شعر: عبد الجبّار سعد -
في رثاء فقيد الأدب الأستاذ عبدالله البردوني وفقيد الصحافة الأستاذ عبدالله سعد في الذكرى الثالثة عشرة لرحيلهما.
وجع الجــرح أم ضجيـــج الأمانـــي
هاج شعـــري وحلّ عقد لسانـــي
أم قتيـــل علـــى بقـــايـــا قتـيـــل
وبـــنـــاء هـــوى عــلـــى بـنـيـــانِ
أعجز الصبــر مـــن أصيـــب بجـــرح
كيـــف فيـمـــن أصـابـــه جـرحـــانِ
مـــا وجـدنـــا دواءنـــا مـــن جـــراح
غـــــائـــــرات تــــنـــــزّ كـــــلّ أوانِ
حسبـــي الله أي عبــديـــه أرثـــي
ابـــن أمـــي أم ابـــن أم البـــيـــانِ
يـــا خلـيـلـــيّ خـبّـرانـــي فـقـــولا
كيـف بعـد الفـراق صــحّ التـدانـــي
فرّقتنـــا الدنـــى وشتّتنـــا القـــرب
ومـذ غبتـــما التقـــى المشرقـــانِ
* * *
يـــا خليلـــيّ عرجـــا عنـــد حـــيّ
نـزلـــت فــيـــه صــفـــوة الـخـــلّانِ
تستعير الشمـــوس منهم بهاهـــا
ونجـــوم الدجـــى وحـــور الجنـــانِ
واقـــرءا منـــي الســـلام عليهـــم
وأخبراهــم من دهرنـــا ما نعانـــي
بيــن ليليـــن مـــن عنـــاءٍ وهجـــر
في دياجيهـــما اختفـــى النيّـــرانِ
لا ربـيـــع يطـــلّ يـــومـــا عـلـيـنـــا
وخـــريـــف يــحـــلّ فـــي كـــل آنِ
نمضغ القــات نحتسي البنّ لكـــن
كـنـقـيـــع السـمـــوم يُـعـتـصـــرانِ
لســـت أبكـــي الألـى تولّـوا بعـــزٍّ
إنّـمــا ذُلُّ مـــن بـقـــى أبـكـانـــي
الكريـــم الكريـــم أضحـــى لئيـــماً
والشجاع استعــار قلـــب الجبـــانِ
وغـــريـــم يـــقـــودنـــا لـــغـــريـــم
يـشـتـــريـنـــا بأبـخـــس الأثـمـــانِ
وهـــداةٌ تكلّـــف الـنـــاس طــهـــرا
فالغـــويّ اسـتـعـــفّ والحِـبـــر زانِ
قـبّـــح الله أنـفـســـاً سـكـنــتــنـــا
قتلـــت عـزهـــا بـعـيـــشٍ مـهـــانِ
وعلـــى مثلنـــا تنـــوح البــواكـــي
إن عـــدتـــنـــا عـــوادي الأزمــــانِ
* * *
يابن أمي رحلـــتَ قبـــل رحيلـــي
والــردى كان صاحبـــي فجفانـــي
حدّثــوا – صخـــرة دهتـــك وقالـــوا
أنت داهمتـــها – شهـــود العيـــانِ
ورضينـا ما ليـــس يُرضـــى وقلنـــا
حقّق المـــوت بالقضـــا شاهـــدانِ
كلّ شيء في أرضنا ليس يُرضــى
أمِـــن العـــدل أن أهـــدّ كيـانـــي؟
كنتَ يومـــا حدّثتنـــي عن جمـــال
من رؤى الغيـــب ســـاحـــرٍ فتّـــانِ
لا اللسان استقام في وصفه لــي
فـــأعِـــيْـــه ولا صـــغـــت آذانــــي
فـــإذا مـا نزلتـــه الآن صـــف لـــي
كيف شاهدتـه فيصغـــي جنانـــي
* * *
لســـت منّـــي حتّـــى تحلّ بأرضٍ
تربـها المسك والجنــى منـــك دانِ
وعـلـــى أيكـــها تـغـنّـــي حـمـــام
ســـاجـــعـــات بـأعـــذب الألحـــانِ
وكـــرام عــلـــى الأرائـــك طـــهـــر
ونعيـــم الرضـــى وحـــور حســـانِ
وعــــيـــــونٌ وأنـــــهـــــرٌ وظـــــلال
ورواب تـــغــــص بـــالــــغــــزلانِ
وقـصـــور مـــزخـــرفـــات بـُنـــاهـــا
مـــن درار وعــســجـــدٍ وجــمـــانِ
* * *
فـــإذا مـــا حــلــلــتــها فــتــرفّـــق
واهـد روحـــي لظبيـــةِ الزعفـــرانِ
ظبيـة ترتعـــي حشاشـــة قلبـــي
وهي أرضــي وبرزخـــي وجنانـــي
