الميثاق نت - إن الواقع اليوم لايمكن له أن يستقر عالمياً إلاَّ إذا كان هناك التزام بطرق قادرة على ا جتياز كل الاشكالات والاختلافات النابعة والمتفشية في الأوساط المجتمعية في كل الشعوب وفي مختلف الأمصار.. إننا اليوم بحاجة ماسة لتقريب الرؤى والتعاون والتعارف من أجل رفع قواعد بناء إنساني قوي متكامل وجعل هذه الكرة الأرضية واحة رفاه وإخاء وسلام ووفاق، ولن يتأتى هذا إلاَّ بالأخذ بمبدأ الحوار..
> يقول الشيخ عبدالأمير قبلان: إن ديننا الإسلامي خلافاً لما يُرمى به من تهم مغرضة، دين نادى بالحوار والبعد عن الصدام، ودعا إلى نبذ العنف، وحاربه وقرر حقوق الإنسان وأمر بحمايتها منذ أنزله الله على قلب رسوله الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، فالحوار في المنظور الإسلامي هو ثمرة التصور الإسلامي للإنسان الذي استخلفه الله في الأرض وحدد غاية وجوده »أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لاترجعون«، وبالتالي فهدف الحوار هو شرح وجهة النظر وتبيان المعطيات التي تقوم عليها، وفي الوقت نفسه الانفتاح على الآخر لفهم وجهة نظره ثم التفاهم لايكون من دون فهم متبادل، والحوار هو الطريق إلى استيعاب المعطيات والوقائع المكونة لمواقف الطرفين المتحاورين ثم إلى تفاهمهما- بحد قول محمد السماك الذي أشار إلى أن الحوار في ثقافتنا الإسلامية يتطلب أولاً وقبل كل شيء، الاعتراف بوجود الآخر المختلف واحترام حقه ليس في تبني رأي أو موقف أو اجتهاد مختلف فحسب، بل احترام حقه في الدفاع عن هذا الرأي أو الموقف أو الاجتهاد، ثم واجبه في تحمل مسئولية ماهو مقتنع به..
وقد قرر الإسلام الاختلاف كحقيقة إنسانية طبيعية، وتعامل معها على هذا الأساس »يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا«..
وقال تعالى: »وما كان الناس إلاَّ أمة واحدة فاختلفوا«، وهكذا تقوم هذه الأمة الواحدة على الاختلاف وليس على التماثل أو التطابق، ذلك ان الاختلاف آية من آيات عظمة الله سبحانه وتعالى.
الحوار القرآني
> تنتاب العالم اليوم الكثير من التطورات والتحولات في شتى الحقول ومجالات الحياة، حيث تعيش البشرية بأسرها مرحلة انتقالية ومنعطفاً تاريخياً له تداعياته السلبية والايجابية العديدة، وفي كل حقبة تواجه الأمم والشعوب تحديات حقيقية تتطلب من الجميع التفكير العميق والتخطيط المتواصل للخروج من هذه التحديات بنجاح واقتدار.. وتأتي ثقافة الحوار- بحسب الشيخ قبلان- لتشكل الأداة الفاعلة الأولى في الانفتاح على الغير وسبيلاً أفضل للتفاهم مع الشعوب الأخرى على صيغ ومشاريع لتأسيس نظام ثقافي كوني عالمي يحافظ على الإنسان ويحقق المثل العليا..
