عبدالرحمن مراد -
مع كل لحظة ألم تنشأ لحظة مقاومة، ومع كل حالة قهرية تنشأ حالة وجودية تظل في حالة تكون وتشكل الى أن تبلغ ذروتها الوجودية، فقانون الفيزياء الذي يحكم مسار الطبيعة هو ذاته، فالافعال لها أفعال مضادة وهي بالضرورة تصب في بوتقة التدافع بين الأنا والآخر خوف الفساد في الأرض والتضخم.
لذلك فكل مسارات التأريخ وسياقاته كانت دالة على أن وجود الآخر أو التالي كان يرتبط سببياً بالأول أو السابق،
فالأمويون مثلاً كانوا سبباً في وجود العباسيين من خلال الحالات القهرية التي خلقوها فصنعت روح المقاومة للفناء القهري و هكذا دواليك في كل الحركات الاجتماعية السياسية في التأريخ، وصولاً الى العصر الحديث الذي شهدنا فيه بزوغ القومية من تحت نيران الاستعمار وبزوغ الاشتراكية من تحت قبعات الاستغلال والغبن، بيد أن الذي يمتاز به العصر الحديث عن العصور التي سبقته هو تطور البعد الثقافي من الشخصنة والفردانية الى الشعار.
فالقوميون التفوا حول شعار «أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة» والاخوان المسلمون حول شعارهم «الله غايتنا .. والرسول قدوتنا.. والقرآن منهجنا.. والجهاد سبيلنا.. والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.. »والاشتراكيون التفوا حول شعارهم «حرية، اشتراكية، عدالة اجتماعية»، وما يؤخذ على تلك الشعارات أنها تظل ثابتة وثباتها يجعلها في قائمة المقدس عند أتباع الحركة الاجتماعية أو السياسية ولذلك تعجز كل حركة اجتماعية أو سياسية عن التطور وتعجز عن تفاعلها مع الشروط الموضوعية للتحول والانتقال والتغيير وهو الأمر الذي يمكننا قراءته تحت سماء ومناخات الربيع العربي وفي اليمن على وجه الخصوص، فالحركة القومية تمترست حول رموزها التاريخيين وعجزت عن مقاومة الحالات القهرية التي واجهتها وعجزت عن التحديث والتجدد في بنيتها العامة فكيف لها أن تحدث انتقالاً هي عاجزة عن تحقيقه لذاتها، وكذلك الحركة الاشتراكية التي تقف على أطلال الامجاد القديمة دون أن تبدع واقعاً جديداً يتوافق مع لحظتها التاريخية المعاصرة ويتفاعل مع قيم العصر البديلة، أما حركة الاخوان فقد كانت تخلق أسئلة العصر الحضارية دون أن تتمكن من الاجابة عليها وحين تشعر بالعجز تعود الى نقاط مضيئة في التاريخ لتبرير عجزها أو تتمترس وراء التأويلات، ولذلك فهي لا تملك مشروعاً نهضوياً أو حضارياً ومن لا يملك مشروعاً لا يمكن للجماهير أن تعول عليه في إحداث التغيير والانتقال،.
فالاخوان كحركة اجتماعية وسياسية منظمة مالت الى تحريض الفقراء وإثارة عاطفتهم الدينية على الحرب ضد الفقر والجوع.. وعملت على تنظيم المظاهرات التي تنادي بالتغيير وبتحويل الاوضاع القائمة عن مجراها الذي هي عليه في واقعها خلال عام 2011م في ظل مناخات الربيع العربي وفي الاوطان التي حدثت فيها موجة الربيع العربي «تونس، مصر، ليبيا، اليمن» لم تكن على إدراك تام بطبيعة الفروق والاختلافات في حركات المقاومة الايجابية ضد المجتمع في وضعه القائم، ولذلك خاب ظن المجتمع بها لأنها لم تحقق الدور الذي توقعه المجتمع منها وقد وقع خطابها في التناقض وبالتالي فقد فقدت تأثيرها من خلال اختلال المنظور الوظيفي، فرجل الدين في تصورات المجتمع، رجل فاضل عادل خيّر يقوم بواجبه في الدور الذي وجد ذاته فيه، ويجسد في العادة الدور الذي يتوقعه المجتمع منه، ولم يكن في مقدور التصورات الذهنية الوظيفية أن تتخيله خارج مستلزمات دوره الاجتماعي مبرراً ومتناقضاً في مواقفه وفتاواه، ومثل ذلك الاختلال الوظيفي كان سبباً مباشراً في ظهور