|
|
بقلم:مطهر علي الارياني - قال النقش:- »وجاء الثَّيْلُ -سيل الحمم البركانية- من قِبَل جبل »ذَقنٍ« مهاجماً بقوة مدينة »دمهان«، ومكتسحا كل ما أمامه من مظاهر الحياة، في كل أرضٍ اجتازها، حتى لقد وصل هذا »الثيل« إلى أراضي -مخلاف- »مأذن« ....الخ« .
وقال الهمداني-: »ومخرج النار من آخر »ضَرَوان«، وكانت هذه النار في بعضِ قرانات مثلثات الحمل، فأقامت قِرَاناً كاملاً، فبلغت حدود »شبام أقيان«، ومن الشمال بلاد »الصَّيَدِ« إلى »ذي بين« فراجعةً إلى »حُبَاشَه« وأسفل »مَحْصِم« الى »مَدَر« و »بيت الجالد«، راجعةً إلى مكانها ...الخ« .
وقال جلَّ من قائل:- »إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ « »الآيات: ....« .
وقال القرطبي: »وكانت الجنة بأرض اليمن، على بُعد فرسخ ويقال فرسخين من صنعاء وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى عليه السلام بيسير.. الخ« .
عُرفت »النار« أو الثورة البركانية العارمة، التي حدثت في المناطق المحاذية لصنعاء مباشرة من شمالها، في كتب التراث العربي المرجعية، بـ »نار ضَرَوان«، كما عُرف بعض من ابتلوا بها بـ »أصحاب الجنة« بفضل التسمية التي أطلقها عليهم القرآن الكريم في تلك الآيات من سورة القلم.
لقد كانت تلك الغضبة العنيفة من غضبات الطبيعة، حدثا كارثيا مروعا، تردد صدى أخبارها في أرجاء عالم الشرق القديم، أما في اليمن وسائر أنحاء الجزيرة العربية، فقد خلفت دوياً هائلاً، وتركت لهولها صورة ظلت ثابتة في الاذهان، يتوارث الرواة أخبارها جيلا بعد جيل وعبر القرون، حتى دخلت في التراث العربي الاسلامي من أول أبوابه وأشرفها وهو كتاب الله العزيز، ومنه دخلت الى كتب التفسير والتاريخ والمعجمات البلدانية، وغير ذلك من مؤلفات التراث، ولو بصور مختلفة كما سيأتي.
والحكمة الالهية، تقتضي ألاّ يأتي في كتاب الله العزيز ضمن »أحسن القصص« من اخبار الماضين، إلا ما للناس به علم إما لكونه مما جاء في الكتب السالفة، أو لأن أخباره لا تزال متداولة بينهم، ولما كانت قصة »أصحاب الجنة« و »نار ضروان« ليست مما جاء في الكتب السالفة، فإن ذلك هو الدليل على أن الناس كانوا ومايزالون على القدر اللازم من العلم بها، لتتحقق منها العظة والعبرة التي هي الغاية المتوخاة من مجيئها في القرآن الكريم.
انما يجيئ من كلام الله الحق، في كتبه السماوية التي لم يأتها باطلٌ من بين يديها ولا من خلفها، يربأ به من أن يكون فيما يخبر به عن الماضين، مجرد راوٍ للأخبار أو ساردٍ للتاريخ، أو مدون للأحداث، أو محدِّد للاماكن والبلدان إذ أن غاياته التشريعية والتعليمية و التهذيبية، أسمى من ذلك وأرفع، ولهذا جاءت قصة »أصحاب الجنة« في القرآن المجيد، بالحقائق والقيم السامية المطلقة، فأشار الى زمن سابق دلت عليه صيغ الفعل الماضي العديدة في الآيات دون تحديد له، وأشار الى قوم هم »أصحاب« تلك الجنة دون أن يسميهم او يذكر نسبتهم، وأشار الى مكان هو البلد أو الصقع الذي تقع فيه »الجنة« دون تعيين له بالاسم.
وحينما نزلت آيات سورة »القلم« على الرسول الأمين محمد »صلى الله عليه وسلم«، فإنها بأسلوبها القرآني المعجز، قد حققت غايتها السامية، كبلاغ لكفار مكة ومشركي قريش، ينعى عليهم ما حل بهم ويبكتهم به، جزاء لهم وعقابا لعنادهم على ما هم فيه من ضلال.
