عبدالرحمن مراد -
< منذ نشأت في قريتي الصغيرة وحديث الناس عن قداسة شهر رجب وعن أول جمعة رجب التي تسيل فيها الدماء الى الركب، لا يفارق مخيلتي.. وبعد أن وعيت مفردات الوجود أدركت أن الذاكرة الشعبية في مناطق الشرفين من بلاد حجة تتداول ملحمة تنسبها الى رجل يُدعى «هجوان» وهي عبارة عن قصيدة مطولة باللهجة الدارجة يتحدث ناظمها بصورة استشرافية عن المستقبل وبدأت تمتزج بيقين العوام من الناس بعد ثورة سبتمبر 1962م حين وجد العوام حقائق الاحداث وتفاصيلها في الواقع الذي تفجر بالثورة، ولذلك ظل يقين الناس ثابتاً حول القول إنه في زمن الملك المشرقي - ودلالة المشرقي هنا في مفهوم العوام في مناطق الشرفين تعني صنعاء وعمران،
مثلما يطلقون على تهامة وبعض السهول في اليمن وهي مفردات بديلة لمفردات الجهات، فالشمال عندهم شام، بدلالة الجهة، والجنوب عدن، والغرب يمن وهكذا- سوف تتوحد اليمن ، ويظل في الحكم ما بين (35) الى (40) سنة، وأنه سيتعرض في آخر أيام حكمه لحادث اغتيال وينجو منه، ويغيب شهرين من الزمان ثم يعود، وأنه في أول جمعة من رجب سيحدث أمر جلل.. ولم يزل راسخاً في ذاكرة العوام أن اليمن ستخرج من محنتها وأنه سيأتي ملك شاب يشيع العدل في زمانه ويحكم سبعاً من السنين.. ومع تفجر الاحداث في 2011م استيقظت تلك الذاكرة لتسرد أحداثاً غيبية ستكون وتعدَّد الرواة وتعددت أسماء الشعراء الشعبيين الذين نظموا الملاحم.. والثابت أن الانسان لا يلجأ الى الغيبيات حين تشتد به الأزمات وحين تحاصره مفردات الموت تشبثاً بالحياة وارتباطاً بالأمل وحتى لا يفقد مفردات وجوده وعلائقه بالزمان وبالمكان.
ويظل شهر رجب في الذاكرة الشعبية ذا قداسة، فالثابت عندهم أنك إذا عملت عملاً في رجب، وجب عليك تكراره في كل عام مثل ان تذبح ذبيحة وتوزعها على الفقراء، فإذا تركت تلك العادة فإن شراً ما سيحل بك، ويبدو أن تلك الثقافة المتوارثة قد ألقت بظلالها على الفعل السياسي اليمني، فالذين خططوا ونفذوا حادث النهدين في العام المنصرم خافوا أن تحل عليهم اللعنة في هذا العام فلم يسعهم إلا تنفيذ حادث ميدان السبعين الذي ذهب ضحيته مايقارب من مائة شهيد حتى الآن، وهم بذلك يضيفون حلقة أخرى في سلسلة تراجيديا المأساة في الذاكرة الشعبية الوطنية.
لقد كان حادث جامع النهدين مأساوياً ودالاً على سقوط قيمي وإنساني، فالوحشية التي خامرت مخططيه ومنفذيه جردتهم من انسانيتهم، ومثل ذلك يمكن أن يقال على حادث السبعين وعلى كل المذابح التي شهدها الانسان اليمني منذ اندلاع شرارة الأزمة الاولى وحتى اللحظة، بيد أن المذابح التي تحدث في شهر رجب تأخذ بُعداً نفسياً مدمراً، ولذلك فحادث النهدين أحدث تحولاً في مسار الأزمة ونكوصاً للقائلين بالفعل الثوري، وخلق تعاطفاً وطنياً عمل على تحسين شروط التفاوض للخروج من الأزمة..، وجاء حادث ميدان السبعين ليحدث تحولاً آخر في المسار الوطني، فالذين تباكوا على جمعة الكرامة وخلقوا منها قضية سياسية صنعوا من خلال استثمارها رمزيات الآن هم في محك التجربة، وقد بدأت تتهاوى رمزيتهم، يبدو ذلك من خلال حالة الارتباك وتعليق الاخطاء على شماعة بقايا النظام وفي محاولات التضليل الاعلامي الذي فقد تأثيره وأصبح يترك أثراً عكسياً في ذهن المتلقي..
