الشيخ موسى المعافى -
< بدايةً أود أن أقول لمن اتصل في الساعة الواحدة والنصف من مساء الأربعاء الماضي على خلفية موضوعي في العدد الفائت.. وراح يلقبني بأبشع الألقاب «بلطجي، منافق، دجّال، زنديق، كذاب، أثيم».. واستوقفته بصعوبة وسألته: مَنْ أنت عفا الله عنك؟ فقال أنا واحدٌ من خدّام العلماء.. ومَا بَاكَرهْ الموت دفاعاً عن العلماء الذين تتمادى في التطاول عليهم فاحترم نفسك ولا تحفر قبرك بيدك.. وجواباً عليه ها أنذا سأكتب ما علمته وآمنت به، وإذا كان قد سمى نفسه وصحبه بخدام العلماء، فأنا وبكل فخرٍ واعتزاز خادم للعلم ومنابعه العذبة والنقية وخادم للعلماء الذين دخلوا في دائرة قوله تعالى: «إنما يخشى الله من عباده العلماء».. أنا من خدّام العلماء الذين يبنون ولا يهدمون ويجمعون ولا يفرقون ويوفون ولا يخونون ويصدقون ولا يكذبون ولأمن الأمة وأمانها يحبون والى إصلاح ذات البين يمضون.. ومن ربهم وخلاقهم يخافون وليوم لقائه يعملون ولنبيه الكريم يتبعون وبسنته وهديه يقتفون.. فيا مهددي أيها الحبيب المسكين سأعيد الكتابة في الموضوع ذاته راجياً أن تقرأه بعيون قلبك لا بعيون ساداتك فإن أعجبك وأنصفتني فالحمد لله.. وإن أثار غضبك فدونك كاتبه، فاقضِ ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا.
صلوات الله وسلامه عليك وعلى آل بيتك الطيبين الطاهرين وعلى صحابتك الغُر الميامين يا سيدي يا رسول الله يا إمام المصلحين.. يدخل الفاروق عمر بن الخطاب وأنت مضطجع على جريد النخل وقد أثر بين جنبيك فيبكي رضي الله عنه وتفر العبرات من عينيه وتسأله ما يبكيك يا عمر؟ فيقولُ رضي الله عنه: يبكيني أن كسرى وقيصر ينامون على الفرش الناعمة وتنام أنت يا رسول الله على جريد النخل وقد أثر بين جنبيك.. بأبي أنت وأمي يا رسول الله .. فساعتئذٍ ارتسمت على محياك الشريف ابتسامة عريضة تستأصل جذور الاحزان من قلب الفاروق رضي الله عنه.. ورحت تجيبه إجابة المؤمن المطمئن الراضي بما قسمه له الله: «يا عمر» ألا ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة.. ورغم أن الدنيا قد ارتدت مراراً وتكراراً لأجمل الحلل وارتمتْ بين يديك يا إمام المصلحين طائعة مختارةً طامعةً بأن تُلفت فيكم انتباهاً أو تغر لكم قلباً أو تسكن لكم فكراً، إلا أنها وفي كل مرةٍ كانت تعلن هزيمتها أمام إيمانكم الفولاذي بحقارتها ودناءتها ودنوها، ولقد رفضت يا رسول الله عروض كفار قريش المغرية «الملك.. الجاه.. الثراء.. الملذات.. كل ذلك رفضته بعنف وصدعت بالحق قائلاً: «يا عم والله لو أنهم وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أنْ أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».. فقد آثرت التعب والنصب بل والموت والهلاك على التراجع عن نشر رسالة الحب والسلام والمودة والوئام وقد آثرت رضا الله ورضوانه على مغريات كفار قريش وزخارف عروضهم الزائلة.. إن نفسكم الأبية يا رسول الله زهدت عن جبال الحجاز ذهباً وفضة هي النفس التي تولى الله تربيتها وتهذيبها وترويضها.. لتكون نفساً راضية مطمئنة يملؤها الإيمان بأنّ من خلقها لا ولن ينسى أن يرزقها.. ولقد صرفت نظرك عن الدنيا بما عليها، ولِمَ لا يكون ذلك وقد قال في تنزيله