ولما جاء تاريخ التدوين وتأليف الكتب المرجعية، متأخرا عن تاريخ ظهور الاسلام بأكثر من مائة عام -وهذه مشكلة كبرى من مشاكل التراث العربي ليس هذا مجال الحديث عنها- فإن المدونين والمؤلفين، كانوا قد أصبحوا في عالم جديد يجبُّ ما قبله ويعفي عليه، كما أن ماكان قد بقي من اخبار الماضي على الألسنة، قد تعرض خلال نحو مائة وخمسين عاماً، الى ما لم يتعرض له في مئات السنين قبل ذلك، من التعفية والطمس والتحريف والتشويه، بسبب ما للمرحلة الاخيرة من ايقاع مخالف ومسار مختلف وانفصام في المسيرة التاريخية بين أمسها ويومها، ثم أن المجتمع الجديد كان له صراعاته الداخلية وصراعاته مع الغير، وكل هذه وأمور اخرى كثيرة، أدت الى تعدد الأهواء، وتباين الاغراض، مما ادى الى اقحام أساطير الآخرين المستحيلة بما فيها من فقر في الخيال وافتقار الى التفكير السليم، وبخاصة تلك الأساطير التي اطلق عليها اسم »الإسرائيليات« التي يضاف الى بؤسها ما فيها من ذاتية أنانية ضيقة.
ولهذا فان من ينظر الى ما جاء في كتب التفسير والسير النبوية وكتب التاريخ والكتب البلدانية، وغير ذلك من المؤلفات، حول »أصحاب الجنة« و »نار ضروان« أو »نار اليمن« أو »النار التي كان أهل اليمن يحتكمون إليها« -كمثال واحد من أمثلة كثيرة-، يجد العجب العجاب من الانطماس والدثور، ومن تناقض الاهواء، وتعدد الآراء، ومن المبالغات الاسطورية السخيفة قلبا وقالبا، وبهذا جثم على الماضي السابق للإسلام ركام من الظلام طبقات بعضها فوق بعض، فلا يلوح للناظر من خلالها إلا ومضات نادرة من الحقائق، أو على الأقل ممّا هو معقول وقابل للمناقشة المنطقية، اللهم إلا استثناء من حيث الكم والكيف، في ما وصل الى الدارسين، من مؤلفات أبي محمد الحسن بن أحمد الهمداني ومن أخذ عنه.
وبالوقوف عند بعض تفاصيل قصة »أصحاب الجنة« كمثال من أمثلة كثيرة، فإنه من الناحية التاريخية الزمنية: لا يجد الناظر في المراجع الكثيرة في مختلف المؤلفات ومجالاتها المتعددة، أي معالجة لهذه القضية حتى في المتاح من مؤلفات الهمداني، اللهم إلا قوله: »وهذه النار ظهرت في بعض قرانات مثلثات الحمل، فأقامت قراناً كاملاً _أي شهراً كاملاً-«، وهو تاريخ فلكي غير محدد، ولا مجدٍ في هذا السياق، وهذا أمر لا يستغربه الدارسون كثيراً، لأن جانب التحديد التاريخي لأحداث الماضي هو من أصعب الأمور على المناهج العلمية القديمة، ولهذا كان أقل الجوانب حظاً في كتب التراث، ولهذا السبب جاءت تلك العبارة القصيرة للقرطبي في تفسيره، والتي تقول باختصار: "وكان أصحاب هذه الجنة، بعد رفع عيسى عليه السلام بيسير" عبارةً مدهشة ومثيرة للإعجاب، وبخاصة عند من يعرف مدى توافقها مع ما هو أقرب إلى الحقيقة في هذا المجال، كما سيأتي:
وأما من ناحية نسبة »أصحاب الجنة«، فرغم تطابق أكثر المفسرين على أنهم قوم من أهل اليمن، إلا أن منهم من قال: إنهم قوم من الحبشة، ومن قال: إنهم قوم من أهل الهند، ثم أن المراجع تكاد تتطابق على أن هؤلاء القوم ليسوا في الأصل إلا رجلا واحداً كان يأخذ من خيرات جنته حاجته ويترك الباقي للناس صدقة، وبعده جاء عدد من أولاده فاستمروا على ماكان عليه أبوهم، ثم كثر أولاده وأحفاده فغيروا سنة أبيهم فكان ماكان، وهذه كلها مجرد روايات لا تتطابق مع الواقع الحقيقي لثورة بركانية واسعة في أراضٍ يعيش في أكنافها مجتمع حضري متطور.
