د. عبدالعزيز المقالح -
في منتصف السبعينات من القرن الماضي استمعت إلى محاضرة أكاديمي أرجنتيني عن العلاقة المضطربة بين أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة. وقد تركزت المحاضرة المذكورة في البداية على استنكار حاد وغاضب لمصطلح “الحديقة الخلفية”، والنظر إليه بوصفه مصطلحاً استعمارياً امبريالياً يوحي للعالم بأن مواطني وسط القارة وجنوبها لا يعدون عن كونهم أتباعاً وعمالاً في حديقة الولايات المتحدة، التي مهما كان عدد سكانها وأياً بلغ مستوى تقدمها الاقتصادي والصناعي فهي دولة من دول أمريكا لا غير، ونفوذها يتآكل عاماً بعد عام وشبح القطيعة النهائية يوشك على الظهور ثم التصاعد.
كان ذلك في منتصف السبعينات من القرن الماضي، وقد جرت بعد ذلك أمور وأحداث ذهب معها بعضهم إلى إطلاق مصطلح آخر أكثر سوءاً وهو وصف أمريكا اللاتينية بالملعب الخلفي للولايات المتحدة، مما زاد من صعوبة العلاقة وجعلها أكثر حدة، لا سيما مع أبناء هذه الشعوب التي باتت تنظر إلى الفوارق القائمة بعين السخط وتنظر إلى التدخل في شؤونها بغضب لا مثيل له. وهي الحال التي جعلت بعض قادة الولايات المتحدة يتجهون شرقاً ناسين، أو بالأحرى متجاهلين، حديقتهم الخلفية أو ملعبهم القريب، على الرغم من أهميته السياسية والاقتصادية.
لقد تذكرت المحاضرة المشار إليها وموضوعها الساخن على خلفية الزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي جورج بوش إلى عدد من دول أمريكا اللاتينية، وهي الزيارة التي وصفتها وسائل الإعلام بأنها كانت فاشلة وخرجت بلا شيء، في حين كان بعض المعلقين قد رأى فيها بداية بالغة الأهمية يعود فيها البيت الأبيض من مغامرته البعيدة إلى تفقد شؤون البيت الأمريكي، والاطلاع على أوضاع المنطقة الأقرب قبل إعلان فشل الامبراطورية وبداية تفتت القطبية الواحدة، بعد الخسائر الفادحة والضربات التي لاتزال الإدارة الأمريكية تتلقاها في أكثر من مكان من العالم، وبعضها ضربات حادة تحت الحزام، كما يقولون.
وأعود إلى ما علق بالذاكرة من محاضرة ذلك الأكاديمي الأرجنتيني الغاضب، وما تنبأ به يومئذ من أن علاقة جنوب القارة بشمالها تسوء أكثر فأكثر إلى أن تصل إلى مداها النهائي وهو القطعية، وكأنه اعتمد في تنبؤه على وقائع موضوعية وأخرى عاطفية، في مقدمة الحقائق الموضوعية: أن الولايات المتحدة تريد من أمريكا اللاتينية أن تكون سوقاً ومزرعة لا أكثر، وأن تمتنع حكوماتها عن إقامة علاقات متميزة مع الاتحاد السوفييتي في ذلك الحين أو مع غيره من الأنظمة المعادية لواشنطن. أما الوقائع العاطفية فتتمثل في نزعة الاستعلاء، وهو الطابع العام للنظام الأمريكي، بالإضافة إلى محاولة ذلك النظام فرض ثقافته على شعوب تعتز بأن لها ثقافة أقدم وأكثر رسوخاً من ثقافة “الكاوبوي” القائمة على العنف والهيمنة والانحلال.
نقلاً عن الخليج