فالذين ظهروا على شاشات التلفاز بذات الحماس والآلية التي كانوا يظهرون بها إبان اشتداد أوار الأزمة في 2011م لم يستوعبوا بعد المتغيرات السياسية الوطنية ولذلك ظهروا في حالة انفصامية غير مستساغة، ولم تكن تبريراتهم إلا وبالاً عليهم، ودل سقوطهم على عدميتهم وعدمية مشروعهم، فالمؤشرات الاولية التي تداولتها الصحف حول حادث السبعين لم تكن تشير الى بقايا النظام بل الى قوى لها حضورها في الفعل «الثوري»، كما أنّ أنصار الشريعة في أبين أعلنوا مسؤوليتهم عن الحادث في بيان مطول.. وأنصار الشريعة هم الامتداد الطبيعي لمجاميع طارق الفضلي، وطارق الفضلي لا ينكر صلته بأحد رموز وفصائل الفعل الثوري إلا مكابر.. ووزارة الداخلية كانت قد أعلنت في وقت سابق للحادث أن هناك انتحاريين تسللوا الى العاصمة للقيام بعمليات ارهابية، وكل ذلك لم يكن مبرراً كافياً، لذلك الضابط الذي تحدث الى قناة «المسيرة» ويقول إنه مستشار وزير الداخلية لشؤون الامن، الذي تمادى في إلقاء التهم جزافاً على بقايا النظام، نقول لم يكن مبرراً كافياً في جزمه واطمئنانه، فالمتهم يظل بريئاً حتى تثبت إدانته بحكم قضائي بات.. ويبدو ان الذين وضعوا أنفسهم في دوائر التبرير كالماوري وغيره عجزوا عن صناعة تضليل جديد، ودلّ عجزهم على حالة التيه التي وصلوا إليها.. والمرء حيث يضع نفسه.
لقد أصبح السكوت على أولئك الذين يتاجرون بالدم اليمني جريمة لا تقل خطورة عن جريمة إراقة الدم ذاتها، ولذلك أصبح من المفترض أن يكون هناك اصطفاف وطني يقف على صعيد واحد للمطالبة بالكشف عن هوية مرتكب تلك المجازر التي حدثت منذ بداية 2011م الى حادث السبعين في مايو 2012م، إذ أنّ يقيننا الثابت أن الفاعل ليس إلا واحداً، وإن تعددت أياديه، ولا أظن الخصومة السياسية ستكون عائقاً لنا يثنينا عن الاقتراب من الحقيقة وإعلانها ليعرف الشعب اليمني من قاتله الحقيقي.. وعلى «الاخوان» الذين يسيطرون على وزارة الداخلية أن لا يجرمنهم شنآنهم لعلي عبدالله صالح على ألا يعدلوا، فالله يأمرهم بالعدل لأنه أقرب للتقوى، وعليهم تغليب أوامر الله على مصالحهم إن كانوا صادقين مع الله.
ثمة مخطط للانقلاب والاستيلاء على السلطة من جهات وكيانات وأفراد وسيناريوهات مثل تلك المخططات تبدو بعض مشاهدها في استمرار التحريض على المؤسسة العسكرية والأمنية في وسائل الاعلام واستهداف الحرس الجمهوري في أكثر من مكان.. وثمة من يرى من الجماعات المتشددة جواز قتل الجنود والمتعاونين مع طواغيت الارض ويعتبرون مثل ذلك العمل هو الجهاد الذي سوف يفتح أمامهم أبواب الجنان.. وثمة جدل يدور الآن بين أولئك المشتغلين سياسياً على البعد العقائدي، وقد يفرز ذلك الجدل قوى أكثر ميلاً الى اليسار وقوى أكثر وسطية، كما قد يفرز قوى أكثر تطرفاً مما نشهده الآن.
وفي ظني أن استمرار التحريض على المؤسسة العسكرية والامنية من قبل القوى الانقلابية اسهام مباشر في المجازر البشعة التي تحدث في كل ربوع الوطن، ولا أظن أن مجزرة السبعين ستكون آخرها إذا لم يتدارك العقلاء الخيط الذي بدأ ينفلت ويتراخى من كف الدولة، ويعملوا على ضبط إيقاع الحياة بما يكفل الاستقرار ويعزز من حضور الدولة، فالمؤسسة الامنية والعسكرية جزء من النسيج الاجتماعي الوطني، واستهدافها بهذا الشكل المدمر لا يدل إلا على نوايا انقلابية صرفة، باعتبارها الحد الممانع الذي يفصل تلك القوى عن السلطة.
كل شواهد التأريخ تؤكد أن لغة الإقصاء والاستقواء لن تترك إلا أثراً مدمراً لا يخدم الاستقرار.. وعلى كل القوى التي تشتغل على لغة التدمير وخطاب التحريض وتمارس الإقصاء أن تدرك أنها ترقص في منطقة ملغومة قد تتفجر في أي لحظة، وأنها قد تقود الوطن الى حافة الانهيار والتشظي والشتات، وأن عدميتها لن تنتج إلا واقعاً عدمياً ووطناً منفياً.
لقد أصبح الوطن في ظروفه الحالية بحاجة شديدة الى لينٍ في غير ضعف وقوة بغير هوادة، والى رؤية انقاذية تخرجه من عنق الزجاجة.. ولا نظنه أصبح قادراً على تحمل مزيد من الأزمات، فقد تداعت أركانه واستيقظت الهويات الجزئية والتأريخية، وهي لاشك ستهدد استقراره.. ولعل الدولة ستفقد مقومات وجودها إذا لم تسارع الى ترميم المتصدع في الكيان الوطني.