وأما من ناحية المكان، فينطبق عليه ما قبله، فهو عند الأكثر في اليمن وعند بعضهم في الحبشة أو الهند، والجنة هي عند بعضهم وادٍ وعند الأكثر بستان، وعند كل من تمت العودة الى مؤلفاتهم كان أغلب غراسها هو النخل، مع أن المسألة تتجاوز الوادي إلى وديان وجبال وآكام ونجود وسهول، وأيضا مع أن أرض الحدث لامجال فيها للحديث عن النخيل فالمنطقة كلها تعلو على سطح البحر بألفي متر فما فوق ذلك الى ثلاثة آلاف متر عند قمم بعض جبالها، مثل جبلها المشهور »ضين«، أما اسم البلدة التي كانت الجنة من ضِياعها فإنها في معظم كتب التراث ليست »ضَرَوَان« المعروفة اليوم باسمها في هذا الحقل البركاني فلم نجد لها ذكرا عند أي مفسر بل هو محرف عند جميع من رجعنا اليهم منهم إما إلى »ضُوْران- بضاء معجمة وبتقديم الواو على الراء-« أو إلى »صوران- بالمهملة وبالتقديم أيضاً_ حتى شيخ الاسلام محمد بن علي الشوكاني لم يذكرها إلا محرفة إلى »صوران _بالمهملة-«، مع أنه لايوجد بالقرب من صنعاء أي قرية أو بلدة باسم »صوران«، وهو من أهلها، واسم »ضَرَوان« كان معروفاً فيها، وهي تقع على الطريق العظمى الذاهبة من »صنعاء« شمالاً إلى »عمران« أو إلى ما بعدها، ويمر بها كل من يخرج حاجّاً من صنعاء، ومن ينـزل بها لابد أن يلاحظ محيطها البركاني ولابد على الأرجح أن يسمع من أهلها رواياتهم التي مايزالون يروونها، عن »النار« وعن الوادي المحترق والمطمور بالحمم البركانية، والذي كان حسب كلامهم جنة من جنان الله في أرضه.
ومن تفاصيل الحدث التي اختلفت فيها الرويات في كل ما رجعنا اليه من كتب التفسير، مسألة نوع العقاب الذي حل بأصحاب الجنة، والذي عبر عنه القرآن الكريم بأسلوبه البلاغي المعجز بأنه طائف طاف عليهم ليلاً فحول جنتهم الى صريم من الأرض حالك السواد، فمعظم المفسرين يذكرون اربع روايات فيقولون أولاً بأنّه »الحرق بالنار- لايسمى البركان في العربية إلا النار ثم يميز بإضافة اسم يخصصه -« ثم يقولون انه في روايةٍ »الإيباس« وفي ثالثة »الخسف« على أن رابعها هو أغربها إذ يقولون إنه »الاقتلاع« فقد أمر الله سبحانه وتعالى _كما يقولون- الملاك جبريل عليه السلام، فطاف عليها واقتلعها بأصولها وكل ما عليها، وطاف بها على البيت الحرام سبعاً، ثم وضعها في المكان الذي تقوم فيه اليوم مدينة الطائف، ولتأكيد ذلك يقولون إن الدليل هو أنه لاتوجد في الحجاز مدينة فيها من الكروم والفواكه والزروع والمياه مثل الطائف، وليس هذا الكلام إلا ضرباً ساذجاً من التداعيات اللفظية، بين كلمات »فطاف عليهم طائف .. الآية« في القرآن الكريم، وبين اسم »الطائف« كاسم لمدينة معروفة، ولكن العلامة القرطبي الذي اورد هذه الرواية، كان متفرداً بين من رجعنا إليهم، حيث بادر الى التنصل منها، بأن قال بعدها مباشرة: "قال البكري في المعجم: سميت بالطائف لأن رجلاً من »الصدف«، بنى عليها حائطاً، وقال: لقد بنيت لكم طائفاً حول بلدكم .. الخ". وكلامه يدل على أن رأيه استقر على »الحرق«، وإيراده لرواية البكري المنطقية، كافٍ في رأيه لرد رواية »الاقتلاع« وعدم الأخذ بها.
