د.علي العثربي -
أزلية الحوار في الفكر السياسي اليمني: لقد كانت عملية الحوار الفكري في اليمن أزلية مارسها اليمنيون في مختلف مراحل حياتهم، بل إنها سمة من سمات ديننا الاسلامي على اعتبار أن رأي الجماعة أكثر صواباً، لقول الرسول الكريم «صلى الله عليه وسلم» «ما اجتمعت أمتي على ضلالة»، بل إن اليمنيين عبر مراحل التاريخ أصحاب حضارة قامت على الحوار والمنطق، ولم تعتمد على حد السيف، وهنا نشير الى حدثين مهمين في الحياة السياسية لليمن قبل الاسلام وبعده فالحدث الأول تمثل في أول حوار بدأه أول سفير في السلك الدبلوماسي «الهدهد» الذي نقل خبراً من دولة سبأ الى نبي الله سليمان عليه السلام عندما قال الله تعالى على لسان الهدهد: «وجئتك من سبأ بنبأ يقين، إني وجدت امرأة تملكهم وأُوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم».. ولأن الحوار أساس الحياة فقد قال الله تعالى على لسان نبيه سليمان: «قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون»،
فقام الهدهد بنقل رسالة نبي الله سليمان عليه السلام التي كان نصها كما يلي: «إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين».. وألقاها على قوم سبأ في قصر الحكم، حيث الملكة التي كانت تملكهم وما أن تسلمت الملكة الرسالة حتى أعلنت الدعوة لاجتماع أهل الحل والعقد ومجالس الولايات والأقاليم وحكام المحافظات والقيادات العسكرية والخبراء ورجال الدين وكافة مستشاريها، وعرضت عليهم الأمر حيث قال تعالى: «قالت يا أيها الملأ إنى أُلقي إليّ كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين».. وبعد نقاش للآراء التي تفاعلت بين الملأ والملكة بروح المسئولية ومنطق الحكمة، اذ يظهر أن الملأ قد طرحوا على الملكة موضوع الحرب، ورفض الرسالة، إلاّ أن الملكة المتصفة بالهدوء والعقلانية والحكمة حاورت الملأ وقد قال الله عز وجل على لسانها: «قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون، قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين» ومن هنا يتضح أن الملكة قد رفضت منطق القوة وفضلت منطق الحكمة وسلكت طريق الحوار وسعت الى اقناع الملأ بأسلوب الحوار وعدم التعجل في اتخاذ القرار، وذكرت قومها باطماع الملوك وهي السيطرة والتسلط واخضاع الآخرين، غير أن فحوى الرسالة ومصدر إلقائها عليها لم يكن عادياً ولا بأسلوب الملوك المتعارف عليه في زمانها: «قالت إن الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون» وقالت بدلاً من الحرب والتسرع في اتخاذ القرار لابد من الحكمة والحوار، واستقر الرأي أن ترسل بهدية فاخرة الى سليمان، فإن كان ملكاً دنيوياً متسلطاً فسيقبل الهدية ولن يقنع إلاّ باحتلال اليمن حيث قال تعالى على لسان الملكة «وإني مرسلة اليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون» ولم يأتِ رفض من الملأ لأنهم أعدوا العدة وفوضوا الملكة باتخاذ القرار وما إن وصل المرسلون بهديتهم الى نبي الله سليمان عليه السلام حتى قال: «فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما أتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع اليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون».. وكانت نتيجة الحوار إدراك الملكة أن الصراع مع الرسالة السماوية غير مجدٍ على الاطلاق فأعلنت ايمانها وقومها وذهبت لإجراء أول قمة بين شمال الجزيرة وجنوبها قبل الاسلام وحققت السلام بأسلوب الحوار.
وهنا يأتي التأكيد على أن الحوار الوطني لم يكن وليد لحظة زمنية معينة، بل كان ومازال منهج حياة الشعوب والأمم، واليمن عبر التاريخ الطويل التزمت منهج الحوار وتمكنت من صنع الحضارة الانسانية منذ آلاف السنين، ولم تصل اليمن في المرحلة الأخيرة من تطورها السياسي الحديث الى اعادة وحدة الوطن اليمني الواحد إلاّ بالحوار، ولم يتحقق الأمن والاستقرار إلاّ بالحوار الذي مر بالعديد من المراحل ابتداءً من مرحلة تشكيل لجنة الحوار الوطني وصولاً الى مرحلة انعقاد المؤتمر العام الأول للمؤتمر الشعبي العام، حيث شهد في كل مرة توسيع قاعدة المشاركة السياسية والتعددية الحزبية بشكل أكثر فاعلية بهدف الوصول الى رضا وقبول الناس، بما سيتم الاتفاق عليه من مبادئ وأهداف تشكل عقداً اجتماعياً يصون الحريات العامة ويقبل بحق المشاركة الشعبية الواسعة في صنع القرار السياسي ويحدد معالم المستقبل ويرسي تقاليد الحوار الوطني، بعيداً عن الهيمنة والتسلط والاملاء من قبل فرد أو جماعة أو فئة أو طائفة، ولذلك مر الحوار الوطني في اليمن بمراحة عدة سنتناولها في العدد القادم بإذن الله.