بلال الحسن -
يبدأ الحدث في لبنان محليا، ثم يتحول بسرعة إلى أزمة دولية. كان هذا هو الحال في التاريخ وها هو الحال نفسه يتكرر في الزمن الراهن. تملك الدول الكبرى شهية التدخل في الأزمات الخارجية، وتزداد هذه الشهية حين تكون الأزمة الخارجية قائمة على توازن طوائف عدة، وحين تفكر كل طائفة في قوة خارجية تحميها أو تدعمها. النهج نفسه يتكرر الآن في لبنان. حادث حدودي أدى إلى خطف جنديين إسرائيليين، وعلى خلفية صراع مديد يعرفه الجميع ويتعايشون معه إسمه الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولكن هذا الحادث الحدودي يتطور ويتطور ويصبح حتى صراعا بين الدول العظمى. فجأة يصبح حزب الله هماًً أميركياً وهماً بريطانيا وهماً فرنسياً، إضافة إلى هم عربي. ويتم تدمير لبنان تحت شعار تدمير حزب الله. ولكن حزب الله ليس نبتا شيطانيا، وهو أيضا ليس حزبا نما في الظلام. لقد وجد وترعرع تحت أعين الجميع، وأيده وصفق له الجميع من قبل طويلا. وتم ذلك لأسباب كثيرة. منها أنه حزب بنى قوة عسكرية وطنية ولم يبن قوة مليشيا حزبية طائفية. ومنها أنه لم يطلق طلقة واحدة ضد أي فريق أو خصم لبناني ووجه كل جهوده نحو المحتل الإسرائيلي. ومنها أنه لم يبتدع نهج المقاومة للاحتلال بقدر ما كان وريثا لمقاومة وطنية لبنانية انبثقت فور احتلال الجيش الإسرائيلي للعاصمة بيروت عام 1982، وكانت مقاومة مسلحة ومسيحية، وكانت مقاومة يسارية وعلمانية، وجاء هو ليواصل طريقها وليبني على إنجازها، فأيده الجميع. ومنها أنه خاض مقاومة مديدة للاحتلال دامت ما يقارب عشرين عاما، وكان خلال تلك الفترة كلها مدعوما من الدولة اللبنانية، من رئاسة الجمهورية، ومن رئاسة الحكومة، ومن الأحزاب، ومن الطوائف، ومن الشارع، ووفر له ذلك غطاء سياسيا لم يتوفر لحزب مقاوم من قبل. وحين وصل إلى إنجاز التحرير عام 2000 كرس نفسه قوة وطنية أساسية في لبنان، وكرس نفسه قوة تحظى باحترام عربي ودولي، وأصبح له دوره ووزنه داخل السلطة اللبنانية. حتى الدول العظمى تعاملت مع حزب الله، وفي تفاهم نيسان كانت فرنسا، وبمبادرة من سوريا، وبإصرار من الرئيس الراحل حافظ الأسد، هي الراعية الدولية لذلك التفاهم، والذي كان جوهره تأكيد حق لبنان وحزب الله في مقاومة الاحتلال فوق أرض لبنان، ومن دون الاعتداء على دولة إسرائيل. فجأة... يتغير هذا كله، ويبدأ التعامل مع حزب الله على أنه الشر نفسه، وأنه القوة التي تعيق تحقيق السلام. ما الذي حدث وما الذي تغير؟ بقي حزب الله على حاله، إنما حدث التغير في الولايات المتحدة الأميركية. جاء المحافظون الجدد إلى السلطة ومعهم مخطط تدمير الوطن العربي لبناء الشرق الأوسط الجديد. وجاءت أحداث 11/9/2001 من قبل تنظيم القاعدة. وجاءت نظرية الحرب والحرب الاستباقية لتصبح خطرا يهدد العالم كله. وجاءت على أنغام هذه النظرية حرب احتلال العراق عام 2003، ولم يخف الأميركيون أنهم يريدون السيطرة على العراق، ثم ينطلقون من منصة العراق لإسقاط النظام السوري، والنظام اللبناني، ثم يتهيأون لقطف الثمار في النظام السعودي وفي النظام المصري، ثم يتهيأون لحصار ايران وبرنامجها النووي. ولكن هذا المخطط الغريب من نوعه واجهته ثلاث قوى من نوع جديد: المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي وفي القلب منها حركة حماس، والمقاومة العراقية للاحتلال الأميركي، ومقاومة حزب الله لتداعيات الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. وبرهنت هذه المقاومات الثلاث أنها تشكل عقبة كأداء تعرقل تحقيق المخطط الأميركي، وتعرقل تحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد. ولذلك كان لا بد من القضاء عليها. فكروا أن من الأسهل القضاء عليها في