هشام علي بن علي - منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية في العقد الأخير من القرن الماضي، دخل العالم سلسلة تحولات كبيرة في السياسة والاقتصاد، في الأفكار والمفاهيم والأيديولوجيات، في النظرة إلى الماضي، في قراءة الحاضر، وفي استشراف المستقبل..
هذا العالم الذي يتغير في كل يوم، يدفعنا إلى السؤال: أين موقع العرب من كل ذلك؟
من هذه الأسئلة الباحثة عن موقع العرب في ظل هذا العالم المتغير، قام الباحث رضوان زيادة بمراجعة نقدية حصيفة لكتابات وأفكار المفكر العربي برهان غليون، واستخلص منها عدداً من الأسئلة والاشكاليات التي وضعها أمام الاستاذ برهان غليون.. مازجاً تحليلاته وأفكاره السياسية والثقافية بالأوضاع السياسية التي تعيشها المجتمعات والأنظمة العربية وتأثرها بالتحولات العالمية منذ سقوط جدار برلين إلى سقوط بغداد.
وبرهان غليون يعمل حالياً مديراً لمركز دراسات الشرق المعاصر واستاذ الاجتماع السياسي في جامعة السوربون، وهو مثقف عربي ينتمي إلى تيار المثقفين العرب الذين شكلوا اتجاهاً سياسياً جمع بين الفكر القومي والماركسية، في الستينيات من القرن الماضي، الذين اجتمعوا في تكتل فكري سياسي في أعقاب سقوط تجربة الوحدة بين مصر وسوريا، وقد بذلوا جهداً ثقافياً من أجل المحافظة على الوعي القومي العربي واستمراره ودمجه بالتيار الماركسي الذي كان متنامياً في ذلك الحين، وكان يشكل تياراً نقدياً يحاول أن يواجه اخفاق تجربة الوحدة ويجدد الفكر السياسي العربي غير أن هذا التيار واجه قمعاً شديداً، لاسيما في ظل الأنظمة الانقلابية التي ظهرت في بعض البلدان العربية وظهور الجيش كمحرك رئىسي في التغيرات السياسية وأنظمة الحكم، وانكفاء الأحزاب والحركات السياسية إلى الظل.
بقي هذا التيار مجموعة مثقفين متفرقين في كثير من العواصم العربية، ولم يستطيعوا أن يكوّنوا جماعة سياسية مؤثرة، وبعد هزيمة يونيو 1967م وانكسار المشروع الثوري العربي، أدرك هؤلاء المثقفون ان الحلم العربي الذي التفوا حوله أصبح مستحيلاً، لذلك تفرقوا، وتاهوا في منافي الغربة، وفي عواصم أوروبا بدأ بعضهم يتأمل التجربة من بعيد.
والدكتور برهان غليون واحد من هؤلاء المثقفين العرب الذين هاجروا إلى الغرب، وظل يحمل معه هموم الانكسارات والهزائم العربية وقد كتب كثيراً من المؤلفات التي تعالج الوضع السياسي والثقافي العربي، من بين هذه الكتب: »مجتمع النخبة«، »اغتيال العقل، محنة الثقافة العربية بين السلفية والشيعية«، بيان من أجل الديمقراطية«، »نقد السياسة: الدولة والدين« وكتب أخرى كثيرة.
وكتاب »العرب وتحولات العالم« الذي نقدمه، في هذا المقال هو كتاب حواري، كما أسلفنا، حيث وضع الباحث رضوان زيادة عدداً من القضايا السياسية والفكرية التي شهدها العالم منذ سقوط جدار برلين وظهور النظام العالمي الجديد، وما صاحبه من تنظيرات جديدة، كان أبرزها نظرية »نهاية التاريخ« التي أطلقها فوكوياما معتقداً أن العالم سيخلو من الصراعات بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، لكن هذه النظرية لم تصمد طويلاً، فقد أعلن هنتغتون نظريته الشهيرة عن »صدام الحضارات« عن هذا العالم الذي يتغير، وعن قيادة الولايات المتحدة الأمريكية للعالم منفردة ووحيدة، كانت هناك جملة من الأسئلة التي تبحث عن صورة العالم الجديد، وعن موقع العرب في هذا العالم.