هذا هو أهم ما جاء في كتب التفسير المرجعية، وأما السير النبوية، وكتب التاريخ المرجيعة أيضاً، فإن ما فيها ابتداءً من سيرة »ابن اسحق« فسيرة »ابن هشام« وحتى »تاريخ ابن خلدون« يدور حول »نار اليمن« أو »النار التي كان أهل اليمن يحتكمون اليها«، ولا ذكر فيها لنار »ضروان« ولا للجنة، وهي تتطابق على الحديث عن ظاهرة اسطورية ليس عليها أي دليل من خلال النقوش، أو من اخبار اليمن التاريخية الصحيحة أو القابلة للقول بها إلى أن تثبت أو تنتفى، فهم يذكرون لهذه النار عقلا وإرادة فعند الاحتكام اليها يخرج منها لسان يأكل الظالم وينجو منه المظلوم، وأضافوا اليها اسطورة من ذلك الضرب المعروف بـ »الإسرائيليات« عن كيفية اعتناق »أبي كرب أسعد« للديانة اليهودية، وكيفية اقتناع اهل اليمن بواسطة هذه النار باعتناقها، وهي قصة غير منطقية، وليس لها ما يمكن أن يؤكدها من النقوش ولا من الأخبار الصحيحة، بل إن النقوش تثبت أن اليهودية دين ظهر أولاً بين أفراد من عامة الناس، فكان يعتنقه هذا أو ذاك ممن تساموا فرأوا أن التوحيد هو قمة الفكر الديني في حركة تطوره الذاتية كفكر إنساني، أما خارج هذا النطاق، فإن أول من ظهرت عليه بوادر الديانة التوحيدية المتأثرة بالديانتين السماويتين، من ملوك اليمن هو »ملكي كرب يهأمن« والد »أبي كرب اسعد« أما هذا الأخير فكان وارثاً لهذا الفكر الديني، بل وكان يبدو كصاحب رسالة دينية توحيدية للديانات السماوية تأثيرها فيها، ولكنه كان يطمح من خلالها الى جمع شمل كل العرب تحت راية هذه الديانة التوحيدية بخصوصياتها وبجذورها العائدة إلى تاريخ الفكر الديني في اليمن، وذلك من أجل تحرير اليمن والجزيرة العربية من طوق الحصار الخانق الذي فرضته الامبراطوريتان الرومانية والفارسية على الجزيرة العربية برا وبحراً من جميع الجهات، فكانت حركة »أبي كرب اسعد« هي التمهيد الذي أراد الله أن يُعِدَّ به أبناء الجزيرة العربية للانتفاضة على هذا الحصار وتحطيم الطوق تحت راية الاسلام، وهذا موضوع طويل له مجاله، كما أن ما جاء في المصادر التاريخية حول »نار اليمن« ليس له صله قوية بالموضوع الذي نحن بصدده، وإن كان له فائدته للدارسين في غير هذا السياق.
أمَا أقرب ما ورد في كتب التراث إلى الصحة حول هذا الموضوع، فهو ما جاء في كتب البلدان والمعجمات البلدانية، وما ذلك إلا بفضل ما جاء عنه في مؤلفات الحسن بن أحمد الهمداني، التي اطّلع عليها بعض الرواد في مجال تأليف معجمات البلدان، ونخص منهم بالذكر واحداً من أوائل الرواد في هذا الميدان، وهو العالم الأندلسي عبدالله بن عبدالعزيز البكري المتوفى /487هـ صاحب »معجم ما استعجم«، والذي كان جل اعتماده فيه، عندما يتعلق الأمر بالبلدان اليمانية، على مؤلفات الهمداني، حتى لقد أحصينا له أكثر من مائة وخمسين موضعاً استشهد فيها بكلام الهمداني في ثنايا معجمه، وحتى لقد استشهد بكلام للهمداني لم نجد له فيما بين أيدينا اليوم من مؤلفاته أثراً، مما يدل دلالة لاشك فيها، على أنه اطلع على عدد من كتب الهمداني، التي لاتزال مفقودة حتى اليوم، بل إنه استشهد بنصوص من كتاب الهمداني »صفة جزيرة العرب« فجاءت عنده أكثر استكمالا وأصح عبارة مما هو بين أيدي القراء والدارسين من طبعات »الصفة« وتحقيقاتها، وهذا أمر بالغ الأهمية للدارسين وليس مجاله هنا.