من ترانيمـــها تسابيـــح قدســـي
وجحـــودي بـغـيـــرهـــا إيـمـانـــي
يــا رعـــى الله يـــوم لا يـــوم لـــمّا
فاح من طيب نشرهـا مـا طوانـــي
غيّبتنـــي عنّـــي ومنّــي وعـنّـــي
أخـذتـنـــي وغــيّــبـــت أحــزانـــي
عرّفتني بنفسها وهـــي نفســـي
وطوتنـي فـــما اهتديـــت مكانـــي
وأبـاحـــت بســـرّها بيـــن غمـــضٍ
واختــلاسٍ من طرفـــها النعســـانِ
فأنـــا بيـــن هيبـــة القـــرب منـــها
وجـــوى البعـــد طعمـــةُ النـيـــرانِ
* * *
أشتهـــي عـــودةً.. تقـــول تصبّـــر
فيـك عينـــانِ لـــم تـــزل تطرفـــانِ
فإذا مـــا انطفـــأت حســـاً وروحـــاً
فاغتنم لذّتي وعش فـــي أمانـــي
هــــكــــذا هــــكــــذا وإلا فـــــلا لا
يُجتنى الشهد من رحيق المجاني
صيّرتني عبدا لـها وهـــي ملكـــي
ودعـتـنـــي مـلـيـــك كــــل زمـــانِ
* * *
يا ابن أمي هذي مراعي ظبائـــي
مـــن قـــديـــم وهـــذه أوطــانـــي
فـإذا مـــا طلبـــت أرضـــا سواهـــا
فاعتزل نسبتـــي ودع ما عنانـــي
***
يا صبايـــا يا حـــور عيـــن الجنـــانِ
مُلك مــن لا يـــزول والكــلّ فانـــي
نزل الحــيّ بعـــد سبعيـــن عامـــا
من عذاب الرحيل شيـــخ يمانـــي
أبصـــر النـــور فـــي صبـــاه ولـــما
شمّـــر الجـــدّ صـــاده سـهـمـــانِ
أطفـــآ فيـــه نـــور عيـنـيـــه لكـــن
ضمّـــراه لــكــســـب كـــل رهـــانِ
وهـــو اليـــوم نــازل فـــي ثراكـــم
فأسعديه وزغــردي يـــا تـــهانـــي
كـان يكفيـــك مـــن عذابـــك يـــوم
كي تنـال الرضـــى وبـــرد الأمـــانِ
فإذا مـــا أنفـْــت سبعيـــن فاهنـــأ
ودع الـوصـــف فالحـــروف فوانـــي
يا ابن أم البيـــان أغمضـــت لكـــن
حيث يممـــت أبصرتـــك المعانـــي
لا تشــح هكـــذا بوجهـــك هـــذي
جـــوقـــة مـــن معـــازف وقـــيـــانِ
تُسمع الحـــور ما نظمـــت بـــأرض
زهدت فيــك شُمطـــها والغوانـــي
فانتش الآن ليس في الأرض حــيّ
يـتـمـلّـــى روائـــع الــمــهــرجـــانِ
وأنـــا؟ مــيّـــت أتـعـجـــب منّـــي؟
أنا قــد مـــتّ قبـــل بـــدء الزمـــانِ
* * *
أنـــا بــالله أسـتــبــيــح المـنـــايـــا
كالـحـــات وأســتـــرقّ الأمـــانـــي
وتــزول الجبـــال إن قلـــت زولـــي
وأرى وسوســـات مـــن لا يرانـــي
إن أردت الفنـــاء يـومـــا دعـــانـــي
داعي الحـقّ من عُلـــى الرحمـــنِ
أو أردت البـقـــاء سبّحـــت باســـمٍ
ســـبّـــحـــتـــه دوائـــــر الأكــــوانِ
كلها الأرض مسجـــدي وطهـــوري
والســـمـــوات كـــلّـــها بنيـــانـــي
غيـــر أنـــي وشـــأن كـــلّ كـريــم
قيّـــدتــنـــي لطـائـــف الإحســـانِ
تـركـتـنـــي مـشـيـئـــة الله حــيـــاً
ميتاً- أشتكي - صحيحاً .. أعانـــي
أفلـــت المـــوت من يـــديّ ولكـــن
قد درى أنّنــي سهيـــل اليمانـــي
رحـــم الله شـاعـــراً قـــال قبلـــي
وبسحرٍٍ مــن نظمـــه قد سبانـــي
(ضـــوءُ عينـيـــك أم هما نجمتـــانِ
كلّهـــم لا يـــرى وأنـــت ترانـــي)*
*البيت الأخير قاله المرحوم نزار قباني في رثاء الدكتور طه حسين وهو هنا من باب التضمين في القصيدة.