محمد علي الجعاشي # - في هذه الظروف العصيبة والمرحلة الدقيقة التي يمر بها اليمن ، يأتي انعقاد مؤتمر الحوار الوطني الشامل، الذي يجب فيه على كل انسان ان يساهم ويعمل على انجاحه، لأن المساهمة على انجاحه لا تقتصر على المؤتمرين انفسهم بل تشمل كل شرائح المجتمع، وكل مواطن ومواطنة، من كتاب وادباء وشعراء وفنانين ورسامين وعلماء بل واطفال ايضاً وكل فئات المجتمع كل بما يستطيعه سواءً بالكلمة الصادقة المعبرة أو بالمقالة او بريشة الرسام أو حتى بأنشودة الأطفال وأغنية الفنان الخ...
إنه وطن الايمان والحكمة الذي يجب على الجميع اليوم ان يعمل على تضميد جراحه ولملمة ما تبعثر منه والعمل على إعادته جسداً تسري فيه الروح وينبض فيه القلب وتدب فيه الحياة من جديد، لكي يستعيد عافيته ومكانته التاريخية اللائقة به بين الامم والشعوب، وان لا يكون جسماً عاثراً جريحاً كسيحاً كسيراً يستجدي الهبات والعطايا من الأخرين ، هذا ما يجب ان يستشعره المؤتمرون، لأن اليمن غني بأرضه وغني بأهله وغني بثرواته، ولكنه افتقد صناعة القرار وافتقد الأمن والاستقرار عبر سنوات من تاريخه، ومن هنا يجب أن تعاد رسم خارطة الطريق من جديد سواءً على مستوى وضع الدستور أو الحكم الرشيد او اطلاق عجلة التنمية الشاملة والمستدامة على كل ربوع اليمن، لينعم الناس بالأمن والهدوء والاستقرار والعيش الرغيد .
لذلك فإن الجميع بات يعلق على هذا المؤتمر كل امالهم وتطلعاتهم وامنياتهم بأن يخرج الوطن من ازمته ومحنته وينقله من حال السكون والركود الى حال من الديناميكية والبناء والحياة.
ولأن القضية الجنوبية اصبحت من الاهمية بمكان ولها الأولوية على طاولة مؤتمر الحوار، فلا بد من ان يسلط الضوء على بعض من جذورها التاريخية باختصار شديد، باعتبار أن الجنو ب هو جزء اساس إسمه (يمنات) كانت تسمى به اليمن منذ قدم التاريخ، ولأنه من الواجب على كل انسان ان يسهم بما يستطيع وبما يعرف في هذا الظرف بالذات لعله يكون قد ساهم ولو بالشيء اليسير، فربما كان مجدياً ونافعاً فلا يبخل به ولايحجبه ويكتمه فيكون بذلك قد ادى واجباً وابرأ ذمة ونفع به وطناً وامة .
ولابد أولاً من القاء الضوء على الخلفية التاريخية للحقب التي مر بها اليمن وكان في معظمها بلداً موحداً، اعتراه انقطاع في بعض الفترات، فانقطعت صلة المركز مع بعض اطرافه نتيجة لبعض الأضطرابات وبروز بعض الازمات ونشوء بعض الامارات والدويلات هنا او هناك تدير شؤونها بنفسها مع الاحتفاظ بخيط رفيع مع المركز، فكانت حقبة ما قبل الاسلام زاخرة بالأحداث خلال فترات حكم تلك الدول العظيمة التي بالفعل منحت اليمن لقب (البلاد السعيدة) لخصوبة ارضها وسدودها الممتلئة بالمياه تروي ظمأ الأرض والانسان فينبت الزرع ويدر الضرع وتجنى المحاصيل، فعاش الناس في ترف وعز وجاه، بدءا من الدولة المعينية والتي نشأت كأقل تقدير خلال الفترة من 1500-850ق. م سادها النشاط التجاري والاقتصادي وطرق التجارة من عاصمتها في الجنوب الشرقي (قرناو) وازدهرت فيها الحضارة اليمنية ونشطت فيها التجارة شمالاً وحتى شواطيء البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي، وهذه من الفترات التي عاش اليمنيون فيها موحدين انصرفوا الى الأعمال التجارية حتى وصلوا الى بلاد الشام وفارس والى مصر وبلاد الرافدين وبابل الخ ..