ويكفي البلدانيين فضلاً، أن اسم البلدة التي سميت بها »النار«، لم تأت عندهم إلا باسمها الصحيح _ كما هو عند الهمداني وعلى ألسنة الناس الى يومنا هذا- وهو »ضَرَوان« بينما لم يأت في كل مارجعنا إليه من كتب التفسير، وفي بعض المراجع التاريخية الكبرى، إلا محرفة الى »ضوران« أو الى »صوران« - بضاد معجمة أو صاد مهملة مع تقديم الواو على الراء فيهما-.
ويكفيهم فضلاً أيضاً، أنهم لم يخوضوا فيما خاض فيه المفسرون من اختلاف الآراء وكثرة الروايات والأقوال وما فيها من الأساطير والخرافات.
أما أبو عبيد البكري، فإن له فوق ذلك فضلاً لا مزيد عليه، فهو من ناحية: أول من استشهد بكلام الهمداني حول هذه »النار«، وهو كلام وجيز مختصر، ولكنه بمثابة تقرير علمي ميداني على الطبيعة، وكل كلمة فيه بحاجة الى تأمل عميق، وشرح كامل، وكذلك كل اسم بلداني فيه، والبكري من ناحية ثانية: يقدم للدارسين البرهان العلمي على صحة ما ذكرناه قبل قليل، من أن عدداً من مؤلفي كتب التراث العربي، كانوا يرجعون الى مالم يتم العثور عليه حتى اليوم من مؤلفات أبي محمد الهمداني، فالنص الآتي بعد قليل، هو نص انفرد به البكري، ولم يرد عند أحد قبله، وأعجب من ذلك أننا اليوم لانجد له أثراً في كل ما تم طبعه وتحقيقه من كتب لسان اليمن الهمداني ولهذا نكتفي هنا بإيراده كختام لأهم ما جاء في كتب التراث العربي عن » نار ضروان« .
قال أبو عبيد البكري في كتابه »معجم ما استعجم ج/3 ص859« ما نصه كما يلي:
ضروان:- بفتح أوله وثانيه، وفتح الواو بعده، هو: الموضع الذي كانت فيه »نار اليمن« التي يعبدونها ويحتكمون اليها، فإذا اختصم الخصمان، خرج اليهما لسان، فإن ثبتا أكلت الظالم .
قال الهمداني: كان يقال لمخرج النار »حِرْبَى الخِشاب« جمع: خَشِب، وهو: ماكان من الحَزْن يأكل الحذاء، ومن هذا قيل: جبل خَشِب.
قال: وهذه النار ظهرت في بعض قرانات مثلثات الحمل، فأقامت قرانا كاملا، وبلغت حدود »شبام أقيان« ، ومن الشمال بلاد »الصَّيد« الى »ذي بين«، ثم راجعاً الى »حباشة« وأسفل »محصم« إلى »مدر« فـ »بيت الجالد« راجعا الى مكانها.
بدأ اهتمامي بهذا النقش منذ ان علمت بوجوده من خلال بعض ما يُكتب عن تاريخ اليمن القديم، ولكن علمي به آنذاك لم يتعد مجرد العلم بوجوده، فلم أحصل على محتواه كاملا ولا على نصه المسندي كما هو في مصدر نشره وهو »مدونة النقوش السامية« الفرنسية المعروفة بـ »الكوربوس« .
