غيلان العماري -
تشتد الأزمات في كثير من بقاع الأرض لتنفرج لكنها في الواقع العربي تشتد فتضيق على إثرها خيارات الانفراج حتى تصبح أضيق من سم الخياط, تبحث كثيرا في الأسباب فتمضي بك القناعات إلى حقيقة أن هذا الواقع العربي قبل أن تكون أزمته سياسية أو اقتصادية, أو ثقافية,....الخ؛يعاني من أزمة أخلاقية خانقة حطت رحلها في مضاربه ولم تغادره حتى اليوم فتجده بسببها طريح أزمات متعددة لا يكاد يفلت من واحدة إلا ووقع في أخرى هي أشد وأنكى.
هذه الأزمة وقد تكفلت بإسقاط الحضور العربي وتغييبه عن محافل التقدم والنهوض -لن تتوقف عند مستويات بعينها من التدهور والانحطاط ما لم تراجع الأمة أمر واقعها بواقعية تغيب فيها بل تذهب وإلى غير رجعة نوازع الإنحراف التي ما استوطنت أمة من الأمم إلا وأحالتها الى مراتع خصبة للشر والفوضى وما هذه الغواية السياسية التي تضرب واقعنا العربي اليوم إلا غارة من غاراته العابرة للتخبط والانفلات.. سلطة مستبدة تتشبث بالحكم حد التملك, ومعارضة مستفزة تحد مخالبها للانقضاض عليه بقرآن أم بشيطان لا فرق بينما الأوطان راغمة تمضي نحو متاهات المجهول السحيقة, وفي الطريق إليه ما لا يخفى من مشاهد التيه والضياع..
في اليمن وبعد أن استبشر الناس خيرا باقتحام مارد التغيير لقمرة المشهد السياسي والتعويل عليه في قيادة الحاضر برؤى نهضوية جسورة وبعد أن لاقت رقائق التغيير في مراحل نكهتها الأولى إقبالا واسعا لدى ذائقة الكثيرين؛ تسرب الأمل بغد باذخ البهاء من بين جوانحهم الكسيرة كما يتسرب الماء من بين الأصابع,حيث بدا جليا أن المسار الثوري فضلا عن اصطدامه بواقع مفخخ سياسيا واقتصاديا واجتماعيا...الخ,قد اتسخ بدنس الوالغين في وحل الفساد ممن لا يفرقون بين وطن ووطر والذين يحتفظ لهم الوطن بسجلات غير نظيفة من الممارسات غير المسؤولة التي أرهقتنا بأذيتها ولا تزال فكان ذلك بمثابة الكمين الأخلاقي الناسف لثقة الناس بثورتهم.. بُعيد خروجهم المبكر من مونديال هذه الثورة التي ذهبت بألقابها لأولئك الانتهازيين.. قال لي أحد الثائرين ممتعضا: هذه لم تعد ثورة إنما»بورة» وضحك على الذقون! لقد مارست دورها بعكازي مخاتلة فيهما من الضعف ما يكفي لإحداث السقوط وهو ما كان.
واليوم وبعد أن استحال الحلم الأجمل إلى كابوس مزعج يقض مضاجع الباحثين عن حياة زاخرة بالطمأنينة والاستقرار؛ ينبغي لنا جميعا التوجه بنوايا صادقة للإطاحة بوثن الإحباط المستبد الذي يغمر مشاعرنا حيال كل ذلك التهافت والسقوط, أن تتحد الجهود -وبالذات تلك المستندة إلى الهم الوطني العام- للملمة كل هذا التدهور والشتات عبر ثورة أخلافية خلاقة تشتعل في دواخلنا قبل أن تمتد إلى الخارج..ثورة سقفها الفضيلة وحدودها الضمائر الطاهرة الحية,غير قاصرة فلا تقبل الأوصياء كما غرر بثورة الأمس وخطوطها العريضة تقول بالفم المليان: أنت ثائر في بيتك,حارتك,شارعك, مدرستك,مكان عملك:طالما كنت مثالا للأب الذي يحسن تربية أبنائه,للجار الذي يحسن معاملة جيرانه,للمدرس الذي يغرس في نفوس وأذهان طلابه قيم الحب والإخاء والتسامح,للموظف الذي يؤدي واجباته الوظيفية على قدر من الأمانة والمسؤولية.. إنها الثورة الأم ومن يعتقد بغير ذلك,لا شك يعيش وهما ثوريا ليس إلا..
أخيرا يمكن القول بأن هذا الوطن لا ولن يظل ضحية لنزاعات شخصية همجية وقودها الناس الغلابى من أبناء هذا الشعب,بينما لصوص المصلحة العامة وقراصنة المبادئ والقيم منهمكون في ابتلاع أخضر هذا الوطن ويابسه حد التخمة وليتهم بذلك يكتفون..ليتهم يغادرون واقعنا فنصحو على وطن يمد ذراعيه نحونا بسلام,لقد سئمنا الحياة بوجودهم,فليمضوا لشأنهم وليتركوا الوطن لأبنائه الشرفاء, الذين يحملونه في صدورهم حبا خالدا لا تزحزحه عنهم المآرب والأطماع الشخصية والحزبية المسمومة التي كبدت الأوطان خسائر متلاحقة ضمن منافسات الصعود إلى مربعات العيش الآمن الكريم.
[email protected]