تلا هذه الحقبة التاريخية ظهور مملكة سبأ بعد ان دب الضعف في دولة معين وضمت اليها كل المناطق التي كانت خاضعة لدولة معين وذلك خلال الفترة من 850- 115ق. م بعد أن تغلبت على (المعينيين) على يد الملك سبأ بن يشجب، واشتهرت بانشاء السدود ومنها سد مارب الشهير والذي ورد ذكرها في القرآن الكريم (وجئتك من سبأ بنبأ يقين) وقد حاول الرومان غزو مركزها التجاري ولكنهم هزموا عند بواباتها، وقد كان لدولة سبأ حضارة راقية، زراعية وتجارية وعلى وجه الخصوص تجارة البخور والطيب ومختلف البضائع من الهند والصين الخ.. ثم اعقب ذلك ظهور الدولة الحميرية من 115ق. م- 525م والتي دامت قرابة 640 سنة وكان لقب حاكمها يشمل كل انحاء اليمن حيث حمل لقب (سبأ وريدان وحضرموت ويمنات (اليمن)، وقد أستطاعت الدولة الحميرية توحيد كافة انحاء اليمن في ظل دولة مركزية واحدة ولفترات طويلة من الزمن، ومن ثم استطاعت بناء الأساطيل البحرية والطرق الملاحية والموانيء البحرية كمراسي للسفن التي تجوب عباب البحار وتربطها بالعالم الخارجي وقد تميزت الدولة الحميرية بميلها الى الفتوحات حيث حارب ملوكها الفرس والاحباش وغيرهم..
وعند بزوغ فجر الاسلام واعتناقه اهل اليمن، عين الرسول عليه الصلاة والسلام (باذان) والياً على كل انحاء اليمن، ولم يرسل رسلاً الا بعد موت باذان، فبعث الولاة الى كل من صنعاء وحضرموت والجند ونجران وهمدان، ولذلك فان الرسول عليه الصلاة والسلام قد عمل على توحيد قبايل اهل اليمن في سلطة واحدة وعقيدة واحدة كما عمل على توحيد قبايل الاوس والخزرج (الأزديون) الذين هاجروا من اليمن، لأن الاسلام جاء من اجل توحيد المسلمين ويجمعهم ويلم شملهم، ومن هذ المنطلق فقد تم التعامل مع اليمن على انه ولاية موحدة تابعة للدولة الاسلامية واستمر ذلك حتى العصر الحديث، رغم الحركات السياسية الانفصالية، التي كانت تحصل بين وقت واخر، ولكن بقي اليمن موحداً رغم تعدد الولاءات الشخصية والقبلية وهو ما نلاحظه حتى اليوم .
وفي ظل الخلافة الاسلامية بدءا بالخلافة الراشدة أستنفر ابو بكر المسلمين وتدفق المقاتلون اليمنيون تلبية لنداء الجهاد فجاء في يوم واحد 21000 مقاتل اصطحبهم انس بن مالك الى الخليفة ابي بكر لينضموا الى اخوانهم المجاهدين في جبهات القتال ، العراق وفارس، والشام، وبعد مقتل الخليفة عثمان وعلي، حدث تأثير على اليمن جراء انقسام المسلمين بعد مقتلهما ولم تستقر الاحوال فيها جراء الصراعات حتى نهاية الدولة الاموية.
وفي عهد الخلافة العباسية استمر تعيين الولاة الذين تعاقبوا على حكم اليمن ما يزيد عن اربعين والياً حتى ارسل المأمون اخر الولاة محمد عبدالله ابن زياد الى تهامة والذي انفصل عن الدولة العباسية واسس دولة بني زياد ومقرها زبيد مستقلة عن الخلافة العباسية واستمرت من عام 203– 409ه وقد احسنت هذه الدولة صنعاً بأن استطاعت توحيد اليمن في دولة واحدة، الى ان تمكن علي ابن الفضل اقامة حكم موحد في اليمن مستقلاً عن الدعوة الفاطمية بل ومتخلياً عنها، حتى جاء علي بن محمد الصليحي مؤسس الدولة الصليحية في عام 439 الى عام 532ه، ثم تعاقب على حكم اليمن عدة دول كان يتحد فيها احياناً واحياناً ينشب صراع في كل دولة حتى جاء العثمانيون في رجعتهم الثانية في الفترة من 1265- 1336ه ثم الاحتلال البريطاني ودولة بيت حميد الدين .
ومن هنا فإننا نستنتج أن اليمن ظلت موحدة في كافة العصور والدهور القديمة وفي ظل الحكم الاسلامي واثناء حكم الرسول عليه الصلاة والسلام والدولة الراشدية ، والاموية وبعض فترات الدولة العباسية التي شهدت اليمن بعض الأضطرابات ادت الى قيام دويلات وامارات ودون ان تكون هناك حدود لهذه الدويلات وانما كيانات ضمن الاطار العام لليمن الواحد، حتى جاء العثمانيون في الفترة الاولى واحتلال اليمن في عام 1538 م وحينها هب اليمنيون ضدهم وارغموهم على الخروج ولكنهم عا دوا بعد 200 سنة وذلك في عام 1849م بعد احتلال بريطانيا لعدن بعشرة سنوات، وقد قاوم اليمنيون الاحتلال العثماني مرة اخرى حتى اخرجوهم منها بعد اتفاقية دعان في عام 1911م ووقوع اليمن تحت حكم اسرة بيت حميد الدين الى ان قامت ثورة سبتمبر 1962م التي اذكت شعلة الثورة والنضال ضد الاحتلال البريطاني في الجنوب بتفجير ثورة 14 اكتوبر 1963م على امل ان يتحد الجنوب مع الشمال حال نيله الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م ، ولكن جرت الرياح بما لاتشتهي السفن .