ولما كان الحصول على المدونة صعبا آنذاك، فقد حاولت الحصول على النقش من موقعه الأثري الأصلي، وكنت قد عرفت انه مدينة »دمهان« القديمة، أي »الحُقّة-حقة همدان-« القريبة شمال »صنعاء« فخرجت اليها عام 1970، وتعرفت على آثارها التي كانت على حال أفضل مما هي عليه اليوم، وكانت ىثار معبدها »قدمان-الذي يعد من المعابد النموذجية-« لا تزال تلاً ظاهراً ليس عليه أي بناء مستحدث، ولكني لم أجد بين انقاضه أثرا للنقش المطلوب، رغم ما لقيته من تعاون المواطنيين في البحث عنه، وشاهدت آنذاك جانبا مما خلفته البراكين من »الحِرار« السوداء الخشنة التي كونتها »ثِيُول البراكين«، ولكن من مستوى الرؤية السمتية المحدودة.
وأي زائر للمنطقة، لابد أن يلاحظ أن المنظر الشامل لما خلفته البراكين، لن يتضح الا بالنظر اليه من مكان مرتفع، ولما كان جبل »ضِين« هو أعلى جبال المنطقة، فقد خرجت اليه وتسلقته من جانبه الغربي أو الجنوبي الغربي قبل أن تُشق فيه طريقٌ للسيارات، وشاهدت من قمته جانبا واسعا من الحرات واللاَّبَاتِ التي خلفتها البراكين التي كانت ثورتها الاخيرة هي تلك الثورة المتعددة الفوهات والأماكن التي يتحدث عنها هذا النقش.
وقبل بضع سنوات، تسنى لي الحصول على مدونة »الكوربوس«، واطلعت فيها على النقش »سي/323/c« في نصه المسندي الأصلي، فوجدته للأسف ناقصا من أوله نقصا كبيرا-بمعايير النقص في هذا المجال-إذ قد يبلغ أربعة سطور على الأقل، وناقصا من آخره نقصا يسيرا ولكنه حساس لانه قضى بطمس بقية اسم الشخص الذي أرخ النقش به وطمس نسبته.
ورغم ذلك وجدت ما بقي من النقش جديرا بالنشر في دراسة خاصة، فكتبت عنه بحثا مطولا وجدت في النهاية أنه أطول من أن ينشر في مجلة أو دورية، ولهذا عدت اليه فاختصرته.
ان لهذا النقش أهميته لا من حيث نُدرة محتواه وطرافة موضوعه فحسب، بل وبدرجة أولى من حيث أهميته للدارسين المتخصصين في العلوم الطبيعية في مجالات »الجيولوجيا« و »علم تاريخ البراكين«، الى جانب ماهو معهود من أهميته للمتخصصين في الدراسات »الإبيوجرافية« في مجالات العلوم الانسانية من تاريخية وسياسية واجتماعية ودينية ولغوية، ومع ذلك فان مبلغ العلم بعد الاستقصاء بالسؤال هو أن هذا النقش لم يحظ بأية دراسة من قبل المتخصصين في »علم الدراسات اليمنية القديمة« المتعلقة بالدراسات الانسانية، أما ما يتعلق بدراسات المتخصصين في العلوم الطبيعية، فمبلغ العلم هو أن »جمعية اليمنيين« برئاسة الدكتور محمد عبد الباري القدسي المتخصص في علم تاريخ البراكين، يولون الظاهرة البركانية في اليمن اهتماما كبيرا في مختلف المناطق التي منها ما اطلقوا عليه اسم »حقل صنعاء البركاني« وهو الحقل الذي يتحدث النقش عن احدى ثوراته، وعلى كل فهذا أمر متروك لأهله من العلماء والدارسين ولهم فيما ينجزونه مجالاتهم الخاصة، ولكن هذا لا يمنع من اعادة التوكيد على ماهو معلوم، لما بين مختلف الاختصاصات العلمية من صلات وثيقة، مما يتيح للتعاون العملي فيما بينها، أن يجعل ما يتم التوصل اليه من النتائج، حقائق علمية مشتركة بين شتى الاختصاصات، وكمثال أوَّليٍّ لهذا الأمر، كان خروجنا الجماعي قبل عدة أشهر الى منطقة »الحُقّة« محققا على نحو أوَّليٍّ أيضا لشيء من هذه الغاية، فاستفدت في بحثي المطول من المعلومات التي قدمها لي الدكتور الأخ محمد عبد الباري القدسي ومن الخريطة الطبيعية التي تم اخذها بالتصوير الجوي لـ »حقل صنعاء البركاني« والتي قدمها لي الأخ الدكتور اسماعيل الجندومن الصور الفوتوغرافية التي التقطها الاستاذ عبد الكريم حسين الارياني، ومن جانب آخر فإن كل من استمع من الاخوان الى كلمة »الثَّيل« التي وردت في النقش المسندي ولا مقابل لها في المعجمات، مع شرحها ومقارنتها بكلمة »السيل« من حيث »المفهوم« و »المنطوق« ..