إن الحوار مبدأ أساسي في الفكر الديني الإسلامي، وقد اعتمده القرآن الكريم كمنهج وأسلوب في إيصال الحقائق إلى الناس، وقد تنوعت أشكال الحوار القرآني وأصنافه بتنوع المقاصد والأهداف تماشياً مع الفطرة الإنسانية واحتياجاتها والأغراض التعليمية والتربوية المقصودة، فكان هناك حوار تذكيري وإيماني وإنساني وحوار خاص مع الرسول »صلى الله عليه وسلم« بالإضافة إلى الحوار البرهاني.. والحوار القرآني بجميع أصنافه وصيغه وأشكاله يهذب المشاعر ويوقظ الوجدان ويربي العواطف الربانية ويجيب عن أسئلة السائلين، وآثاره التربوية كثيرة وأهمها: كونه يكشف عن العناية الإلهية بالإنسان وقيمة الإنسان عند الله وهو يحاوره، أو يستمع إليه ليخرجه من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة والحقيقة.. ويضيف »قبلان« لقد نظم الحوار القرآني بعناية عن طريق الوحي، وفي آيات قرآنية واضحة الدلالة، لضبط هدفه وطرائق استعماله، وبذلك أصبح الحوار نهجاً ربانياً وجزءاً من عقيدة المسلم ومن ثوابتها التي لاتقبل التغيير، وألزم به صاحب الرسالة أولاً ثم من تبعه من المسلمين فيما بينهم، وأصبح نهجاً ثابتاً في حوار الغير حيث خاطب الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: »ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن«.. فهدف الحوار الدعوة إلى سبيل الله أي الطريق المؤدي إلى إقامة المنهج الرباني على الأرض وأن يكون أسلوب الحوار والدعوة بالحكمة والتعقل والاعتدال وإحكام الأمور، وأن يكون الحوار موضوعياً مفتوحاً هادفاً إلى تحقيق غاية شريفة..
»إن من أهداف الحوار تعريف الآخر على وجهة نظر لايعرفها، ومحاولة اقناعه بالتي هي أحسن بموقف ينكره أو يتنكر له- وهو أمر يشكل في حد ذاته أحد أهم عناصر الاحتكاك الفكري والتكامل الثقافي والتدافع الحضاري بين الناس، ومن دون ذلك يركد الذهن ويفقد التعطش إلى المعرفة عود الثقاب الذي يلهبه، وتتحول مساحات الفكر إلى بحيرات آسنة«، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: »ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض«..
الاختلاف حقيقة إنسانية
> إن الغاية من الحوار كما يقول الشيخ صالح عبدالله حميد »هو إقامة الحجة، ودفع الشبهة والفاسد من القول والرأي، فهو تعاون من المتناظرين على معرفة الحقيقة والتوصل إليها ليكشف كل طرف ماخفي على صاحبه منها والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق«.. والخلاف واقع بين الناس في مختلف الأعصار والأمصار، وهو سُنَّة الله في خلقه، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم ومدركاتهم ومعارفهم وعقولهم، وكل ذلك آية من آيات الله كما أشرنا سابقاً.. قال تعالى: »ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين«.. وهذا الاختلاف الظاهري دال على الاختلاف في الآراء والاتجاهات »ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلاَّ من رحم ربك ولذلك خلقهم«.. وعلى الرغم من حقيقة وجود هذا التباين بين الناس، في عقولهم ومدركاتهم وقابليتهم للاختلاف، إلاَّ أن الله وضع على الحق معالم، وجعل على الصراط المستقيم منائر.. وعليه حُمل الاستثناء في الآية في قوله »إلاَّ من رحم ربُّك«..
يقول المفكر الإسلامي محمد عمارة »إن هذا التنوع والاختلاف والتمايز في هذه الفلسفة الإسلامية يتجاوز كونه »حقاً« من حقوق الإنسان إلى حيث هو »سُنَّة« من سنن الله التي لاتبديل لها ولاتحويل وآية من آياته.. فالواحدية والأحدية فقط للحق سبحانه، والتنوع هو السنة والقانون في عوالم المخلوقات«..
»إن المنهج القرآني في الحوار يرشد إلى إنهائه وأداء رسالة يبقى أثرها في الضمير، إن لم يظهر أثرها في الفكر، إنه أسلوب لايسيئ إلى الخصم، بل يؤكد حريته واستقلاليته، ويقوده إلى موقع المسئولية، ليتحرك الجميع في إطارها وينطلقوا منها ومعها في أكثر من مجال كما قال فضل الله محمد حسين.. إن في ثقافة الحوار في الإسلام آداباً وقيماً ومنهجاً أخلاقياً يحترم الإنسان وحريته في الاختيار، كما يحترم حقه في الاختلاف وفي المجادلة.. وفي النتيجة أن »من اهتدى فلنفسه ومن ضلَّ فعليها وما ربك بظلاَّم للعبيد«.