وهنا بدأت مرحلة اخرى جديدة من النضال والكفاح سعياً الى اعادة وحدة الوطن بمعنى اقامة دولة واحدة بكيان دولي واحد وذو سيادة كاملة وزوال الكيانين القائمين الى مسمى واحد جديد، ذلك لأن الوحدة اليمنية كانت قائمة بين افراد الشعب اليمني فلم تكن هناك حواجز لغوية او دينية او عرقية أو ثقافية ، فكان الشعب موحدا بطبعه عاطفياً وثقافياً وقومياً ودينياً، فلم يكن ينقصه الا الرأس فقط وهو الكيان الموحد والذي تم اعلانه في 22مايو 90م.
ولأنه كما قلنا إن الوحدة هي وحدة شعب كان موحداً بفطرته وطبيعته، كان وسيبقى موحداً ارضاً وسكاناً، وأن ماحدث من تشطير في بعض الاوقات هو بسبب الاستعمار او صراعات على السلطة وهو ما يعد استثناءً والقاعدة والاساس هي الوحدة وأن المتتبع لتاريخ اليمن القديم والجديد سيجد نفسه أمام وحدة لا تنفصم عراها بين ابناء الشعب اليمني الواحد وحتى في ظل العهود القديمة كما ذكرنا آنفاً.
لذلك فإن الجذور التاريخية لما سمي ب(القضية الجنوبية) هي ليست وليدة اليوم ولا يمكن ان تؤخذ انها إبنة التو واللحظة، بل هي تراكمات اخطاء عقود من السنين بل قرون من الزمن، بحكم أن حركة الأنسان ونشاطه (الانثربولوجي) والتداخلات المجتمعية للسكان على رقعة جغرافية واحدة، مما يعكس أن قضية اليمن هي واحدة وكل من يعيش على هذه الرقعة من الارض بحكم انهم من اصل واحد ودين ولغة وقومية وتراب واحد، بالتالي فإن قضاياهم وقضيتهم وتقاليدهم وعاداتهم وحاجاتهم الاساسية واحدة، فالجميع يشتركون في المعاناة والمظالم متى ما وقعت تلحق بهم جميعاً، فهم يحتاجون معاً الى الكهرباء والماء والصحة والتعليم والطريق والمواصلات والاتصالات والدواء والغذاء الخ.. من شرق اليمن الى غربه ومن شماله الى جنوبه .
فالمتتبع والمستقرئ يرى أن هناك سلسلة من التراكمات والأخطاء يستطيع الانسان أن يحدد بعضا منها بدءاً من عشية الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر 1967م، عندما تم استبعاد كافة الأطراف التي شاركت وساهمت في الكفاح المسلح، ثم ما مر به الجنوب والشمال من احداث وسلسلة من الأزمات يعقبها كثير من المأسي والكوارث كان اخرها ما حدث في يناير 1986م، وكذلك حرب صيف 1994م، لأن جذور القضية الجنوبية تكمن في تفاصيلها إذا اراد المؤتمرون الخوض فيها والرجوع الى الملفات والمؤلفات، فمرد ذلك الى المتحاورين انفسهم لأنه لا يجوز أن تبتر مسألة الجنوب وتصعيدها الى هذا المستوى ويتغاضى عن كل المسببات والمتسبب، فأظن ان الأمر سيطول إن تم الخوض في خباياها وخفاياها.
ولأنه لا يجوز أيضاً أن تحمل الوحدة- وهي هدف وغاية سامية تم تحقيقه– بالذنوب جميعاً، فلو أن في العائلة من اقترف ذنبا لا تحمل به الاسرة جميعها، ولا يجوز أن نهدم البيت بوزر من أخطأ بداخلها، ثم نشيع في الملآ أن الوحدة قد فشلت، وندير ظهرنا لها ونبحث عن طريق بديل، يصعد فيه العنف وتنشر ثقافة الكراهية .
واذا كان هناك من قد رفع شعار (التصالح والتسامح) فليكن ذلك للوطن جميعاً لأن الله (يغفر الذنوب جميعاً) ولا يغفر الذنوب مجزأة، فالمطلوب من مؤتمر الحوار الوطني الشامل عندما يبحث في الجذور التاريخية لهذه المشكلة تشخيصها ومعرفة أين يكمن الخطأ والمتسبب فيه بكل تجرد وحيادية، ومن ثم وضع الحلول المناسبة والعلاج الناجع، ورد الحقوق الى اهلها ورفع المظالم، واعلان تصالح وتسامح عام وشامل لكل الوطن وبين ابنائه جميعاً، ونبذ العنف ونشر ثقافة المحبة والسلام، وعفا الله عما سلف، فذلك اجدى وانفع لليمن وفتح صفحة جديدة بخارطة طريق جديدة ، يحدد فيها المسار لليمن جميعاً بوضع دستور جديد يضمن لكل فرد العدالة والحرية والمساواة في الحقوق والواجبات .
# كاتب يمني مقيم بالسعودية.
|