أبدى أعجابه بها، اما الدكتور القدسي فقد عبر عن سروره بهذه المفردة اللغوية بدقَّةٍ علمية حصيفة، وبحاسة لغوية مرهفة، فقال:إن هذه هي الكلمة التي نحتاجها وكنا نبحث عنها كمصطلح من كلمة واحدة لها منطوقها المعبر المختصر، ولها مفهومها المحدد بدقة وحصرية، وسوف أجعلها مصطلحا في الدراسات اليمنية، وسأسعى إلى جعلها مصطلحا عربيا عاما، لتحل محل مفهوم لا يتم التعبير عنه، الا بجمل مثل »سيل الحمم البركانية« أو »سيل الحمم المنصهرة« .. ونحو ذلك.
وقبل ايراد النقش بصورته وحروفه المسندية، وبنصه الحرفي بالحروف العربية، ثم شرحه والتعليق عليه، لابد من التمهيد لذلك بالملاحظات التالية:-
»1« النقش »سي/323/c« من النقوش »العادية المتوسطة« والنقوش التي من هذا الصنف، يكون كلٌّ منها في الأعم الاغلب، مشتملاً على »مقدمة« و »موضوع« و »خاتمة« .
»2« المقدمات تبدو غالباً متشابهة من حيث طابعها العام، فكل مقدمة تذكر في العادة، مدوِّنَ أو مُدَوِّني النقش، وتذكر التقرب فيها الى هذا الاله أو ذاك، وتذكر نوع القربان وعدده أو مقداره.
»3« الموضوعات تتنوع، ولكنها عادة تبدأ بذكر المناسبة وهي التي أوجبت التقرب، مع الحمد للإله لخير أسداه أو لشر دفعه، أو بالتوسل اليه للمَنِّ بخير مأمول أو لدفع شر نازل أو مخوف، مع شيء قليل أو كثير من توضيح الأمر الذي هو لب النقش وصميم موضوعه، وسبب تدوينه.
»4« الخواتم تبدو أيضا متشابهة في الغالب، ففيها عودة الى الحمد أو التوسل، بدءً للْمَنِّ بكل ماهو خير ودفع كل ماهو شر، مع استمطار اللعنات واستنزال الويلات على جميع صنوف الاعداء والحاسدين والكائدين..الخ، واذا كان النقش مؤرخاً فإن تاريخه يأتي خلال هذه الخاتمة أو في نهايتها.
»5« المقدمة التي في النقش الذي نحن بصدده ذهبت كلها، فلم نعرف مدونة أو مدونية، ولكن المرجح بقوة هو أنه يعود الى »بني سميع« فهم كبار »دمهان-الحقة-«، وأكنافها- »وادعة همدان« -التابعون للاقيال »بني تبع« ؛أما التقرب فهو بلا شك الى الإله »تألب ريام بعل المعبد قدمان في المدينة دمهان« لان هذا هو اسمه الكامل في نقوشهم الأخرى، ولأنه أيضا مذكور باسمه المختصر في النقش نفسه؛واما القربان فلا مجال للتنبؤ به ويغلب على الظن أنه كان قرباناً قيماً نظراً لأهمية المناسبة.
»6« أما موضوعه، فهو موضوع واحد، يدور حول تلك الثورة البركانية، ومالها من علاقة بأراضي أو مزارع »دورم-طيبة في وادي ضهر-« وبـ »دورم المدينة« نفسها وبوادي »صرف-في بني الحارث-« ثم يتحدث عن أهم ما في الموضوع وهو ثورة البركان في جبل »ذَقَن-دقن بالدال المهملة اليوم-« ومجيئ »الثيل-سيل الحمم البركانية-« مهدداً مدينتهم »دمهان-الحقة-« بالهلاك، لولا القوة الخارقة والالطاف الصادقة لإلههم »تألب ريام«، الذي صرف عنهم ويل الثيل فواصل تدفقه بعيداً عنهم حتى وصل الى أراضي »مأذن-بني الحارث كانت جزءاً من ماذن-« .