العراق أولا ولكنهم فشلوا في ذلك، فانتقلوا إلى محاصرة سوريا ومحاولة إضعافها ولكن هدفهم لم يتحقق، فانتقلوا إلى تركيز الجهود ضد حزب الله، وكان القرار 1559 أولا، ثم كانت الحرب الإسرائيلية ضد لبنان، وتحت ستار أنها حرب ضد حزب الله. وهنا برز الحديث عن دعم سوريا وايران لحزب الله، وجرى التأكيد المتكرر بأن صواريخ حزب الله قادمة كلها من ايران، وصور هذا الأمر وكأنه جريمة كبرى. ولكن من عايش حرب لبنان يعرف كيف أن وراء كل مليشيا لبنانية يقف جهاز مخابرات خارجي يدعمه ويسانده. لم تبق دولة شرقية أو غربية إلا وكان لها في لبنان موطىء قدم عبر مليشيا مسلحة تتعاطف معها، ولذلك فإن تدخل ايران مع حزب الله لا يمكن أن يعتبر نشازا من حيث الشكل، وإن كان يختلف بالمضمون عن كل التدخلات الدولية السابقة، فايران لم تدعم قوة لبنانية تحارب أهلها، بل دعمت قوة لبنانية تحارب الاحتلال الإسرائيلي. وحتى حين تدخل العرب بقوة، وأنجزوا بقيادة السعودية اتفاق الطائف، نص الاتفاق على نزع سلاح المليشيات، بينما كان الحوار اللبناني الداخلي، وبموافقة رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، يوافق ويقر بأن نزع سلاح المليشيات لا ينطبق على قوة حزب الله، ونظروا إليها ودعموها على أنها قوة تسهم في حماية لبنان. ولكن واشنطن لم يعجبها هذا كله، وركزت أنظارها على المقاومات الشعبية الثلاث في فلسطين والعراق ولبنان، داعية وعاملة من أجل القضاء عليها، باعتبارها القوى التي تعرقل مشروعها السياسي. وهنا نصل إلى جوهر المسألة. لقد أمكن للولايات المتحدة، وعبر إسرائيل، أن تحيد قوة الجيوش العربية في مواجهة جيش إسرائيلي مدجج بالسلاح الأميركي الحديث، ولكن هذه المقاومات الشعبية أظهرت نجاعة في أن تكون البديل الوطني في مواجهة إسرائيل، ولذلك لا بد من القضاء عليها، فتم الإعداد لشن الحرب على لبنان، وتم تضخيم شعار حزب الله «الايراني». وحين فشل الجيش الإسرائيلي في القضاء على حزب الله عسكريا، بدأ العمل لتحقيق الهدف نفسه سياسيا، عبر مجلس الأمن، وعبر الموقف الأميركي الرافض لوقف إطلاق النار، وعبر مشاريع القرارات التي تريد قوة دولية محاربة تتولى بنفسها متابعة المعركة التي لم ينجح الجيش الإسرائيلي بإنجازها، بينما وقف لبنان كله موحدا يطالب بوقف فوري لإطلاق النار، وبانسحاب فوري للجيش الإسرائيلي من أي موقع يحتله في جنوب لبنان. إن هذا الفهم للأمور يبقى ناقصا من دون الإشارة إلى عامل جديد بدأ يتفاعل في المنطقة منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي للعراق. ويتمثل هذا العامل بالأمور التالية: أولا: بدت ايران وتصرفت وكأنها غير منزعجة من الاحتلال الأميركي للعراق، بل ومرحبة بإسقاط النظام فيه. ثانيا: استغلت ايران الوضع في العراق، ووجهت تنظيمات تابعة لها لكي تتعاون مع الاحتلال الأميركي، وتصبح جزءا من سلطة الاحتلال. وانتشت هذه التنظيمات بوضعها الجديد وبدأت تسعى إلى إنشاء كيان شيعي في وسط العراق وجنوبه. ثالثا: تدخلت السعودية وحذرت من هذا الارتياح الأميركي لنمو نفوذ ايراني داخل العراق، يستند إلى قاعدة طائفية، من شأنها أن تذكي صراعات طائفية تمتد من العراق إلى جواره. رابعا: بدت الولايات المتحدة في موقف سياسي متناقض، تتعاون فيه مع ايران وأحزابها داخل العراق، وتتعارض فيه مع ايران وحزب الله في لبنان. وأخطر ما يهدد المنطقة الآن، هو احتمال بروز صراع عربي ـ ايراني، يستند إلى قاعدة من الصراع السني ـ الشيعي. وهو صراع لا بد أن يعمل الكثيرون من أجل وقفه، ومن أجل تحويل مساره، عبر حوار سياسي صريح ومعمق، يقول كل طرف فيه رأيه بصراحة، ومن أجل صياغة تفاهم يتجاوز هذا الخطر، إقليميا وطائفيا. نقلاً عن الشرق الاوسط