الحركة الحوثية وهو ظهور قاومته حركة الاخوان وحركة السلفية بالنار والدم ولم تزل في أكثر من مكان من اليمن، فمقاومة الاخوان والسلفية للحوثية ليست عقائدية كما يبدو في ظاهرها ولكنها مقاومة وجودية، فشعور الفناء خوف ظهور الآخر هو من يقاوم وهو من يقاتل وليس البعد العقائدي الذي ينص على الاعتناء بتكامل إيمان الذات ولا يرى في الآخر ضرراً عليها إذا اكتمل إيمانها كما ينص القرآن على ذلك في الآية (105) من سورة المائدة، فالصراع الحوثي/ السلفي في اليمن صراع وجود له طابعه السياسي الصرف، إذ أن التعايش بين المذاهب في اليمن ظل بعداً ثقافياً متأصلاً ولم يشهد صراعاً دامياً طوال مراحل التاريخ المختلفة، وتكاد ان تكون كل المذاهب في اليمن وبعض تلك المذاهب وصل الى الحكم والمآسي الدامية في التاريخ كانت بدوافع سياسية ولم تكن بمبررات مذهبية قط، حتى مطرفية الإمام عبدالله بن حمزة فقد كان الدافع السياسي حاضراً فيها لكونه جاء السلطة من باب الاحتساب ولم يدع لنفسه لعدم اكتمال الشروط الهادوية فيه، فالمبرر كان سياسياً وجودياً أكثر منه مذهبياً أو عقائدياً، وقد أنكر فعله جل علماء عصره ومذهبه.
وبالعودة بالحديث الى الحركات الاجتماعية اليمنية فقد شهد عام 2011م بزوغ حركات جديدة وأفول أخرى، فقد بزغت الحوثية من أنين «الصرخة» كمعادل موضوعي يقاوم عوامل الفناء الى شعار الموت الذي يكاد أن يتحول الى بعد عقائدي قد نراه غداً في صورة حزام ناسف أو عبوة مدمرة، فالمسار الذي سارت فيه حركة الاخوان في شعارها أي رغبة الموت والفناء للآخر هو ذات المسار الذي يسير اليه شعار الحركة الحوثية «رغبة الموت وفناء الآخر» ومع مراعاة الفروق بين الحركتين الا أنهما يتوحدان عند نقطة فاصلة وهي «الموت» كمفردة تضاد مع الحياة، وهما بذلك لا يقدمان شيئاً جديداً للإسلام ولكنهما يعمقان من الهوة الحضارية بينه وبين الآخر.
فالموت ليس هدفاً إسلامياً في ذاته وتمثيل الجماعة له في شعارها تأكيد ثقافي عليه، والتركيز العاطفي على هدف معين - كما يرى السيكولوجيون - يمكن أن يؤدي الى الاستهداف للمخاطر ومثل ذلك ينسحب على الاشخاص في الطبقات الاجتماعية كافة، فالفرص المتاحة للتحرك نحو هدف الموت تعتبر محدودة الى درجة كبيرة بواسطة البناء الاجتماعي وكما يرى علماء الاجتماع، فإن التأكيد الثقافي وطبيعة البناء الاجتماعي، هو الذي يؤدي الى ضغط مكثف نحو الانحراف السلوكي والمنهجي ونحو المخاطر.
فشعار الحركة الحوثية قد تجاوز ظروف نشأته النفسية والاجتماعية والسياسية، وقد أصبحت الحركة أكثر تمكيناً من ذي قبل، وقد تداعت إليها الفئات الاجتماعية من كل مكان لذا فقد أصبح التحديث في صيغة الشعار وفي القيم التفاعلية والثقافية ضرورة ثقافية وسياسية، فالموت لن يكون نفعاً للبشر والمعيارية الحقيقية في الاسلام هي القيمة النفعية للناس فالخيرية فيها وليس في الفناء والدمار.
ولعل المتأمل في ظروف الراهن السياسية يجدها أكثر تماثلاً مع ظروف بداية الثمانينيات لذلك فالضرورة الثقافية والاجتماعية والسياسية التي انتجت شعار المؤتمر الشعبي العام المتمثل في «لا حرية بلا ديمقراطية، ولا ديمقراطية بلا عدالة ولا عدالة بدون تحقيق سيادة القانون» هي نفسها من تجعله في الراهن أكثر تمثيلاً لتموجات المرحلة، ومثل تلك الضرورة قد تثقل كاهل القيادات في المؤتمر الشعبي وتزيد من أعباء المؤتمر في مواجهة تحديات المرحلة بالاشتغال الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي يعي ملابسات المرحلة ويحاول إحداث الانتقال الاجتماعي والتطوير والتحديث.