»نص النقش بالحروف العربية«
1- .........................../ ودرم/ هـ ج ر ن/ ع م .............................
2- ص ر ف /ب رر/ ب ن/ع رن/ ذق ن م/ وهـ ن س ل/ع رورم/ م س
3- ق ت م/ ب ك ل/ أ ب رث/ ب هـ م و/جـ ز/ وأ ت و/ هـ أ/ ث ي ل ن/ ع
4- دي/ أرض/ م اذن م/ و ح م دو/ش ع ب ن/ م ق م/ت ال ب/ ب
5- ذ ت/ م ت ع/ م ح رم ت هـ م و/ و هـ ج ر هـ م و/ ب ن/هـ وت/ث ي ل
6- ن/ و ل/ وزأ/ ت أ ل ب/ م ت ع ن/ ش ع ب هـ م و/ وأرض هـ م و
7- ب ن / ن ك ي م / وب اس ت م / ول/ س ع د هـ م و/ رض ي/ أ م ر
8- أ هـ م و/ ب ن ي/ ب ت ع/ و ك ون/ هـ أ/ م ت ع ن/ م ت ع/ ب ن
9- هـ و ت/ ث ي ل ن/ ب ورخ/ ق ي ظ/ ذخ ر ف/ي س م ع إ ل/ب ن/شـ
»الشرح«
ما يُستنتَج مما مضى، وشرحاً لما بقي من النص يمكن استكمال واجمال الموضوع كمايلي:-
"إن »بني سُمِيْع« الموالين لكيان »بني بَتـَع« السياسي، قد تقربوا الى إلههم »تألب ريام بعل قدمان في مدينة دمهان« بقربان يعبر عن حمدهم وتمجيدهم لقوته الخارقة ومكانته الرفيعة التي حمتهم وانقذتهم من ثورة النار بأرضهم وأرض إخوانهم »بني ذي مأذن« فمن جبل »عُرام« - سماه النقش ما سماه-هاجم »الثّيْل« أراضي »مأذن« والحق اضراراً، أو هدد باكتساح مزارع »دَوْرَم« ومدرجاتها وهدد »... دورم المدينة _نفسها- مع..« بساتينها المروية في وادي »ضهر« _مثلا- أما في أرضهم أرض »بني سميع« فثارت النار وجاء »الثيل« قوياً عاتياً مهدداً مدينتهم »دمهان« ولكنه حاد عنها وواصل تدفقه حتى وصل الى وادي »صَرِف«، وكان هجوم هذا »الثيل« من جبل »ذقن« فدمر وطمر كل ما أمامه من المزارع والبساتين المروية في كل الأماكن الآهلة بالحياة والتي اجتازها ومر عليها، إلى أن بلغ هذا »الثيل« أراضي »بني ذي مأذن«، ولقد جهر الشعب- شعب »حُملان« و»بني سميع« أهل دمهان- بالحمد والشكر لقوة الههم »تألب« ومكانته الرفيعة لأنه نجّى وانقذ مدينتهم ومعبدهم ومحارمهم ودورهم العامرة من أخطار هذا »الثيل« ضارعين الى »تألب« ومبتهلين أن يديم إضفاء حمايته على شعبهم وعلى أراضيهم من كل شرّ ومن غدر صروف الزمان، كما يسألونه أن يَمُنَّ عليهم بنيل الحظوة والرضا عند كبارهم ذوي السلطان »بني بتع«، ولقد كان كل ما جرى، ثم ما كُتِبَ لهم من النجاة والسلامة من هذا »الثيل« بتاريخ شهر »القياظ« الكائن في سنة » يسمعئيل بن شـ...« انتهى.
|
|
|
|
|
|
|
|
|
تعليق |
إرسل الخبر |
إطبع الخبر |
معجب بهذا الخبر |
انشر في فيسبوك |
انشر في تويتر |
|
|
|
|