عبدالرحمن مراد - المتأمل في مجريات الأحداث في أبين وفي الكر والفر بين الجيش وأنصار الشريعة، يجد أن السيناريو هو ذاته الذي كان في الحروب الست التي خاضها الجيش مع الحوثية في صعدة.. وأكاد أصل إلى يقين مطلق أن «المخرِج» في الحالين (صعدة/ أبين) يكاد يكون هو ذاته، وهو في الحقيقة يشتغل شغلاً ابتزازياً ووجودياً ويصدر أعماله للداخل وللاقليم وللمجتمع الدولي.
ما يحدث في أبين هو ذاته الذي حدث في صعدة، والحرب هناك ليست حرب حسم ولكنها حرب صناعة قوة مضادة توازي تلك التي أنتجتها الحروب الست في صعدة «توازن قوى دينية».
ولعل القرائن والرموز والإشارات التي يحملها الخطاب الإعلامي لتيار الاخوان في اليمن دال على ذلك الاستنتاج، فقد نشرت صحيفة «الصحوة» (مشاهدات من حفل الإفراج عن الجنود الأسرى في جعار) بلغة تشيد بالفعل وتبعث من خلالها القرائن والرموز إلى المجتمع بسلامة المنهج وبالقيم النبيلة والمثالية الروحانية..
من حق أنصار الشريعة في أبين أن تكون مشروعاً أممياً، ومن حقها أن تعبر عن مشروعها بالطرق السلمية وليس بلغة الموت وأفواه البنادق والعبوات المتفجرة، والأحزمة الناسفة، ثمة وسائل عصرية تحفظ بها أرواح الناس وتحقق من خلالها التمكين وتشيع حاكمية الله في الأرض.
أدرك أن مثل ذلك لن يكون حاضراً في أجندة القاعدة وأنصار الشريعة، لكنني في السياق ذاته أدرك أن الذين يحاولون أن يخلقوا من أنصار الشريعة قوة مضادة، ليسوا بالحريصين على أمن واستقرار اليمن كما أنهم ليسوا بأكثر حرصاً على الدين، فالقضية الدينية وشعارها المتمثل في عبارة «شريعة ربانية تحكمنا، ومجتمعات إيمانية تسود» ليست إلاّ جسر عبور دلَّت قرائن الأحداث في الربيع العربي على زيفه وكذبه، واقترابه من المركزية القطبية التي أنتجها فكر الإخوان إبان انتكاسته- لو فرضنا صدق نواياه في خلق مجتمع إيماني يشبه الجيل الأول في الإسلام يوحي بإخوانيته- وقد دلت متواليات الأحداث على أن النظرية القطبية في خلق جيل إيماني يشبه جيل الرعيل الأول لم تكن إلاّ نظرية موت وتدمير لكل مقومات الحياة، إذ أنها لم تضف إلى مظاهر العصر الحضارية إلاّ العبوات المتفجرة، والأحزمة الناسفة، ومشروع الشهيد القادم، وكل تلك المظاهر تركزت بشكل رأسي في المجتمعات الاسلامية وهددت مصالح وأرواح المسلمين، ولم تمتد بشكل أفقي إلا في حالات نادرة ولظروف استثنائية يكون للبعد السياسي التأثير الأكبر فيها.
وعوداً على بدء.. فإن ما يحدث في أبين ليس استثناءً ولكنه من صميم الفعل السياسي الذي تديره القوى السياسية الحاضرة في واجهة الفعل في اليمن، كما أن مشروع القاعدة وأنصار الشريعة ليس استثناءً ولكنه تعبير صادق عن مرجعية فكرية قطبية إخوانية، فشعار أنصار الشريعة الذي أشرنا اليه هو مضمون «معالم في الطريق»، ولذلك فالقول بالفصل بين الواجهة السياسية والواجهة العقائدية هو قول باطل لا يستند الى حقائق الواقع التي تؤكد أن الواجهة العقائدية ليست أكثر من جناح عسكري تم إعداده وتأهيله ليتمكن من تحقيق حاكمية الله في الأرض، فمشروع التمكين للشريعة الربانية والمجتمعات الايمانية يسير في خطين يؤازر أحدهما الآخر.. الخط السياسي في مظاهر مدنية غير حقيقية «تقية حتى التمكين»، والخط العقائدي العسكري الذي يأمل في الخلاص من حكم «الطواغيت» حسب مضامين خطابه.
لم تكن جبهات القتال في نهم، والجوف، ومأرب ودماج وأرحب وأبين، والبيضاء وكشر /عاهم ... و..و.. تداعياً عفوياً بل كان فعلاً مركزاً وممنهجاً هدف الى تفكيك القوى الاجتماعية والسياسية وإشغالها بالصراع ونسج التحالفات لإنتاج مركزية جديدة تكون هي البدائل فيها أملاً في التحكم في المسارات والتمهيد للمشروع القادم الذي تلوح بوادره في الأفق.