عليك ربك العليم الحكيم «وللآخرة خيرٌ لك من الأولى»، وقال لك سبحانه: «وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع»، وقال سبحانه وتعالى: «ولا تمدنّ عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه».. فانطلقت لتترجم توجيهات من أرسلك رحمة للعالمين.. متخلقاً بآداب كتابه المبين.. ولقد أنصفتكم أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكرٍ رضي الله عنها حينما سُئلت عن أخلاقكم السامية فأجابت: «كان خلقه القرآن» لقد كانت الأشهر تمضي ولا توقد في حجراتكم نار وطعام آل بيتكم المتوافر الأسودان.. التمر والماء.. رغم أنكم مؤسس الدولة الإسلامية الفاضلة وقائد جيوشها وقاضي قضاتها ومفتي ديارها ومعلم علمائها وأعظم عظمائها.. وكلما سُئلت لماذا لا تولي دُنياك اهتماماً ابتهلت الى من يعلم السر وأخفى وناجيته قائلاً: «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني غداً في زمرة المساكين» تُسأل فتجيب «مالي ومال الدنيا إنما مثلي ومثلها كمثل راكبٍ استظل تحت شجرةٍ ثم مشى وتركها».. ولكم حذرت الرجال من حولك من شرها وأوصيتهم بأن يجتهدوا في طلب الرزق والطموح الى امتلاك الدنيا دون السماح لها بسكنى القلوب واستعبادها، وما من تحذير تتجلى فيه صورتك العظيمة من قولك الصحيح الخالد: «تعِس عبد الدينار.. تعِسَ عبد الدرهم.. تَعِسَ عبد القطيفة.. تَعِسَ عبد الخميلة .. تعِسَ وانتكس وإن شيك فلا انتقش».. ولكأني أراك الآن يا سيدي يا إمام المصلحين وقد وضعت بين يديك أربعين ألف درهم من الغنائم وأنت تقف وتقوم بتوزيعها على المسلمين فلا تبقي منها ولو درهماً لآل بيتك الكرام، وتسألك واحدة من أمهات المؤمنين أما تركت ولا أبقيت لآل بيتك شيئاً، لتقول لها «لو ذكرتني لذكرت».. وفي سكرات الموت كنت تخاف أن تلقى ربك وفي بيتك ربع درهم.. فتقول مراراً لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنفقي ربع الدرهم ثم تبكي وتقول لها «أيلقى محمدٌ ربه وفي بيته ربع درهم».. هكذا كنت يا إمام المصلحين وهكذا خرجت من الدنيا التي سميتها «سجن المؤمن وجنة الكافر».. خرجت منها طاهراً نقياً بريئاً نزيهاً، فعليك يا رسول الله يا إمام المصلحين مِنْ الله الصلاة والسلام.
لقد كانت تلك نبذة عن حال إمام المصلحين في الدنيا، ولنا فيه الأسوة الحسنة، فبالله عليكم هل هناك وجه للمقارنة بين حياته صلى الله عليه وآله وسلم وأخلاقه السامية وبين أئمة خلف زخارف الدنيا وبريقها ولمعانها يلهثون.. ولست أبالغ بقولي هذا يا مَنْ هددني بالموت إن أنا تماديت بقول الحق.. لست أبالغ يا خدام العلماء الذين انخدعوا بتلك اللحى والعمائم ونسوا أو تناسوا أن لا عالم إلا من زهد في الدنيا وطمع فيما هو في يد الله الكريم.. لقد لهث أصحاب الفضيلة خلف الدنيا وجمعوا الاموال من أبواب عدة.. وما شركة الأحياء البحرية الوهمية عنكم ببعيد.. وليست القصور والفلل والمزارع والأراضي والعقارات والسيارات الفارهة والملايين والمليارات والاسلحة والذخائر والارصدة البنكية ليس كل ذلك بخافٍ على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. لقد سكنت الدنيا في قلوب هؤلاء واستعبدتهم.. فشتان بين أئمتكم وبين إمام المصلحين..