الحوار وعالمية الإسلام
> وبالتالي لقد بات الحوار اليوم أكثر اتساعاً ومدى بفعل حركة التواصل واختراق الحدود والفواصل الزمنية والمكانية، حيث أصبحنا- كما قال الشيخ قبلان- نعيش ضمن ما يسمى »القرية الكونية« وهذا ما يسعفنا بنشر قيمنا وأفكارنا وفي الكشف عن إنسانية الحضارة الإسلامية وعالميتها، وعالم اليوم بفعل التحولات العميقة التي يمر بها يعد أرضاً خصبة لتقبل الآراء الإنسانية، على أن تشفع ببرامج وخطط واضحة الأبعاد.. وفكرة العالمية التي بشر بها الإسلام ودعا إليها، هي أقرب إلى عقول الناس ونفوسهم على مستوى العالم، لأنها تبحث عن معنى الحياة والقيم السامية متجاوزة القيم المادية التي سيطرت على مجتمعات عدة في عصرنا الحاضر، فالعالمية الإسلامية نزعة إنسانية وتوجه نحو التفاعل بين الحضارات والتلاقح بين الثقافات والتعارف والتساند بين الأمم والشعوب والدول، ترى العالم منتدى حضارات يجمعها المشترك الإنساني العام.. وعالمية الحضارة الإسلامية- والكلام مازال للشيخ قبلان- جاءت كثمرة من ثمرات عالمية الرسالة التي شاء الله أن يختم بها شرائعه إلى الإنسان وتحدث القرآن عن هذه العالمية بقوله تعالى: »وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين«، والعالمية في المنظور الإسلامي تعني العدالة والتسامح وحب الإنسان، وهي ضرورة إنسانية لأنها تجسد وحدة النوع البشري وترفعه عما سواه وتنسجم مع الفطرة البشرية، وهي تتجسد في الحوار الذي أوله التعارف حيث قال تعالى »يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا«..
لقد ابتدأت الآية الكريمة بتوجيه الخطاب إلى الناس عامة، قاصدة الحوار الذي أوله التعارف والتعاون والعمل المثمر البناء، الذي يوثق عرى التعاون بين سائر الشعوب على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأديانهم وبيئاتهم، فلا يحول الاختلاف والتنوع دون التعارف في سبيل الخير الإنساني العام، وإذا كان هذا واجباً بين المسلمين وغير المسلمين فهو بين المسلمين أوجب..
أسباب الاستقواء
> إن وجود الأفراد في كل زمان ومكان يحتاج إلى وسيلة تفاهم وتعاون وتكامل ويأتي الحوار ليكون الوسيط في ذلك، فالحوار نشأ مع الإنسان ومع الاجتماع المشترك، وهو تالياً تلك العملية التبادلية التي يضمنها الفكر والمعرفة، معرفة الذات ومعرفة الآخر، يقول الشيخ يحيى النجار: »إذا كنا ضعفاء عن رد أدلة الغير قلقين على أنفسنا، فإن العلاج هو بالبحث عن أسباب الاستقواء لا بالحجر على العقول والأفكار«.
إذاً إن الثقافة الأصيلة والعريقة لايمكن أن تركن للانغلاق والجمود، وتتوقف عن الحركة والنمو فروح الثقافة الإنسانية تكمن في الحوار المتبادل الفعال الحر.. »ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك«..
نجاحات باهرة
> وبهذا تبقى بلادنا والحمد لله تخطو الخطوات الجادة في اتخاذ الحوار منهجاً وسلوكاً في التعامل مع كافة الأشكال، وقد نالت هذه التجربة في بلادنا استحساناً دولياً واسعاً.. يقول الدكتور صبري ربيحات »إن اليمن تتعامل مع التحديات التي تواجهها بعقلانية تعتمد الحوار وقد حققت في هذا الجانب نجاحات باهرة إلى حدٍ كبير«.
والكل يجد أن هذا التوجه يأتي من أولويات سياسة القيادة السياسية ممثلة بفخامة الأخ علي عبدالله صالح رئىس الجمهورية- حفظه الله- الذي يؤكد دائماً أن الحوار هو السبيل الأمثل لحل المشكلات الفكرية واقتلاع جذور التطرف والإرهاب وهو السبيل الأمثل لتغيير السلوك.
|