني من سلطة ومعارضة.
بلغت التأزيمات المتناحرة، ومشاهد القتل اليومي، وحالة الانسداد السياسي، حداً أغلق كل أبواب ونوافذ الحلول؛ وبقي تفجير أو انفجار الوضع.. مسألة وقتٍ، أو كضرورة حتمية؛ فجاءت هذه المبادرة وآليتها كسفينة إنقاذٍ لطرفي الصراع في لجة البحر الهائج المضطرب.
ونجد أنه بالنظر الى بنودها فهي لا تحقق لكل طرفٍ كل أو معظم ما كان يطرحه من مطالب؛ ولكنها البديل الوحيد والخيار المطروح بعد انسداد كامل الأفق على ما هو عليه من الرحابة والاتساع، أو بالاصح جاءت امتصاصاً للغضب المسلح وتخفيفاً مؤقتاً من معاناة شعب عربي عريق بين إعصار الموج الكاسح.. غريق.. تمادى كبراؤه في إسامته ألواناً من العذاب وأشكالاً من العقاب اليومي بغرض انتزاع بعض المكاسب السياسية، وتسجيل هدف أو هدفين في مرمى خصمه على حساب أنّات شعب جريح، ولا يهم أن تلتئم جراحه أو يموت جوعاً والوطن يؤول الى الدمار الشامل، والأهم الشعارات المزمجرة وبيارق اللافتات المؤيدة أو الغاضبة المحرضة.
لا ينبغي أن نغفل أن التوقيع تم بعد مئات الجلسات والتفاهمات والتعديلات والاطفاءات.. دكتور عبداللطيف الزياني أمين عام مجلس التعاون لم يحتمل، والمبعوث الأممي جمال بن عمر كاد يفقد عقله، وهو يرى البعض ينكث مساءً ما اتفق عليه في الصباح في منظومة رحلة المبادرة وآليتها التنفيذية المزمنة، وعقب التوقيع تدفقت شلالات من الفرح، واشرأبت نفوس المواطنين الى الفضاء أملاً بالخروج من عنق الزجاجة، المشكلة كانت في التوقيع .. فها هم وقعوا غير أن الصدمة الكبرى التي ذبحت الفرحة في الاعماق وأسالت الدمعة من الاحداق أن الوقائع على الأرض لم تتغير، التوتر سائدٌ والقتل مستمر وأبواق الفتنة تصول وتجول.. مما يعني أن هناك طرفاً ثالثاً خفياً لا يريد التوافق، ولا ينشد الالتقاء بين الفرقاء، أو بتعبيرٍ أوضح أن ثمة قوى في المشترك تسعى لفرض الحرب الأهلية امتثالاً لمراكز نفوذ خارجية، وتنفيذاً لأجندتها في التدمير والتخريب للوصول الى السلطة عبر الانقلاب على كل ما هو شرعي متناسين أن المبادرة وآليتها مسنودة بدعم اقليمي، ومراقبة دولية وكل صغيرة أو كبيرة يبرقها السفراء الى بلدانهم والى مجلس الامن.. غدا المواطن محتاراً في أمره، مصدوماً في فرحته ومعلقاً بين الرجاء واليأس، والتضرع بالدعاء لانقشاع هذه الغمة الأليمة، وأن يتنفس هواء نقياً بعيداً عن المحيط الملوّث بفيروسات الحقد والكراهية والانتقام.
ويرى كثير من المحللين أن المشترك وشركاءه يحاولون تقليد لعبة ازدواجية الاشتراكي رجل في السلطة ورجل في المعارضة وأزمات وراء أزمات حتى تفجر الوضع في عام 1994م لتعود اليمن عشر سنوات الى الخلف.
المواطنون يتعذبون، يهانون جراء جروح المناكفة، وتداعيات الأزمة، يحلمون باللقمة الهانئة الشريفة والجو الآمن، وليحكم من حكم.. كثيرون وصلوا الى هذه القناعات بسبب أزمة الكرة الثلجية التي تتفجر يومياً ناراً أو باروداً وحرائق وخرائب، هذه الأزمة التي ما إن لاح بصيص أمل في الانفراج اغتالوه ليعودوا بالوطن الى مربع الصفر، وعادت الطوابير والجدل السفسطائي، والموال الحزين.
كلمة، صرخة، نداء الى رعاة الاتفاق .. أن يتقوا الله في النفوس البريئة وأن يستخدموا العصا لإيقاف عبث العابثين ، وطحين المتطاحنين على كعكة السلطة وإلا فإن المبادرة «عالم ورق» على قول المصرية نيللي في إحدى فوازيرها، ويا الله يا رجال.
ما بتكون الإجابة إلا بالنار والمدفع والدبابة.
(يمن متلاحم.. ومتراحم)
والآن بعد التشكيل تتطلب اللحظة قول:
- أوقفوا المزايدات، وابتعدوا عن اللغة النارية، والخطاب الناري الاتهامي الملتهب، المرحلة تفرض ترشيد الخطاب، وعقلنة الطروحات، ومنطقية التحليلات والحرص على بدء صفحة جديدة ونشر ثقافة المحبة والتسامح ودعوة كل الفعاليات والمكونات الى الاسهام الفاعل في بناء يمن قوي جديد متماسك متلاحم ومتراحم ، وفي دروب التعمير متزاحم.
لقطات
< وثيقة العهد والاتفاق.. وقعت خارج الوطن أمام ملك ثم نشبت حربٌ ضروس، وهذه المبادرة وقعت أيضاً خارج الوطن وأمام ملك.. فهل يتكرر السيناريو؟!
< يا أيها الشعب المسكين.. كم من الجرائم البشعة تُرتكب باسمك؟! ألم تسمع بالفنان المرحوم محمد عبده زيدي، وهو يغنّي: «ارجم به بسرعة.. زيما هوه رجم بك»
< بعد التوقيع .. يفترض أن يكون هناك وئام، وتطير في الجو الحمام، ويسود السلام، وبدلاً منها .. سبح الموت الزوام في أجواء تعز وصنعاء.. بشائر خير!
< نصف انتصار أفضل من هزيمة ساحقة ماحقة، ودمار هائل بشع.
< قلت له: المبادرة خارطة طريق فرد ساخراً:
خرط وضيق.
¿ في المشهد السياسي العربي .. برزت ظاهرة الافاعيل التي تناقض الكلام، والأعمال التي تخالف الخطاب.
¿ بكاء أحد نازحي أبين أمام الشاشة وقوله: أصبحنا شحاتين، مشهدٌ أليمٌ من مشاهد هذا الزمان اللئيم.
¿ قال لاوتسوتاوتيه كينج: «إنّ الشخص الذي يبالغ في التمسك بآرائه لا يجد من يتفق معه»، أما شكسبير فقد قال في مثل هذا المقام: «لا تبحث عن الاخطاء ولكن ابحث عن العلاج».
¿ المبادرة .. جواز مرور الى جهنم، قولٌ سمعته من متشائم.
¿ الأزمة في اليمن ما بين انفراج وانفجار.. لاحظ تقارب الحروف، وتشابك الدلالات!
¿ أزعم أن كلّ الانتخابات القادمة سوف تؤسلمْ الوطن العربي، شاء من شاء وأبى من أبى.
¿ مهما ناور المذيع.. لا تخفى أسئلته المتحيزة المسممة ، ومحاولاته تحويل المتحدث الى مساره وقناعاته.. مكشوفة.. العب غيرها!
آخر الكلام
إن الليالي والأيام حاملةٌ
وليس يعلمٌ غيرُ الله ما تَلِدُ
التوقيع: شاعر قديم