إذاً.. السيناريو السياسي الوطني يشهد الآن استعداداً حثيثاً لفتح جبهات قتالية جديدة في أكثر من مكان.. ولعل منطقتي وائلة بالجوف وكحلان الشرف بحجة أبرز تجليات ذلك السيناريو، وقد دلت بعض الايحاءات البازغة من بين مضمومات الأجهزة الأمنية في حجة على أن قادماً سيأتي منذراً بشر، وقد قيل إن الأجهزة الامنية ألقت القبض على جماعات وبحوزتها أسلحة متنوعة ومتعددة بما فيها الألغام، وقيل إن ثمة اشتباكات بين الحوثيين والاصلاحيين وقعت في وائلة بالجوف ويدعي الحوثي أن عدداً من الخروقات في عاهم تهدد السلم الاجتماعي.. وفي أبين يبدو أن الجيش يفاخر بتوزيع القذائف على الفلوات والاماكن الخالية ويظل عاجزاً عن إحراز أي تقدم في جبهات القتال، وقد نالت منه الجماعات المسلحة ومن قدرته وعقيدته القتالية كما لم تنل منه قوة أخرى، فغنمت عتاده، وقتلت أفراده، وأسرت جنوده، وباغتته في ثكناته ولم يباغتها واكتفى بتوزيع القذائف المدفعية والأعيرة النارية.. ولا أظنه إلا أنه سيراوح مكانه.
وفي مقابل السيناريو الميداني، نشهد تداعياً ملحوظاً في جدار تكتل اللقاء المشترك، فبَعُدَ البعث الاشتراكي، وتصدعت علاقة التكتل بحزب اتحاد القوى الشعبية ثم الحزب الوحدوي الناصري وبعده حزب الحق، وهناك بوادر تصدع تحملها اشتراطات الاشتراكي في الدخول في الحوار الوطني، وقد ظهرت في التجمع اليمني للاصلاح نزعة تفرد واستحواذ تهدد كل الكيانات الاخرى، الامر الذي سيعمل على خلق تحالفات جديدة بدأت بوادرها تظهر في الأفق السياسي الوطني، فالكيانات الثورية تتداعى الآن الى بناء تكتلات لإنقاذ الثورة، والحراك الجنوبي يزمع الإعلان عن تكتل يجمع كل فصائل الحراك، وقد تسعى كل القوى السياسية التي شعرت باستهدافها الى بناء تحالفات جديدة منفصلة عن ماضيها ومعبرة عن تطلعاتها وآمالها في المستقبل، وثمة شعور كان متوارياً وبدأ يطفو على السطح في المؤسسة العسكرية والقوى الاجتماعية، إذ شعر التحالف التقليدي العسكري/ الاجتماعي أن حزمة القرارات التي أصدرها رئيس الجمهورية في المؤسسة العسكرية تستهدف فاعليته في المستقبل وتحد من تأثيره.. ونقرأ مثل ذلك من خلال القرائن والرموز التي يبعثها هذا الطرف أو ذاك في وسائل الاعلام المختلفة.. ولعل عودة رموز مربع الصراع الجنوبي الى الواجهة سيجعل من مهمة الرئيس عبدربه منصور هادي في تحقيق الاستقرار مهمة صعبة، وربما أضحت الوحدة مهددة أكثر من ذي قبل، بعد أن توسعت دائرة المطالبة بفك الارتباط رأسياً وأفقياً، كما أن دائرة التحالفات قد اتسعت وتعددت ولا يمكن مواجهتها إلا من خلال ردم الهوات وترميم المتصدع في البنى الاجتماعية وتحقيق القدر الكافي من الاصطفاف الجماهيري للقوى الصامتة والفاعلة.. وأظن الرئيس يدرك ذلك وسيعمل على الاهتمام به، فالقضية الوطنية إذا تعددت يصعب السيطرة عليها، كما أنّ فقدان القيمة للقوى الاجتماعية سيجعل من خيارات العنف ومن خيار الثورة المضادة قوة لا يمكن القفز على مفردات وجودها في الواقع.
على كل القوى الوطنية أن تدرك أن المناخ العام الذي تركته غيوم الاحداث لعام 2011م هو مناخ مهموم بقضايا وطنية كبرى، وأن التمحور حول الذات والانغماس في تقاصيلها لن يكون إلا تهديداً لأمن واستقرار الوطن ولوحدته، لذا فالخروج من وعي الغنيمة ووعي التقاسم ووعي الاشتراطات المسبقة لموضوع الحوار الوطني قضية وطنية مقدسة، ذلك أن استحضار الماضي في لحظات التحول والانتقال لا يخدم قضايا التحول والانتقال.. والتطهر منه لا يكون إلا بالتأسيس القيمي وبالمحددات التي تمنع عدم تكراره أو تعمل على التخفيف من حدته في المستقبل.
أمام كل القوى قضايا جوهرية يجب الاشتغال عليها كالدستور وشكل الدولة ونظامها العام ووظائفها، وقبل هذا وذاك تعزيز حضورها في الوجدان الشعبي ومساندة الرئيس التوافقي في تنفيذ المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية حتى نتمكن من السيطرة على مقاليد المستقبل.
زبدة القول.. إن سيناريو السياسة الوطنية الذي تلوح معالمه في الأفق سيناريو مرعب ولا يبشر بمستقبل آمن ومستقر، إلا إذا أدرك الساسة خطورة المرحلة وعملوا بتجرد لمصلحة الوطن العليا.. وفي ظننا أن الحكمة اليمانية ستحضر.. وهذا ما يخفف من حدة خوفنا.. والله المستعان.
|