وحول هذه القضية طرح د. غليون استخلاصاً مهماً يتعلق بالصراعات العسكرية في العالم، منذ حرب الخليج الثانية، فهو يرى أن التفوق العسكري والاستراتيجي لم يعد يضمن بالضرورة السيطرة على العالم، وان أمريكا لايمكنها ان تفرض جدول أعمال يستجيب لمصالحها الأساسية عن طريق استخدام القوة.. »يبدو لي أن مشكلة الإدارة الأمريكية الحالية أنها لاتزال تفكر تفكيراً قومياً محضاً في الوقت الذي تطمح ان تلعب فيه دور القيادة العالمية ومن هنا يتحول سعيها المشروع للقيادة إلى مشروع استعادة فجة لنموذج السيطرة الاستعمارية القديمة على العالم، ولاشك عندي في أن غرور القوة وحده هو الذي يمنع الإدارة الأمريكية الحالية من إدراك الطريق الذي تسير فيه لتأكيد قيادتها الدولية«.
هذا الكلام قاله د. برهان غليون قبل أربع سنوات، عند سقوط بغداد وتحطيم تمثال صدام حسين أي في ذروة الانتصار الأمريكي..
وفي فصل خاص عن أزمة الحداثة واشكالية مابعد الحداثة كانت الأسئلة تتركز على أزمة الحداثة في المجتمعات الغربية وانعكاساتها على العرب..
وبين غليون ان أزمة الحداثة في الغرب كشفت الأزمة التاريخية للمجتمعات الغربية وأزمة الفكر والثقافة فيها.. وهي الأزمة التي عبر عنها تيار مابعد الحداثة، الذي قال بنهاية السرديات الكبرى ونهاية الأيديولوجيات والنظريات الشمولية للتاريخ.. أزمة الحداثة في مجتمعاتنا العربية تختلف عن تلك التي حدثت في الغرب، يقول غليون: »أزمة الحداثة هناك أي في المجتمعات العربية تقود إلى ما أسميه »ما تحت الحداثة« أي إلى إعادة قراءة الحداثة وتفسيرها على ضوء الحاضر والمستقبل، وهكذا نرى هنا عودة هذه المجتمعات بالحداثة إلى مرجعيات وقيم تقليدية دينية أو شبه دينية وهي مرجعيات وقيم ماقبل الثورة السياسية وما قبل الثورة الالستمولوجية الحديثة، وحتى ما قبل الثورة الاقتصادية الرأسمالية«.
ويرى د. برهان غليون ان بعض المثقفين العرب قاموا بنقل أوتوماتيكي لمفاهيم أنتجت في حقل معرفي غربي، سواءً في ميدان الأدب أو الفن أو العلم الاجتماعي، مباشرة ومن دون نقد، على المجتمعات والظواهر الاجتماعية العربية.
وفي إجابة على سؤال يتعلق بالصراعات الطائفية في العالم العربي يطرح د. برهان غليون أن هذه الصراعات سياسية بالدرجة الأولى.
»إن التوترات الطائفية في العالم العربي ليست ناجمة عن التنوع المذهبي والتعددي في العالم العربي، أو لأن مجتمعاتنا مجتمعات فسيفسائية كما يقول المستشرقون، وإنما ناجمة عن غياب قواعد إجرائية سليمة لحل النزاعات العادية والطبيعية داخل المجتمع على الموارد وبالتالي فهي تعكس سعي بعض النخب الضعيفة الموقع المادي والمعنوي إلى تعبئة العصبية الدينية أو الطائفية أو العشائرية، من أجل تحقيق أهداف اقتصادية وسياسية واجتماعية«.. ويرى غليون أن الطائفية التي نراها اليوم في العالم العربي ليست ناتجة عن التمييز الديني، وإنما هناك استخدام أداتي للطائفية، أي استعمال للطائفية لأهداف غير دينية وغير مذهبية، وإنما بالدرجة الأولى سياسية.
وفي الكتاب كثير من القضايا المثيرة للجدل، يصعب استعراضها بصورة كاملة، لكن أهم ما في هذا الكتاب هو أنه يقدم مشروعاً فكرياً جديداً في مواجهة المتغيرات الجديدة التي يشهدها العالم.
وهذا ما يحتاجه الفكر العربي الآن، أي أن يمتلك القدرة على التجديد والخروج من الثوابت والمسلمات التاريخية، أو بتعبير مابعد الحداثة، الخروج من أسر السرديات الكبرى، والاسهام في الحوار الفلسفي والفكري مع الأفكار الجديدة، وبذلك نكتسب حضوراً فعلياً في العالم اليوم.
|